قطع الرؤوس

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 7
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أيتالو كالفينو

ترجمة عبير الفقي

1

لابد أنني كنت قد وصلت إلى العاصمة قبل يوم من المهرجان. فقد كانوا يبنون منصات في الساحات، ويعلقون الأعلام، والشرائط، وسعف النخيل. وكان ثمة طرق في كل مكان.

“هل هذا هو المهرجان الوطني؟” سألت الرجل وراء البار في الحانة.

أشار إلى صف من الصور وراءه. “إنهم رؤساء دولنا، قال. “إنه مهرجان رؤساء الدول، القادة”.

اعتقدتُ أنه احتفال بتقديم لحكومة جديدة منتخبة  “حكومة جديدة؟ ” سألت.

وسط ضجيج المطارق، ومكبرات الصوت التي يجري اختبارها، وصرير رافعات المنصات، اضطررت إلى الحديث باختصار حتى أفهم، كنت أصرخ تقريبا.

هز الرجل الذي وراء البار رأسه: ليست جديدة،  لقد كانوا هنا منذ بعض الوقت.

سألت: “أهي الذكرى السنوية لمجيئهم إلى السلطة؟ “

“شيء من هذا القبيل،” أوضح الزبون الذي يجلس بجانبي. “يأتي المهرجان بشكل دوري و هذا دورهم”.

“دورهم لأي شيء؟”

“للذهاب على المنصة”.

“أية منصة؟ لقد رأيت الكثير من المنصات، هناك واحدة في كل زاوية شارع”.

“كلُ لديه منصته الخاصة به. لدينا الكثير من القادة”.

‘وماذا يفعلون؟ يتحدثون؟’

” لا، يتحدثون، لا”.

“يذهبون فوق المنصة، ثم ماذا بعد ذلك؟”.

“ماذا تعتقد أنهم يفعلون؟ ينتظرون قليلًا، حتى يجري الانتهاء من إعداد الأشياء، ثم تنتهي المراسم في بضع دقائق.

‘وأنتم؟’

“نحن؟.. نشاهد”.

كان هناك الكثير من الحركة في الحانة. النجارون والعمال يفرغون الأشياء من الشاحنات لتزيين المنصات – فؤوس، وكتل أحجار، و سلال – توقفوا كلهم ليحصلوا على أقداح البيرة. كلما سألت أحدهم سؤالا كان دائما ما يجيبني شخص آخر.

“إنه نوع من إعادة الانتخاب إذا؟ للتأكيد على وظائفهم؟

 – يمكنك قول ذلك.

–  تفويضهم؟ “

“لا، لا،”  قام أحدهم بتصحيح ماقلت.

 “أنت لا تفهم؟ إنها النهاية. لقد انتهى وقتهم”.

‘وحينئذ؟’

” يتوقفون عن كونهم رؤساء، إلى هناك: ثم يسقطون “.

“لماذا إذا يذهبون فوق المنصات؟”

“على المنصات يمكنك أن ترى أفضل كيف يسقط الرأس، و كيف يقفز، والقطع النظيف، ثم كيف ينتهي في سلة”.

كنت قد بدأت أفهم،، ولكن لم أكن متأكدا تماما. تقصد، رؤوس الرؤساء،؟ القادة؟ في سلال؟ “

أومأَوا. ‘صحيح. قطع الرأس. هذا هو. قطع رؤوس الرؤساء”.

كنت قد وصلت للتو، ولم أكن أعرف أي شيء عن ذلك الأمر، و لم أكن قد قرأت أي شيء في الصحف.

“هكذا، غدا، فجأة؟”

“عندما يأتي اليوم فهو يأتي،” قالوا. “هذه المرة يقع  اليوم في منتصف الأسبوع. لذا هناك عطلة. كل شيء مغلق.”

أضاف رجلُ كهل، بطريقة الوعاظ: “عندما تنضج الفاكهة نحصدها، والرأس نقطعها. لن تترك الثمرة تتعفن فوق الغصن، أليس كذلك؟

كان النجارون يقومون بأعمالهم: فوق بعض المنصات التي يبنون لها سقالات ليضعوا المقاصل الكئيبة؛ وعلى الأخريات كانوا يضعون كتلا حجرية للاستخدام مع الفؤوس وبجانبها وسائد مريحة (كان أحد المساعدين يختبر التجهيزات عن طريق وضع رأسه على الكتلة للتأكد أن الارتفاع مناسبا). في أماكن أخرى كان الناس يضعون أشياء تبدو كطاولات الجزارين، بها قنوات للدم، ليجري فيها، وقماش مشمع يمتد على لوحات المنصة، وكان ثمة إسفنجات موجودة بالفعل لتنظيف أي بقع. لقد كان الجميع يعمل بحماس. كان يمكنك سماع الضحكات والصفير.

“إذا أنت سعيد؟ هل كرهتهم هل كانوا قادة سيئين؟”

“لا، ما الذي أعطاك هذه الفكرة؟” ثم تبادلوا نظرات الدهشة. ‘كانوا جيدين. أو بالأحرى، ليسوا أفضل ولا أسوأ من أي شخص آخر. حسنا، أنت تعرف كيف يكونوا: رؤساء الدول، القادة، القادة العسكريين… ليتمكنوا من الحصول على واحدة من تلك الوظائف…”.

“ومع ذلك، قال واحد منهم،” لقد أحببت هذا الامر كثيرا”

‘أنا أيضًا. وأنا”، وافق آخرون. “لم يكن لدي أي شيء ضدهم أبدا”.

“إذا ألست حزينا أنهم يقتلونهم؟” قلت.

‘ما الذي تستطيع القيام به؟ إذا وافق شخص ما على أن يكون زعيمًا فهو يعرف كيف سينتهي به الأمر. إنه بالكاد يتوقع أن يموت في سريره!

ضحك الآخرون. “سيكون هذا شيئا جيدا! أن يحكم الشخص، ويأمر، ثم، وكأن شيئا لم يحدث، يتوقف ثم يعود إلى البيت”.

قال شخص ما: “الجميع يريد أن يكون قائدا، حتى أنا، سأرغب في ذلك، ومع ذلك ها أنا ذا هنا!

“أنا أيضا، وأنا أيضا،” قال الكثير منهم وهم يضحكون.

“حسنا أنا لا أريد، قال رجل واحد يرتدي النظارات. ” ليس بهذه الشروط. ما الهدف؟’

‘صحيح. لن يكون هناك أي فائدة في أن تكون رئيسا بهذه الشروط، وافق العديد منهم على ذلك.

“إنه شيء أن تقوم بوظيفة مثل هذه عندما تعرف ما تتوقع، وشيء أخر… ولكن كيف يمكنك أن تفعلها خلاف ذلك؟ “

قال الرجل الذي يرتدي النظارات موضحًا، و الذي لابد أن يكون من أفضل المتعلمين بينهم: “إن السلطة على الآخرين لا تتجزأ عن حق هؤلاء الآخرين في أن يجعلوك تصعد فوق السقالة ويرسلونك إلى هناك يوما ما في المستقبل القريب… ما هي السلطة التي يملكها القائد بدون أن تكون هالة هذا المصير تحيط به، إذا لم نتمكن من أن نقرأ في عينيه إحساسه بنهايته في كل ثانية من ولايته؟ إن المؤسسات المدنية تعتمد على هذا الجانب المزدوج من السلطة؛ ولم تستخدم أي حضارة أي نظام آخر”.

” ومع ذلك؛ قمت بالاعتراض قائلاً: “يمكنني اقتباس بعض الحالات لك”..

“ما أعني: حضارة حقيقية”، أصر الرجل صاحب النظارات،

 “أنا لا أتحدث عن فترات الحكم البربرية، مهما طال أمدها في تاريخ الشعوب”.

كان العجوز الواعظ، الذي  قد تحدث عن الفاكهة فوق الأغصان، يغمغم بشيء لنفسه. ثم هتف: “تبقى الرأس طويلا طالما كانت ملتصقة بالعنق”.

‘ماذا تعني؟’ سأل الآخرون.

 “هل تقصد أنه على سبيل المثال إذا تجاوز زعيم شروطه، و فقط، جدلا، لم تقطع رأسه، هل سوف يبقى في الحكم، طوال حياته؟

“هذه هي الطريقة التي اعتادت أن تكون عليها الأشياء” وافق الرجل العجوز

” كان ذلك في تلك الأوقات قبل أن يكون واضحا لمن أختار أن يكون قائدا إنه أختار أن تقطع رأسه في المستقبل غير البعيد. هؤلاء الذين امتلكوا السلطة تمسكوا بذلك”.

كان يمكنني أن اقاطع الحديث عند تلك النقطة، مقتبسًا بعض الأمثلة، ولكن لا أحد كان سيستمع إلي.

‘حسنا؟ ماذا فعل الناس؟” سألوا العجوز.

“كان عليهم أن يقطعوا رؤوسهم عن كثب، بقوة غاشمة، ضد رغباتهم! ليس في هذه الايام المعنية، ولكن فقط عندما كان الناس لا يمكنهم الاحتمال أكثر من ذلك. هذا ما كان يحدث قبل تنظيم الأمور و قبل قبول الزعماء.. “.

“أوه، كنا نود فقط لو نراهم يحاولون الرفض!” قال الآخرون. “أوه نود أن نرى ذلك!”

“إنها ليست الطريقة التي تعتقدها،” تدخل الرجل صاحب النظارات مقاطعا”.

ليس صحيحا أن الزعماء يجبرون على قبول الإعدام. اذا قلت ذلك ستضيع المعنى الحقيقي لقوانيننا، العلاقة الحقيقية التي تربط قادتنا ببقية الشعب.

فقط رؤساء الدول يمكن قطع رؤسهم، وبالتالي لا يمكنك أن ترغب في أن تكون رئيسا دون أن ترغب أيضا في القطع.

أولئك الذين يشعرون أن لديهم ماتتطلبه هذه المهنة يمكن أن يصبحوا رؤساء دول، فقط أولئك الذين يشعرون بالفعل أن رؤسهم قطعت  بالفعل لحظة اتخاذهم منصبا له سلطة “.

شيئا فشيئا قل عدد الزبائن في البار، كان الجميع يعود إلى عمله. أدركت أن الرجل ذا النظارات كان يتحدث معي حصريا.

“تلك هي السلطة،” و استمر، “هذا الانتظار من أجل النهاية. كل السلطة التي يمتلكها واحد ليست اكثر من إشعار مسبق لهسيس النصل في الهواء، وهو ينزل قاطعًا ماهو أسفل إلى قطع نظيفة، كل التصفيق الذي تحصل عليه ليس أكثر من بداية لهذا التصفيق الأخير الذي يرحب برأسك بينما يدور أسفل سطح المشمع فوق المنصة الخشبية”.

ثم خلع نظاراته لتنظيفها بمنديله، فأدركت أن عينيه كانتا مليئتين بالدموع. ثم دفع ثمن البيرة ورحل.

مال الرجل خلف البار على أذني. وقال “إنه واحد منهم،”، ‘انظر’ ثم سحب كومة من صور الملصقات من تحت البار. “غدا يجب أن آخذ تلك الصور ثم ألصق هذه”.

أظهرت الصورة الأولى الرجل ذا النظارات، كانت صورة قبيحة مكبرة من جواز سفر.

“لقد تم انتخابه بدلا من هؤلاء الذين في طريقهم للخروج. غدا سوف يخلفهم. لقد حان دوره، الآن. إذا سألتني سأقول لك إنه ليس من الصحيح أن أخبره في اليوم السابق لتنصيبه. هل سمعت الطريقة التي كان يتحدث عنها؟ غدا سوف يراقب عمليات الإعدام كما لو أنها بالفعل عملية إعدامه. إنهم جميعا هكذا في الأيام الأولى. يشعرون بالضيق، يتحمسون،، يعظمون الأمر.

إنها ‘مهنة ‘: يالها من كلمات رنانة تجيء معها!

‘وبعد ذلك؟’

” سوف يعتاد عليها، مثل أي شخص آخر.

إن لديهم الكثير للقيام به، ولا يفكرون في هذا بعد الآن، حتى يأتي يومهم، و حينها: من يستطيع أن يرى مافي ذهن القاده.

إنهم يعطون الانطباع بأنهم لا يفكرون في الأمر.

هل ترغب في بيرة أخرى؟

 

2

لقد غير التلفزيون الكثير من الأشياء. بمجرد أن تكون السلطة متحكم بها، تلهث الشخصيات البعيدة على منصة، أو  تظهر في صور تفتعل  تعابير الافتخار المعتادة، وبالكاد  تكون رموز السلطة مرتبطة بأي فرد من لحم والدم.  الآن، مع التلفزيون، فإن الوجود المادي للسياسيين شيء فوري ومألوف بالنسبة لنا.  وجوههم، تنفجر على الشاشة، وتزور منازل المواطنين الخاصة كل يوم،  وهم يغرقون بهدوء في مقاعدهم في أوقات الفراغ، و يمكن للجميع ان يتفحص أدنى حركة  للأشخاص المعنيين، كأرتعاشة جفونهم المنزعجة تحت الأضواء،  وترطيب الشفاه بعصبية  بين كلمة وأخرى…  على وجه الخصوص في مواجهات الموت،  هذا الوجه، المعروف جيداً من اللقطات المقربة في المناسبات  أو الخطب  الرسمية والاحتفالية، يخون نفسه تماما:  في تلك اللحظة أكثر من أي لحظة أخرى يشعر فيها  المواطن البسيط  أن زعيمه ملكا له،  إنه شيء من شأنه أن ينتمي  له دائما. ولكن حتى قبل ذلك، في كل الأشهر السابقة، في كل مرة كان يرى فيها  المواطن الزعيم يظهر على الشاشة الصغيرة،  وهو يتفاخر  بالحديث عن واجباته –  وافتتاحه لمشروع  بناء ما على سبيل المثال أو تعليق ميداليات ثمينة على صدورهم، أو  حتى  حين  ينزل سلالم  الطائرات ملوحًا  بيد مفتوحة –  فقد كان يبحث بالفعل في ذلك الوجه عما اذا كان به تشنجات مؤلمة، في محاولة منه  لتصور التشنجات التي تسبق  نوبة الموت، يخمن من  إلقاء خطبه وأنخابه  كيف  سيبدو صوته ممتزجا بحشرجة الموت. هكذا يرتقي الرجل العام فوق الحشد:  فهو الرجل الذي سوف يكون موته عامًا، الرجل الذي من المؤكد أننا سوف نكون معا هناك من أجله، وهذا هو السبب في أنه طالما  يعيش سوف يتمتع باهتمامنا، هذا الإهتمام الإستباقي.

لم يعد بإمكاننا أن نتصور ما كان عليه الحال في الماضي، في  تلك الأوقات التي مات فيها الرجال العموميين  في خصوصية:  إننا نضحك اليوم عندما نسمع أنهم وصفوا بعض إجراءاتهم السابقة بأنها ديمقراطية؛ بالنسبة لنا لا يمكن أن تبدأ الديمقراطية إلا بعد أن نتأكد من أنه في اليوم الموعود سوف تحيط كاميرات التليفزيون بمراسم موت طبقاتنا الحاكمة حتى آخر رجل، وبعد ذلك، كخاتمة لنفس البرنامج (على الرغم من أن العديد سوف يتركون مقاعدهم عند هذه النقطة)،  تُنصب الوجوه الجديدة التي ستحكم (وتعيش) لفترة مماثلة.

 أننا نعلم إنه في أوقات أخرى مثلما هو الحال اليوم، كانت آليات السلطة تقوم على عمليات القتل، على الذبح سواء البطيء أو المفاجئ، ولكن جانب من الاستثناءات النادرة، كان الضحايا  آنذاك  أشخاصاً مجهولين،  مرؤوسين يصعب تحديدهم؛ و في أغلب الأحيان لم  يكن يتم الإبلاغ عن تلك المذابح، وكان يتم تجاهلها رسميا، أو إعطاء مبررات خادعة.

الآن فقط  وضع تعريفا لذلك الوصف  وهو ااإحتلال،  إن هذا التوحيد لأدوار المعذب والضحية،  بالتناوب المستمر،  أتاح لنا إخماد آخر وميض من الكراهية والشفقة في أذهاننا.  إن ملايين من المشاهدين يراقبون الصور المقربة  لتثاؤب فم مفتوح،  وخفقان شريان سباتي أسفل ياقة  قميص صلبة،  ويد مرتفعة تقبض أو تمزق صدرا يتألق بالميداليات، ملايين من المشاهدين الذين يلاحظون بهدوء حركة الأجساد المقدسة في دوراتها المتكررة، و بمشاهدة كل هذا، وجدنا أنه كلما كان الأمر مطمئنا كلما كان غريباً.

3

أنت لا تريد أن تقتلنا بالفعل، أليس كذلك؟

نطق فيرجيليج أوسيبوفيتش هذه الكلمات بارتجافة طفيفة في صوته تناقض النبرة البيروقراطية التي غالبا ما تكون قاسية وجدلية في النقاش حتى الآن، وبالتالي كسرت التوتر في إجتماع حركة “فوليا أي رافيو برافيVolja i Raviopravie “.

كان فيرجيليج أصغر عضو في اللجنة التنفيذية؛ لديه شعر خفيف أسفل شفة بارزة. وخصلات من الشعر الأشقر تسقط على عينيه الرماديتين ذات الشكل المستطيل. لم ترتجف مفاصل يده الحمراء تلك التي يظهر معصماها دائما من  أسفل أكمام قميصه القصيرة جدا عندما كانوا يضعون القنبلة أسفل عربة القيصر. استولى نشطاء القاعدة الشعبية على جميع الأماكن القريبة، وغرفة  التدخين في الطابق السفلي: كان معظمهم يجلسون على مقاعد خشبية من جذوع الاشجار، والبعض الآخر افترش الأرض، ووقف البعض على قدميه مستندا إلى الجدار، مكتوف الأيدي.

جلست اللجنة التنفيذية في الوسط، وثمانية من الفتيان منكبين على الطاولة المحملة بالأوراق، مثل مجموعة من الطلاب الذين يقومون بالمراجعة النهائية قبل امتحانات الصيف. وبسبب المقاطعات المتكررة التي كان النشطاء يطلقونها عليهم من جميع أرجاء الغرفة كان الأربعة، يجيبون دون التفات أو رفع رؤوسهم. وفي كل مرة تلوح في الأفق موجة من الإحتجاج أو الإتفاق خلال الاجتماع – كان الكثيرين  منهم ينهضون ثم يندفعوا إلى الامام—- بدا الأمر كانهم يتحركون عبر الجدران إلى الطاولة،  ليرتفعوا فوق ظهور اللجنة التنفيذية.

كان ليبوريج سيرابيونوفيتش، السكرتير الملتحي، قد أعلن بالفعل، وفي مناسبات عدة، مبدأ  ثابتا يلجأ إليه غالبا لتخفيف الخلافات التي لا يمكن التوفيق فيها: “حيثما يتعاون الرفيق مع الرفيق، ثمة عدو ينضم إلى العدو”، وردا على ذلك،  قال المجلس في صوت واحد: تبقى الرأس فوق الرأس بعد النصر، منتصرًا و مكرما بعد يوم سقوطه ‘-  كان هذا طقسا تحذيريًا حيث لم ينس نشطاء حركة  “فولجا أي رافيوبرافي”  أبدا أن يواجهوا  قادتهم كلما تحدثوا إليهم، و كان القادة أنفسهم يرددون القسم  لبعضهم البعض كشكل من أشكال التحية.

كانت الحركة تكافح من أجل أن تنشأ، على أنقاض الاستبداد ومجلس الدوما،  وخلق مجتمع مساواة يتم فيه تنظيم السلطة من خلال الإعدام الدوري للرؤساء المنتخبين. وكانت الحركة قد سنت قواعد صارمه، وكلما كان ذلك ضروريا  صّعدت الشرطة الإمبريالية قمعها،  وطالبت بأن يطيع جميع النشطاء قرارات اللجنة التنفيذية دون جدال؛ وفي الوقت نفسه كان كل نص يحدد عقيدة  الحركة ليذّكر القادة بأنهم لا يجوز لهم  ممارسة أي سلطة إلا من خلال  أولئك الذين  تخلوا  بالفعل عن تمتعهم  بامتيازات السلطة والذين من كل النواحي لم يعودوا يعتبرون من بين الاحياء.

لم يفكر قادة  المنظمة الشباب  أبدا في مصير  مستقبل  مثالي لا يزال  قائما بالنسبة لهم: في الوقت الراهن كان القمع القيصري للأسف  يضمن معدل  تناقص أعدادهم  أسرع من أي وقت مضى؛ كان خطر الاعتقال والإعدام حقيقيا جدا وفوريا بالنسبة لمستقبل عقيدة الحركة كي تتشكل في مخيلتهم.  لقد كانت السخرية الشبابية،  والسلوك المزر  يقمعان في أذهانهم ما كان عنصرا مميزا في عقيدتهم.

 لقد عرف نشطاء القاعدة الشعبية كل هذا، وكما كانوا يتقاسمون المخاطر والمصاعب التي يواجهها أعضاء اللجنة، كانوا  أيضا يفهمون أنفسهم؛ ومع ذلك فقد  بقي في أذهانهم وعيا غامضا بمصيرهم كجلادين، مصير يجب تحقيقه ليس فقط على حساب الوضع الراهن، بل أيضا على حساب  الحكومة المستقبلية، ولعدم  قدرتهم على التعبير عن أنفسهم بأي طريقة أخرى،  كانوا يتخذون موقفا قاسيا، وهو ما كان يعبر عنه دائما في الاجتماعات الرسمية،  بغض النظر، عن ثقله كتهديد لقادتهم.

“طالما كان العدو أمامنا هو القيصر، قال فيرجيليدج أوسيبوفيتش: “سيكون  الرجل الذي يسعى إلى  رفقة القيصر أحمق “. و ربما  كان الوقت غير مناسب لهذا القول،  فقد استقبل  بالتأكيد بصخب شديد من قبل المجلس.

شعر  فيرجيليدج بيد تجذب يده؛  كانت إفجنيجا إفرايموفنا، تجلس على الأرض أسفل  قدميه وركبتاها مطويتين أسفل تنورتها، وشعرها معقود على رقبتها يتدلى على جانبي وجهها مثل لوالب بنية ملفوفة. وجدت إحدى يدي إيفجنيجا طريقها لأعلى حذاء فيرجليدج لتلتقي مع أصابع الشاب التي أغُلقت في هيئة قبضة،  لمست يدها  الجزء الخلفي من تلك القبضة، كما لو كانت  تواسيه، ثم غرزت  فيها أظفار حادة  ببطء حتى نزفت منها الدماء، أدرك فيرجيليدج أن ثمة عزم دقيق وعنيد يقود أرضية الاجتماع في  ذلك اليوم، كان  أمرا متعلقا بهم، القادة، شخصيا، والذي كان سيكشف عنه عما قريب.

“دعونا لا ننسى أبدا أيها الرفاق”.  قال إجناتيج أبولونوفيتش، أقدم عضو في اللجنة وصاحب سُمعة  كونه صانع سلام، محاولا تهدئة المياه قائلا،  “ما لا يجب أن ننساه… في أية مناسبة، هو حقكم الوحيد في تذكيرنا من وقت لآخر… على الرغم من “، وأضاف،  مداعبا ذقنه:

“أنه عندما يتعلق الأمر بتذكيرنا،  فإن كونت جاليتزين وحوافر خيوله هم  فقط الموثوق بهم.. “. وكان يلمح إلى قائد الحرس الامبراطوري الذي مزق مؤخرا أحدى مسيرات الاحتجاج إلى قطع  فوق جسر مانيجيو بحملته المكونة من سلاح الفرسان.

صوت، لم يكن واضحا من أين يأتي،  قاطعه قائلا: “والمثالية!” فقد إجناتيج أبولونوفيتش تركيزه  ثم تساءل مرتبكا. ‘لماذا هذه؟’.

“هل تعتقد أننا بحاجة لأكثر من الحفاظ على كلمات عقيدتنا العليا في عقولنا؟” قال زميل طويل القامة يقف  في آخر جزء من الغرفة، وهو الرجل الذي صنع لنفسه اسما كواحد من أكثر المناضلين الملتحقين مؤخراً.

  “هل تعرفون لماذا لا يمكن الخلط بين عقيدتنا وبين عقائد الحركات الأخرى؟”

“بالطبع نحن نعرف. لأنها المذهب الوحيد الذي بمجرد أن يحقق السلطة لا يمكن أن تفسده السلطة!

تذمرت  رأس حليقة منكبة على الأوراق، وكان ذلك فيمجا،  ذلك هو الذي يسميه الأخرون “الأيدلوجية‘.

“لماذا الانتظار إذا حتى اليوم الذي نمتلك فيه السلطة، رفاقي الأعزاء”. أصر الشخص الهزيل قائلا: “لنضعه موضع التنفيذ؟ “

‘هنا والآن!’ ارتفعت صيحات من أجزاء مختلفة في الغرفة.

قامت الأخوات ماريانزيف،  المعروفات باسم “المارياس الثلاثة” نهضن من بين المقاعد، وهن يصحن  “عفوا! عفوا!’ يصعدن فوق الطاولة ويمسكن بشعورهن الطويلة ويسحبنها  فوق الأشياء الموضوعه عليها. يضعن مفرش المائدة على أذرعهن، ويتمتمن لأنفسهن وهن يدفعن الأولاد جانبًا،  كما لو كن يجهزن طاولة لتناول وجبة خفيفة على شرفة منزلهن في إزمايلوفو.

“ما هو مختلف في عقيدتنا هو هذا”  استمر الرجل الطويل الهزيل في خطبته، “إن الطريقة الوحيدة لكتابتها تكون بشفرة حادة على أجساد قادتنا المحبوبين!”

كان ثمة تجمهر من الناس وكانت المقاعد تتحرك لأن الكثيرين ممن في الاجتماع وقفوا ثم تسارعوا إلى الأمام. كان  معظم أولئك الذين اندفعوا وصاحوا من  النساء: “اجلسوا، أيها الصبية الصغار! نريد أن نرى!  بحق الله،  يا لكم من متهورين! لا يمكننا أن نرى أي شيء على الإطلاق هنا!” ثم كن يدفعن بين ظهور الرجال وجوههن التي كانت كوجوه ناظرات المدارس، بشعورهن القصيرة تحت قبعاتهن التي يمكن أن يتخلل عبرها الهواء.

شيء واحد فقط كان يمكن أن يهز شجاعة فيرجيليدج، وهو عداء الإناث، حتى أدنى إشارة منه. كان قد نهض، وهو يمتص الدم من الخدوش التي أحدثتها  إفجنيجا على ظهر يده، ثم بالكاد نطق هذه الكلمات: “أنت لا تريد أن تقتلنا بالفعل، أليس كذلك؟ ” عندما فتح الباب ودخل  موكب من الناس يرتدون المعاطف البيضاء يدفعون عربات محملة  بأدوات جراحية لامعة. منذ تلك اللحظة تغير شيء في جو الإجتماع.

كانت ثمة أصوات حادة متكررة، تقسوا الواحدة على  الأخرى. ‘بالطبع لا… من الذي قال شيئا عن قتلكم؟… أنتم قادتنا… مع كم محبتنا لكم وكل شيء… ماذا كنا سنفعل بدونكم؟… لا يزال هناك طريق طويلة لنقطعها… سنكون دائما هنا بجانبكم.. “

وكان الزميل الرفيع والفتيات اللواتي سبق لهن أن شكلن المعارضة قبل بضع لحظات، يتدافعن الآن فوق بعضهم لتشجيع القادة، في طمأنة، ونغمات دفاعية تقريبا.

 “إنه شيء صغير، هام، نعم، ولكنه ليس جادا في حد ذاته، لا لا لا، مؤلم بعض الشيء، بالتأكيد، ولكن فقط حتى نتمكن من رؤيتكم كقادة حقيقيين، قادتنا المحبوبين، إنه بتر، وهذا هو كل شيء، عندما يحدث يكون قد انتهى قبل أن يبدأ،  قليل من البتر كل حين،  لن تغضبوا من حدوث مثل هذا الشيء الصغير، إنه ما يميز قادة حركتنا، ماذا سيميزهم  لو لم يكن ذلك؟ “

  بالفعل تجمد أعضاء اللجنة التنفيذية بسبب نتيجة عشرات الأذرع القوية. كان قد وضع على الطاولة  شاش، وأوعية بها  قطن، وسكاكين مسننة. كانت رائحة الأثير  تملأ الغرفة.  جهزت  الفتيات الأمور بسرعة وبعناية، وكأنهن كن جميعا يتدربن على تلك المهام منذ  فترة.

“سوف يشرح الطبيب  لكم الآن كل شيء بشكل صحيح. هيا، توليجا!

أناتول سبيريديونوفيتش،  الذي بدأ درجته الطبية ولم ينهها أبدا، صعد إلى الأمام  وهو ممسك بقفاز يدين من المطاط الأحمر فوق معدة تعاني بالفعل من السمنة المفرطة.

 لقد كان  توليجا شخصية غريبة،  وكي يتمكن من اخفاء خجله كان يضع على وجه ابتسامة هزلية طفولية، ملقيا بالنكات الغريبة.

‘ اليد… آه،  اليد الصغيرة…  اليد  هي عضو  قادر على الإمساك… نعم نعم، مفيدة جداً… و هذا هو السبب  أن لدينا إثنتين منها… و الأصابع، كقاعدة عامة، لدينا عشرة… كل إصبع يتكون من ثلاثة عُقل من العظام، أو المجموعات… أو على الأقل هذا ما يسمى في جزءنا هذا من العالم… العقلة، العقلة الوسطى، العقلة الطرفية.. “

‘توقف عن ذلك. أنك تثير أعصابنا! ماذا تريد أن تفعل، تعطينا محاضرة! الناس يتذمرون.

(في النهاية لا أحد كان يحب هذا الشخص توليجا.)’ دعنا ننتهي من العمل الحقيقي! هيا! دعنا نركز فيه!’

كان أول شخص أحضروه هو  فيرجيليدج. عندما أدرك أنهم كانوا سيبترون العقلة الأولى من اصبعه، استعاد هدوء أعصابه وتحمل الألم بفخر يستحق سمعته.  ولكن البعض الآخر صرخ؛  لقد استغرق الأمر عدة أشخاص ليمسكوا به؛ ولحسن الحظ عاجلا أم آجلا كان يفقد معظمهم  الوعي.

كان يتم بترا جزءً مختلف لمعظم الناس، ولكن عمومًا لم يكن البتر لأكثر من جزئين لمعظم القادة المهمين (فقد كان سيتم قطع الأجزاء الأخرى فيما بعد ؛ كان على الواحد أن يتذكر أن الكثير من هذه الاحتفالات ستتم على مر السنوات التالية). كان فقدان الدماء أكبر مما كان متوقعًا؛ لكن الفتيات مسحنه بعناية.

وضعت فوق مفرش الطاولة الأصابع المبتورة التي بدت كأسماك صغيرة مثقوبة الحلوق بسنارة صيد وملقاة على  الضفة. وسريعًا ما جفت وتحولت للون الأسود، ثم بعد مناقشة وجيزة  حول ما إذا كان ينبغي    حفظها ووضعها في فتارين للعرض تم رميها في سلة المهملات.

لقد أتى نظام تهذيب القادة بنتائج ممتازة. ففي مقابل تسوية جسدية صغيرة نسبيًا، تحقق تحسن كبير في الأخلاقيات. كما زادت سلطة القادة مع البتر الدوري. فعندما كانت ترفع يد بأصابع مفقودة  فوق  الحواجز، كان المتظاهرون يحتشدون في دائرة و الجنود حاملي الرماح فوق خيولهم  يغرقون في حشد لا يستطيعون فضه. الغناء، والاصوات الهادرة، وصهيل الخيول، و صيحات  ” فولجا أي رافيوبرافي”   “الموت للقيصر!” النصر والتكريم حتى يوم السقوط!”.

  كانت الصيحات تملأ الهواء المثلج، مندفعة فوق ضفاف نهر نيفا، لتصل إلى قلعة  بيتر و حصن بول، تتوغل في أعمق الزنازين حيث رفاق سجناء  يقرعون بسلاسلهم على الإيقاع  ويمدون أياديهم عبر القضبان.

4

في كل مرة يمدون يدًا لتوقيع وثيقة أو إبداء هذا النوع من الايماءات القاسية التي من شأنها أن تشدد على شيء في خطاب؛ وجد القادة الشباب أنفسهم ينظرون إلى أصابعهم المبتورة،  وهو ما كان له  تأثيرًا  فوريًا على الذاكرة، وينشئ ترابط بين الأفكار وعضو القيادة والوقت الذي أصبح أقصر.

أكثر من أي شيء آخر فقد كان نظامًا عمليًا: كان يمكن إجراء عمليات البتر من قبل الطلاب والممرضين البسيطين، في غرف عمليات غير مجهزة، بأي أدوات تكون في متناول اليد. إذا وجدتهم  الشرطة وقبض عليهم  أو إعتقلتهم، فإن العقوبة على التشويه البسيط ليست بخطيرة، أو على الأقل لا تقترب إلى أي حد من تلك التي يطبقونها بأنفسهم إذا إتبعت الاجراءات الموصوفة حرفيًا.

لقد كان وقتًا لم يكن فيه القتل المباشر للقادة غير مفهوم، سواء من جانب السلطات أو الرأي العام ؛ كان من الممكن إدانة الجلادين كقتلة والدافع المتصور هنا  يكون هو التنافس أو الانتقام.

وكانت في كل منظمة محلية وعلى كل مستوى من مستويات الحركة، مجموعة ناشطين مختلفين عن القادة يتغيرون باستمرار ويتولون مسؤولية البتر؛ يحددون الفترات التي يتم فيها البتر وماهي أجزاء الجسم التي سيتم بترها، ويرتبون لشراء المطهرات، ويقومون باستشارة  خبير أو إثنان، إذ كانوا هم أنفسهم من سيتولى معالجة الأدوات. كانت نوعا ما لجنة من الحكماء، ولكن من دون تأثير على القرارات السياسية التي ظلت بصرامة في أيدي اللجنة التنفيذية. وعندما بدأت الاصابع بالنفاد من الزعماء، بحثوا عن  إمكانية وجود واحد أو اثنين من  الاختلافات. كان  أول شيء جذب انتباههم هو اللسان؛  ليس فقط لأنه لم يكن قادرًا على تعريض نفسه لمزيد من الانقسام إلى شظايا أو ألياف، ولكن عبر مصطلحات رمزية و تذكُرية كان هو بالضبط ما يبحثون عنه:  كل قطع صغير كان له أثر مباشر على القدرة الصوتية و الخطابية. ولكن الصعوبات التقنية التي كمنت في حساسية الجهاز كانت أكبر بكثير مما كانت عليه الفكرة الأولية.

وبعد سلسلة من العمليات المبكرة، كان يتم التخلص من اللسان، ثم تراجعت اللجنة عن أجراء المزيد من البتر لأجزاء أكثر وضوحًا ولكن أقل تكلفة:  مثل الآذان، والأنوف، سن أو اثنتان.  (وبقدر ما كان بتر الخصيتين مقلقا، لم يستبعد الأمر رغم ذلك  تماماً، إلا أنه كان يتم تجنبه دائمًا تقريبًا، لأنه كان يمكن أن يفتح المجال أمام التلميحات الجنسية للعملية)

ثمة طريق طويلة لنقطعها. لم تدق ساعة الثورة بعد. يواصل قادة الحركة إخضاع أنفسهم للمبضع. متى سيأخذون السلطة؟ مهما كان ذلك متأخرًا،  سيكونون أول قادة لا يخيبون الآمال التي وضعها بهم الآخرون. ها نحن بالفعل  نراهم يتجولون عبر الشوارع المزينة بالرايات قبل يوم من تنصيبهم:  ينطلقون على ساقين خشبيتين و إذا كانت لا تزال لديهم واحدة سليمة؛ يدفعون إطارات المشي بذراع واحدة،إذا كان لا يزال لديهم ذراع يدفعون بها، وجوهم مخبأة أسفل أقنعة من الريش لإخفاء أكثر التشويهات بغضًا، والبعض منهم يرفعون عاليا فروات رؤؤسهم كجوائز. وعند هذه النقطة سيكون واضحا، أنه فقط في ذلك القليل المتبقى لديهم من لحم يمكن أن تتجسد السلطة، ذلك إذا كان لا يزال هناك أية سلطة.

مقالات من نفس القسم