الحب دون ‘وقوع’

فن تشكيلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جوليان دي ميدوريس

ترجمة: صفوان الشويطر

يقول الكاتب الاسباني سيرفاتنس: ‘لا يمكنك مقاومة الحب يمكنك فقط الهروب منه’. ويرى سلافوي جيجيك والآن باديوان الحب حدث ويمكن اعتباره صيرورة للحقيقة.

غالبا لا يمكن تناول موضوع الحب دون الوقوع في الاكليشهات الجاهزة بينما يعد الحب أحد الموضوعات الجادة في الفلسفة بالنظر إلى أن الفلسفة ليست فقط هي حب الحكمة ولكنها ايضا حكمة الحب، اذ أنه -الحب- مفتاح مفاهيمي يسمح بفتح الاشكالات والاسئلة العميقة المتعلقة بالوجود نفسه وبهذا يصبح تناول موضوع الحب بجدية امرا جيدا ومندمجا بماهية ان تكون حيا، لكننا نتظاهر بأننا لسنا بحاجة لتناول الحب بجدية ونقلل تقديرنا له وبذلك نضلل انفسنا واصبح من المهم الان تناول الحب بجدية والتفكير فيه وتأمله سواء كان ذلك الحب شيئا حصلت عليه أو فقدته والقيام بذلك التفكير في الحب بالطريقة التي نراه عليها في الفلسفة والفن والادب.

ان واحدة من اهم افكار سلافوي جيجيك هي فكرة انه لا يمكنك الحصول على الحب دون ‘الوقوع’، ففي العديد من اللغات يشار الى الحصول على الحب من خلال الوقوع فيه، وفعل الوقوع هو بالاساس خطير ومؤذي والمفارقة في فعل الوقوع هي انه يحصل بسرعة وكأن على عقلك الامساك باللحظة ففي لحظة انت تقف هنا وفجأة انت واقع على الارض وبعدها تتحسس نفسك تحسبا لإصابة، وعملية الوقوع هذه هي العملية التي يتغير فيها فجأة تصورك للعالم، إذ بينما انت واقف وتنظر للعالم من زاويتك فجأة يتحول منظورك للعالم من زاوية اخرى. اذن فالوقوع هو تجربة تغيّرك وربما تؤذيك.

يرى جيجيك ان على الحب ان يتضمن الوقوع لأن الحب بلا وقوع ليس حباً. عند الوقوع في الحب فإن شخصا ما كان غريبا عنك فجأة لم يعد ذلك الغريب بل اصبح الشخص الذي تعرّف به نفسك وتلك هي واحدة من اكثر التحولات الجذرية للمرء هي في كيفية ان شخصا ما غريب عنك يتحول فجأة الى اقرب الناس إليك وربما لا تستطيع العيش بدونه وهذه العملية التي يتحول فيها الغريب الى عاشق هي ما يطلق عليه جاك لاكان ‘التسامي’ والذي يعرفه ب’ الموضوع الذي يرتقي الى مستوى الشيء’ ويعني ذلك العلاقة التي نأخذ بها شيئا عاديا ونرتقي به الى ما يبدو موضوعا ميتافيزيقيا وذلك بالطبع ما يحدث عندما تحب حيث شخص ما عادي له حياته وهويته الخاصة وغريب عنك فجأة يرتقي الى مستوى مثالي لذلك فالتجربة ليست امرا جيدا فأنت بخير الى ان تقع في الحب.

يقول افلاطون ان الحب نوع من الجنون لان كل الاشياء التي كانت تحفزك لم تعد كذلك وفجأة تصبح عرضة للغيرة والضغينة والحسد وكل هذه المشاعر التي ربما لم تعايشها من قبل.

كتب فرويد ان الحب ضرب من الجنون وتحديدا هو الجنون الذي بواسطته يقوم شخص عادي غريب عنك فجأة بالظهور امامك وكأنه يمتلك حضورا ميتافيزيقيا، شخص ما يفتح شيئا عميقا داخلك وبذلك يصبح داخلك ثقب يجب ملئه فذلك الشخص لن تكون سعيدا بدونه.

ان نقيض الحب هو الحب من طرف واحد وذلك صحيح تماما.

ان فعل الوقوع في الحب هو الذي يحولك من شخص عاقل الى شخص مجنون، شخص يشعر بفراغ او نقص يحتاج الى ان يملئه شخص ما وذلك ما لا تطيقه خاصة ان هناك نقطة انكسار عندما تواجه من تحبه ولا يمكنك البقاء على هذه الحالة للأبد اذ ان الحب لا يتعلق بما هو عليه الشخص الآخر لأنك انت من نظر إليه كحالة مثالية وتحاول ان يكون المحبوب شخصا مثاليا بينما الحب هوان تحب نقائص الآخر فأنت عندما تقول احبك فأنت تعني ان المحبوب كامل بعيوبه.

عندما تحب يكون موضوع الرغبة شخص غريب يرتقي الى مستوى الشيء، الشخص الذي يحررك من جنونك وهذا الهذيان الذي تمر به عندما تكون في علاقة يمثل باختصار فكرة الوقوع.

من مفارقات الحب أنه سيف ذو حدين لأنه يملك امكانية تحويلك وامكانية تحطيمك في آن واحد. هذا التحول الذي يحدث هو نوع من التحطم؛ تحطم الشخص الذي تعتقد أنك كنته قبل الوقوع في الحب وهذا التحول ايضا هوفي عملية تحول الشخص الغريب الى شخص حميم ولهذا السبب يبقى السؤال الهيستيري داخل العلاقة هو دائما: هل أنت فعلا تحبني؟ او ما يقوم به العاشق حين ينزع بتلات الوردة مرددا: تحبني.. لا تحبني وهو سؤال ما الذي اعنيه بالنسبة لك.

ذلك ما يجعل الحب فعل تكرار، انه يعني الوقوع في الحب كل يوم وايجاد عدد لا يحصى من الطرق للتعبير عن حبك ويعني ايضا ان عليك ابتكار حبك لنفسك لأنه إذا كان الحب هو هذا الجنون المتسامي في الارتقاء بالموضوع الى الشىء لذا فالعلاقة المستدامة هي في نزع التسامي أي انه في علاقة الحب، يتحول المثالي الذي تملكه عن شخص ما الى منزوع التسامي.

يبدا الامر في حب الشخص بما هو عليه ثم تدرك ان الحب خلال عملية التسامي هو فعل الافتتان ثم يصبح الحب فعل نزع التسامي وإدراك ان حقيقة الشخص الاخر والحب الذي تكنه له ليس فقط من خلال فعل الوقوع لكنه يأتي مما يحدث بعد الوقوع.

يقول جيجيك: الحب اعمى لكن المحبين ليسوا عميان ويعني بذلك ان الحب يحولنا الى عميان لكن عندما تكون عاشقا ستعرف حقيقة الشخص الاخر بل ربما ستعرفه اكثر من نفسه.

ان عملية ان تكون في علاقة حب، هي نقيضة لعملية الوقوع في الحب، وهي في المصطلحات الفلسفية تعني عملية نزع التسامي والتي تعني ان الشخص الذي كان بالنسبة لك مثالا يصبح الان موضوعا مرة اخرى وان يكون المحبوب موضوعا فذلك لا يعني ان يكون اداة بطبيعة الحال بل يعني وفقا لمصطلحات هيجل نفي النفي بمعنى انك حين الوقوع في الحب تنفي الاساس الجوهري لوجودك فتقع في حالة الهذيان هذه اي عملية تحويل المحبوب الى مثال، حالة الافتتان والانشداه ثم عندما تكون في علاقة تدرك ان الحب لا يوجد في حقل التسامي لأنه دائما فعل نزع التسامي اي بكلمات اخرى نفي النفي فإذا كان الوقوع في الحب نافيا لك اذن فالحب هو العملية التي يتحول بها هذا النفي الى اعادة نفي وهذا النفي المزدوج هوما اطلق عليه هيجل ‘نفي النفي’ وهو تحديدا يلخص حالة ان تكون في حالة حب.

المخدر يفعل نفس تأثير الحب فيك لأنه يحطم نسغك واحساسك بذاتك ولو بشكل مؤقت وداخل هذا التحطم فجأة تشعر بأنك وجدت نفسك. مفارقة نفي النفي هذه هي في قلب تجربة كونك مدمنا لمخدر ما ولذلك فالحب نوع من المخدر فهو يحررك من نفسك بطريقة مؤلمة وهذا قريب من الفكرة الرومانطيقية في ‘ان الشخص الذي يعاني من كل شىء يستمتع بكل شىء’ وهذا ايضا يذكر بالسوداوية القائلة ان الحب نوع من الالم الجميل.

عند مرحلة الافتتان في علاقة الحب يصبح الامر متعلقا بك وليس بالمحبوب، انها عملية اكتشاف للذات وكأن في قلبك ثقبا لوتكن تشعر به بهذه القوة الا بعدما وقعت في الحب.

الحب فعل تعلم خاصة في التجربة الاولى اذ يصبح كل شىء من حولك ذو شدة عالية مثلا حين تستمع للموسيقى أو تشاهد قصة حب في فيلم، حين تحب تشعر بكثافة حادة في الشعور ويصبح كل شىء وكأنه مُسَرع للعاطفة وكل شىء يصبح من حولك خصبا.

في بداية العلاقة كل شىء يستهلكك وكأن الحب شمعة تحترق من طرفيها وكثير من الطاقة يستنفزك لكن في العلاقة الطويلة الامد حيث نزع التسامي قد حدث بين الطرفين يصبح الحب اكثر سلاسة واقل معاناة.

يقدم الحب نفسه كشكل من المعاناة والجنون وفقد الذات وتحديدا في مرحلة الافتتان.

بالنسبة لجيجيك لا يوجد حب بدون وقوع وان ما يحصل حاليا هو محاولة تحييد الحب بغرض تجنب الوقوع فيه لذلك تقوم المجتمعات المعاصرة بالتركيز على الجنس التي اصبحت تنزع لتعدد العلاقات الجنسية وتجنب الحب وهذا يعني مفارقة اننا كلما انفتحنا بشأن الجنس كلما كبتنا مشاعر الحب الرومنسي وهنا بالطبع لا يقع الجنس في تعارض مع الحب ولكنه يقيد الحب ويحصره في رغبة جسدية.

ان الجنس والحب والمخدرات هي مسببات للإدمان لأنها تمثل لحظة فارقة متسامية تشبه التجربة الدينية حيث يحقق المرء ذاته من خلال نفيه المستمر لها. ان الحب هو تحرر الذات من نفسها بطريقة مؤلمة، انه الالم المبهج فالحب ليس امرا متعلقا بالآخر ولكن بك انت لأنه رحلة اكتشاف للذات حيث يصبح كل شىء مكثفا ومسرعا للعاطفة لأنك تستمع لأغنية أو تشاهد فيلما لتجد نفسك في لحظة تدفق عاطفي.

مع الفردانية المتزايدة في المجتمعات المعاصرة اصبحت اللذة الشخصية هي المعيار لذلك يصبح من المحرج الان ان تقول لأحد ما انا احتاجك أكثر من مجرد رغبة جسدية.

في كل مرة تنخرط بها في علاقة ما انت تضع الاخر في إطار فانتازي، بالطبع انت تعلم ان الآخر هو انسان يقوم بكل ما يقوم به البشر من افعال حقيقية بيولوجية بعضها منفر او مقزز كالتعرق او الذهاب الى الحمام وحتى نستمر بالحياة نحن بحاجة الى مزجها بالفانتازيا ففكرة الانخراط مع آخر في علاقة بدون فانتازيا هي بحد ذاتها فانتازيا ففي كل مستويات علاقاتنا الانسانية نحن نحتاج الى درجة من الفانتازيا بحيث يكون التعامل معهم كما لوانهم ليسوا اشخاصا حقيقيين لأن كونك شخص حقيقي هي فكرة مقيتة.

ان فكرة اختزال الفعل الجنسي الى مجرد فعل بيولوجي محض هي فكرة ليست رومانسية بتاتا. لذا تطلق مقولة “كل شيء يدور حول الجنس ما عدا الجنس فإنه يدور حول شىء آخر” فعند ممارسة الجنس يجب مزجه ببعض الفانتازيا تسمح لك بمواصلة التفاعل الجسدي وهذا يقود لفكرة لاكان حول اننا لا يمكننا الانخراط في الواقع بدون فانتازيا وهذا لا يعني ان الواقع والفانتازيا وجهان متقابلان بل يعني ان الواقع لا يمكن الدخول فيه دون فانتازيا فالواقع المحض لا يمكن العيش فيه. انت مثلا تبحث عن مذاق الطعام ونكهته ولا تكتفي ببلعه لمجرد البقاء حيا.

عندما تقع في الحب تجد ان المحبوب وكأنه خلق من اجلك وان كل شىء في حياتك من اجل هذا الغرض وهذه بالطبع كذبة كما انك تشعر انك لا تريد الوقوع في الحب ولكنك وقعت كما لوان حياتك بأسرها قادتك نحو هذه اللحظة وذلك ما اسماه هيجل ‘ظرفية الضرورة’ حيث يصبح القدر التجلي الحقيقي للفعل العرضي حيث نرى في اسطورة سيزيف كيف انه اصبح سعيدا ليس لأنه غير قدره ولكن لانه تقبل قدره ومن خلال القبول الشخصي للقدر يكون قد صنع قدره الخاص لذلك اصبح سيد مصيره ليس لأنه رفضه ولكن لكنه احتواه.

ان الوقوع في الحب هو صيرورة للحقيقة او حدث هائل حصل لك خارجيا لكنه يستمر في اثبات حقيقتك عن نفسك مثل لوحة فنية قديمة او كتاب ألفه شخص لا تعرفه لكنك تجد انه يلامس داخلك شىء ما، شيء ما مثل اللحظة البروستية التي تفتح امامك عالما من الذكريات المنسية المسكونة داخلك.

……………………………………………….

*المادة الاصلية هي فيديو مرفوع على اليوتيوب قمت بتفريغه والتصرف بالترجمة وتحويله إلى نص مكتوب (المترجم).

رابط المصدر:

 

مقالات من نفس القسم