محمد الكفراوي
في روايتها الأخيرة “هبّات ساخنة” الصادرة عن دار روافد، تقدم الروائية والقاصة سعاد سليمان حالة خاصة جدا عن عذابات منتصف العمر عند السيدات، من خلال شخصية “سلمى” التي تعيش مع والدتها ذات الأصول الارستقراطية في عمارة فخمة في وسط البلد، وتتعرف على صديقات من درجات اجتماعية مختلفة ومستويات نفسية متنوعة، لتصنع الدراما داخل الشخصيات ومن خلال حيواتهم أكثر من البنية الدرامية المعتادة عبر تصاعد وتراكم وتطور الأحداث.
تبدأ المجموعة بإهداء للكاتب الراحل مكاوي سعيد، عمدة وسط البلد، وللكاتبة وسيمة الخطيب، وخلال الرواية يظهر الروائي مكاوي سعيد كشخصية حقيقية رابطة للأحداث من خلال اللقاء بينه وبين مجموعة السيدات اللاتي يمثلن عصب الرواية، وترصد الرواية علاقة مجتمع وسط البلد بثورة 25 يناير، والتغيرات التي طرأت على المكان وعلى الشخصيات المختلفة، لكن تبقى حكاية سلمى هي الحكاية الرئيسية، فهي “الراوية” تحكي كيف تعاني من الهبات الساخنة لدرجة تفكيرها في الانتحار للتخلص منها، لكن أثناء شروعها في تنفيذ الانتحار تداهمها هبة من تلك الهبات التي تجعل الصهد الساخن يخرج من أذنها، والرئتين تنغلق كأنها تخرج آخر أنفاسها، تنفر عروق الرقبة، يكفهر الوجه.. حالة من الأرق الجسدي والنفسي متصلة ومخيفة، تستدعي من خلالها كلمة الأم عن الألم المقيم الذي تعاني منه المرأة منذ ولادتها، وكانها مخلوقة مكرسة للألم، كان العذاب والمعاناة هو مصيرها الأبدي، من الختان إلى آلام الحيض إلى ألم أول عملية جنسية، ثم الحمل والولادة والرضاعة وانتهاء ببؤس انقطاع الحيض، والدخول في سن اليأس.
تبني الكاتبة روايتها على مجموعة من السيدات كل واحدة منهن لها قصة دالة وغريبة وتحمل أبعادا مأسوية، لكن وسط هذه القصص تصنع الكاتبة عالما آخر من القص عبر رصد مفردات وتفاصيل كثيرة في وسط البلد بمبانيها العتيقة ذات التاريخ العريق وشوارعها التي تحمل روح الماضي، وكأنها تستدعي الذكريات من كل أبعاد المكان، لتصنع من الرواية عملا نوستاليجيا على مستوى المكان، كما تفعل ذلك مع الشخصيات التي تتذكر ماضيها بحنين جارف في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى بحزن وضغينة حسب حجم المأساة التي تعرضت لها الشخصية.
تبدأ الرواية بمأساة بيولوجية تتمثل في حالة الرعب والترصد والتداعيات الجسدية والنفسية ل”سلمى” التي تتخطى عتبة الأربعينات تداهمها الهبات الساخنة بعد انقطاع الطمث. تقاوم هذه الهابت وتحاول أن تتعامل معها بطريقة طبيعية دون اللجوء للعقاقير أو الأدوية التي عادة ما تؤدي للإصابة بالسرطان.
لكن هناك قصصا أخرى موازية لصديقاتها اللاتي يشاركن عالمها بطريقة أو بأخرى، كل شخصية لها حكاية منفصلة، تكاد تلخصها الكاتبة في فكرة الكراسات التي طلبها منهن مكاوي سعيد، باحثا عن الأبعاد الدرامية في حيواتهن، لكنهن في نهاية الرواية يتفاجأن بموته قبل أن يسلمنه الكراسات التي تحمل قصة كل واحدة، أو الجانب الخفي والعميق لدى كل منهن، هكذا استدعت الكاتبة في النهاية العقل الباطن لبطلاتها الخمس لوليتا وسميحة وسيناء وراجية وسلمى، لكن تظل سلمى البطلة الرئيسية و”الراوية” هي المركز الرئيسي لكل الأحداث، وهي أيضا الجانب الكثر مأساوية في الرواية لما تمثله من تعاسة وآلام تصفها في أكثر من موضع بشكل مباشر، وتعتبر أن الدخول في سن اليأس مأساة حقيقية، وليس صحيحا أن لكل سن جماله كما يقولون، فتقول هي من جهتها، ما الجمال في أن يتساقط شعري أو أصاب بخشونة العظام او تزحف التجاعيد على وجهي أو يتهدل الصدر بطريقة محزنة.
تتفنن الكاتبة في وصف المآسي والآلام التي تعاني منها النساء في سن اليأس، وفي الوقت نفسه تتجول في وسط المدينة لترصد تاريخ الشوارع والبنايات والمقاهي والعديد من المعالم المهمة، وما طرأ عليها من تغيرات بوصف أمها السيدة “بزادة ” التي تنتمي لأصول تركية وعاشت في المدينة حين كان لها بريقها وسحرها القديم قبل أن تصل المدينة هي الأخرى إلى سن اليأس وتعاني من آلام وأوجاع تشبه تماما أوجاع البشر.