“ربيع البربر” .. ثراء يخفى فقر الروح والعقل !

"ربيع البربر" .. ثراء يخفى فقر الروح والعقل !
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تمثل هذه الرواية القصيرة الممتعة نموذجا ناضجا وذكيا للرواية الأوربية الحديثة، التى تعبر عن قلق حقيقى من انهيار الحضارة، بسبب ضيق الأفق. هذا الثراء الإقتصادى مهدد بالإنهيار فى أية لحظة، ذلك أنه لم يتواكب مع ثراء أخلاقى يسيطر على الجشع الإنسانى، ولا مع ثراء اجتماعى يقنع أهل الأغنياء بأنهم يعيشون فى نفس السفينة، مع أولئك الذين لا يجدون قوت يومهم.

“ربيع البربر” من تأليف السويسرى يوناس لوشر، ومن ترجمة د علا عادل، والصادرة عن دار العربى للنشر والتوزيع، نوفيلا مكثفة وممتعة ومؤثرة، تقول عن طريق فن الرواية ما يعبر عن مأساة قادمة لها شواهدها وسوابقها. يطرح لوشر دارس الفلسفة عدة أسئلة هامة، يعيد تعريف فكرة البربرية، يراها سلوكا معاصرا نراه فى الجشع المادى الأجوف، فى تلك الأقنعة الملونة التى تخفى وحشية السيطرة والأنانية، كما ترسم الرواية ملامح الهوة واسعة بين عالمى الشمال والجنوب. معظم الأحداث فى واحة تونسية، مجرد منتجع سياحى فاخر، وهناك عبارات قليلة عن تغيرات ما بعد الربيع العربى الذى بدأ من تونس، ولكن الرواية ليست عن كل ذلك: إنها عن الإنسان متجردا من أوراق المال التى تغطيه. الإنسان عاريا من الثراء الوهمى، مما يستدعى بربرية كامنة ومخيفة من الأعماق . ليست الرواية عن بربر تونس الذين اختفوا أمام زحف المنتجعات، ولكنها عن بربرية حديثة، ظهرت معالمها واضحة، فى صورة توحش الرأسمالية المخيف.

يجمع لوشر بذكاء وحرفية لافتة بين عناصر كثيرة: لدينا مأساة حقيقية ولكنها كتبت بروح ساخرة، وكأنه يعبر عن مهزلة كاملة لها بعدها المأساوى، أو كاننا أمام كوميديا حالكة السواد.. هناك شخصيات أجنبية من جنسيات مختلفة، ولكن هناك أيضا شخصيات عربية حاضرة ومؤثرة. من سويسرا الى تونس ولندن يبدو العالم مثل قرية واحدة تتبادل التأثير والتأثر، أما الراوى فهو رجل الأعمال السويسرى برايزينج، وريث شركة عملاقة عابرة للجنسيات، تخصصت فى صناعة أجهزة إليكترونية لهوائيات وأطباق استقبال البث. اللافت أن برايزينج لا يروى لنا مباشرة، ولكنه يحكى لصديق يعرفه، عن مغامرة عجيبة حدثت فى تونس، وكان برايزينج أحد شهودها.

لماذا يحكى برايزنج لصديقه؟ لوشر جعل من بطله السويسرى راويا عليما، ولكنه أقرب الى المتفرجين. هو رجل ثرى فحسب، ورث مصنعا وصناعة، ولكن الذى أنقذ المصنع، وزاد من أرباحه، هو مساعده المدير النافذ والمخترع الذكى برودانوفيتش. درس برايزينج إدارة الأعمال، ودرس الموسيقى لفترة وجيزة، لم يتزوج، ويكاد يكون مجرد واجهة للمؤسسة العملاقة، بل إن اقتراح السفر الى تونس، جاء من برودانوفيتش.

منذ الصفحات الأولى يقدم لوشر نموذجا لثرى لا يفعل شيئا تقريبا سوى الحكى المتأمل، باحثا مع صديقه الذى يستمع إليه، عن مغزى ما حدث. السخرية تبدأ إذن من شخصية الراوى: ذلك الثرى السويسرى المراقب الذى يكتفى بالدهشة والتأمل، فيما يبدو العالم حوله على وشك الإنهيار. وما الرواية بعد ذلك سوى تجربة برايزنج الغريبة فى تونس، وكيف تحولت من رحلة الى الإستجمام الى شهادة على انهيار وإفلاس الرأسمالية.

لا تنقسم الشخصيات فى الرواية على أساس أهل الشمال الأثرياء، وأهل الجنوب التوانسة، ولكن التقسيم مرتبط بالثراء والمستوى الإقتصادى بالدرجة الأولى. سمات رجال الأعمال والمال واحدة سواء كانوا من تونس أو من أوربا. سليم مالوخ الثرى ووكيل مصانع تجميع برايزينج فى تونس، وابنته سعيدة المرأة العملية،  لا يختلفان كثيرا فى طبيعتهم الشرهة للمال عن أى رجل أعمال قدمته السينما المصرية فى أفلامها، بل إن برايزينج يحكى لصديقه عن رجل أعمال تونسى عرض بناته على برايزينج، ليختار منهن ما شاء، حتى يحصل على توكيل تجميع منتجات الشركة السويسرية العملاقة.

رحلة برايزينج للإستجمام فى منتجع يحمل اسم ألف ليلة وليلة، ستعرّفه على جيل جديد من الأثرياء الشباب الإنجليز، يعملون فى البنوك الكبرى الأوربية، ويجتمع أكثر من سبعين منهم فى المنتجع،  للمشاركة فى حفل زفاف أصدقائهم مارك وكيلى. لا يشغل بال هؤلاء الشباب سوى الحياة المرفهة، ويعبر عن ذلك وصف وقائع حفل الزفاف الصاخب الذى تتكدس فيه الأطعمة والمشروبات، وفى لمسات بارعة مقابلة، يقدم لنا بوشر نموذجين من جيل قديم يمثله والدا العريس مارك: أمه بيبا المدرّسة  عاشقة الشعر، ووالده سانفورد عالم الإجتماع، الذى يتأمل ويحلل تلك القفزات المادية السريعة، دون أن تستند الى أساس متين، ودون أى وعى بالآخر أو بالمستقبل.

فى ذروة النشوة والبهجة، وبعد حفل أسطورى للزفاف، ينهار الجنيه الإسترلينى، وتنهار البنوك البريطانية، وتعلن بريطانيا إفلاسها. نقطة تحول دراماتيكية يتخيلها لوشر مستلهما انهيارات وول ستريت وأسواق المال العالمية، بل لعله يستلهم أيضا سوابق الإنهيارات والكساد فى الثلاثينات من القرن العشرين، ثم يرصد تأثير إفلاس بريطانيا، وانهيار الإسترلينى على العالم كله، وعلى أولئك الإنجليز الذين يحتفلون فى منتجع تونسى بزفاف صديقهم: أموالهم لم تعد تساوى شيئا، والبنوك التى كانوا يعملون بها قامت بفصلهم، وسعيدة صاحبة المنتجع تطلب منهم المغادرة، والمائدة العامرة بالطعام تحولت الى إفطار فقير. فى هذه اللحظة نكتشف أن هذا الثراء يخفى فقرا وتوحشا داخليا. لم يبق أمامهم سوى الشراب. اختلت تصرفاتهم واضطربت، وكأن أوراق النقود مجرد أوراق للتوت  سقطت لتعرّى سلوكهم، الذى يتجسد فى مشهد أسطورى بربرى : يقتلون رشيد الشاب التونسى مراقب حمام السباحة، ويذبحون جملا وكلابا، ويشعلون النيران لطهى وجبة خرافية، وتلتهم النار النخيل والبلح. يتحول حفل الرأسمالية المتوحشة الى محرقة.

الفوضى المادية تصنع فوضى إجتماعية ومأساة إنسانية، أشياء لا تصدق يشهد عليها برايزينج: الفتاة الشابة جينى  تقيم علاقة جنسية مع عالم الإجتماع العجوز سانفورد، وكأنها تخوض مغامرة أخرى تشبه ولعها بالسيارات الرياضية. إفلاس مادى يقود الى عبث حقيقى، حتى سانفورد الذى كان يتوقع الإنهيار، صدمته الكارثة، فانتهت علاقته مع زوجته بيبا التى تحفظ شعرا لا يسمعه آحد. يتحول إفلاس بريطانيا الى إفلاس إنسانى، ويصبح بربر تونس أكثر تحضرا من البربر المعاصرين، يكفى أن أحد هؤلاء الإثرياء ويدعى كويكى كان يعمل مرتزقا فى شركة أمن خاصة بالعراق، وهو الذى سيقود مذبحة الجمل البائس، ومحرقة ألف ليلة وليلة.

لا يسخر لوشر من أثرياء الحفل فحسب، ولكنه يسخر من برايزينج الثرى السويسرى الذى لا يفعل شيئا، والذى يروى لصديقه ولنا الحكاية، وكأنه يروى فيلما شاهده فى السينما، والذى يمتلك تبريرا جاهزا لسلبيته الدائمة، مرة بدعوى التأمل، ومرة لأنه لايريد أن يحرج مضيفته سعيدة إذا قدم أموالا لرجل تونسى قتل جمله الذى يمثل رأسماله الوحيد، ومرة اعترافا بعجزه ، حتى بعد أن اكتشف أنهم يستخدمون أطفالا فقراء من دارفور فى مصنع تجميع أجهزة شركته فى تونس. لا تستطيع أن تبعد عن خاطرك ما يمثله برايزينج من حياد سويسرى كمستودع لأموال أثرياء العالم، مهما كان مصدرها، ولكنه يمثل أيضا نموذجا لأثرياء كثيرين فى كل مكان تنطبق عليهم المقولة الشهيرة المعروفة: ” إنهم فقراء للغاية لدرجة أنهم لا يمتلكون إلا .. المال”.

لا يتحدث لوشر عن أسباب عدم زواج برايزنج، ولا عن أسباب توقفه عن دراسة الموسيقى، وتكاد النهاية توحى باستسلام برايزينج لتعاقد جديد (أقرب الى الإبتزاز) مع ثرى تونسى آخر حول استغلال المصنع الذى يعمل فيه أطفال دارفور، ولكننا نستطيع أن نخمن أن شخصية عاجزة عن الفعل مثل برايزينج، تعتمد دوما على الآخرين من برودانوفيتش إلى مديرة المنزل، غير قادرة حتى على الإستمتاع بالثراء، وغير قادرة على تغيير حياتها، فما بالنا بحياة الآخرين؟!

“ربيع البربر” هجائية مدهشة لحياة مادية انفصلت عن إنسانية الإنسان، يرفض لوشر أن يكون المال هو الحقيقة، أو معيار وزن البشر. يرفض الأرباح الوهمية، والمضاربات العشوائية، والحياة الإستهلاكية. هذه الحياة لن تؤدى إلا الى الإنهيار الشامل  ، ليس فى الشمال فحسب، ولكنها ستؤثر كذلك على الجنوب. الرأسمالية تستحوذ على الأسواق، وعلى المستهلكين، وتبيع كل شىء، ولايبقى للجنوب سوى مصانع للتوكيلات وللتجميع بأرخص الشروط. فى الرواية نماذج تونسية تم تهميشها لصالح الأثرياء: رشيد السباح الماهر اكتفى بأن يكون مراقبا لحمام السباحة بعد أن كان البحر مملكته. وقبائل البربر هجرت منازلها، إما بحثا عن عمل فى العاصمة، أو للعمل فى منتجع ألف ليلة وليلة، ثم سرعان ما سيتم فصلهم، بعد أن أفلست بريطانيا. بربر تونس دفعوا أيضا ثمن حماقة البرابرة “المودرن”.

فى روايتنا الذكية التى حصدت عدة جوائز هامة من سويسرا وفرنسا وألمانيا يصبح الجمل رمزا لحياة حقيقية دمرها الجشع، وعنوانا على الآخر الذى دهسته المادة، هكذا نفسر مشهد الأوتوبيس السياحى الذى يراه برايزينج عند وصوله، وقد دهس عدة جمال تمثل مورد الرزق الوحيد لأصحابها، وهكذا نفسر أيضا مشهد ذبح الجمل البربرى فى نهاية الرواية. الواحة  فى رواية “ربيع البربر”أصبحت جحيما مصغرا، الشعر لا يجد جمهورا، وكهوف الجبل أصبحت مهجورة، والمبانى العالية الأوربية تكشف فسادا فى الذوق، وتثير السخرية، وتعبر عن فقر الإبداع والتعامل مع البيئة، والنظرة الغربية  للشرق ما زالت أسيرة لعالم ألف ليلة وليلة. تقول الرواية البديعة إن المال ليس فى حقيقته إلا أوراق بلا قيمة،  مالم يكن وسيلة لكى يجعل الإنسان أرقى وأرفع،  تقول أيضا إن أحدا فى النهاية لا يتعلم، لا من الكساد، ولا من انهيارات سوق المال، ولا من صعود العنف  وتيار الهجرة القادم من الجنوب الفقير، ولا من جنون الإستهلاك والرفاهية القادم من الشمال.

 تصل السخرية الى قمتها فى النهاية، عندما يحكى مليونير عاجز عن الفعل لصديقه (ولنا ايضا)، عن مغامرته فى تونس التماسا للعبرة والعظة، ولكن الصديق يصر على أسئلته الخاطئة. أحسب أن الجميع يفعلون ذلك، يقدمون اسئلة وإجابات خاطئة أيضا إما عن غفلة، أو عن حماقة، أو عن رغبة فى ثراء لن يدوم. هؤلاء لن يوقظهم فى النهاية سوى قارعة إفلاس اقتصادى عالمية، تكشف عما هو أفدح وأعمق.                                                              تكشف عن موت إنسانية الإنسان.

مقالات من نفس القسم