حكيمٌ يتأملُ الأشياءَ منْ بعيدٍ

استشراف إقامة ماضية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

يُعتبر الشاعر محمد السيد إسماعيل واحداً من المبدعين القلائل الذين وُهبوا ناصية موهبتين اثنتين:موهبة الشعر وموهبة النقد.ولأنه كذلك فإنه هو بنفسه أول من ينقد/ ينتقد أعماله قبل ظهورها أمام عينيّ القاريء..ولذا يجيء نصه متماسكاً وخالياً إلى درجة كبيرة مما ينتقص قيمة أي نص شعري.

نصوص قصيرة

بدايةً يلحظ قارئ “استشراف إقامة ماضية” الصادر منذ سنوات عن الهيئة العامة للكتاب، أن الشاعر قد فضَّل أن تكون كل نصوص ديوانه نصوصاً قصيرة (ثمة قصائد لا تتعدى السطرين الشعريين وقصائد لا تتعدى صفحة واحدة وقصائد لا تتجاوز صفحتين وثمة قصيدة واحدة فقط تخطت الصفحتين بخمسة أسطر شعرية)..وهذا لا يدل ـ كما يقول البعض عن مثل هذه النصوص القصيرة ـ على أن الشاعر يمتلك نَفَساً شعرياً قصيراً مما لا يمكنه هذا من كتابة نص مكتمل طويل..وقد يكون هذا صحيحاً في حالات أخرى..لكننا أمام شاعر قد امتلك أدواته ووظفها وطوعها لخدمة نصه وقد اختار الشاعر أن يكون نصه مكثفاً ومركَّزَاً خاصة وهو لا يميل إلى الثرثرة الشعرية التي تُضْعف النص أكثر مما تقويّه:

كيف انتهيتَ هكذا:

عينان تنظران للجدار

ويد تستأنس الكلام

أو تُجلسه بجانبي

كأننا وجهان ذاهلان

في فراغنا الوحيد؟!

شعر الومضة

وهنا يمكن لي أن أنسب معظم قصائد هذا الديوان إلى ما تعارف على تسميته بشعر الومضة والذي من أهم ما يميزه هو استخدام تقنية التكثيف واللجوء إلى توظيف أقل عدد من المفردات في الوقت الذي تؤدي فيه هذه المفردات ـ على قلّتها ـ دور مئات المفردات الأخرى.لقد جعل الشاعر إحدى ومضات هذا الديوان لا تتعدى سطرين شعريين وهي بعنوان أيام يقول الشاعر فيها:

يا الله!!

ما زال أمامي هذا اليوم؟!

ربما يرى بعضهم أن هذا النص مبتوراً وأنه في حاجة إلى تكملة غير أن الشاعر لو فعل هذا في نص كهذا لأفقده جمالياته والتي ترتكز في الأساس على المساحة التي يتركها الشاعر للمتلقي ليركض فيها جواد خياله معطياً إياه حريته الكاملة في تأويل النص وتفسيره كما يحلو له..دون أن يضطره إلى السير داخل هذا النص وفق سيناريو قد أُعدَّ سلفاً.

كلما عاد طائر المتعة

انتظرت سحابة عجلى

(عدة) أيام فقط

وبعدها يكون الكون سابحاً

في الماء.

يتأمل الأشياء

يبدو الشاعر هنا حكيماً يتأمل الأشياء من بعيد ويقدم لنا قراءته لها ويتجلى ذلك واضحا في عدة نصوص منها:

الفراغ ليس لعنة كما يعتقد الكثيرون

فمن خلاله مثلاً  يمكن محاسبة النفس

وأكثر من ذلك أنه يؤكد دائماً

(حلم) شغله بشيء ما.

كما يتضح ذلك في هذه الومضة:

من منا ينتبه إلى (الظل)

الظل الذي يقاوم وحده هجمة الهجير

الظل الوفي الذي يلهث دائماً كي يلحق بخطواتنا

بعد أن ينزل من أعاليه وينبسط على الأرض

الظل الجميل الفاتن

الذي يسكنه الزهاد وطالبو الحقيقة.

وهنا نرى تلويح الشاعر بحالة العزلة المفروضة إجباريا واضطرارياً على مُريدو الحقيقة فيما تُترك الساحة ـ بفعل فاعل ـ خاوية لأولئك الأفَّاقين  الذين يجيدون ـ وبكل وضاعة ـ إزاحة الجواهر الحقيقية ليحل محلها كل ما هو زائف ومُزيِّف.

واقع رديء

وفي ومضة أخرى يرصد الشاعر ـ متقمصاً دور الذات الشاعرة ـ الحالة التي يعيشها ذلك المنعزل الذي لا يجد سوى أن يتمسك بملابسه فاراً من الواقع الرديء الذي لم يعد يصلح لإقامته فيه ولم يعد له فيه مكان له بعد أن سيطرت عليه العقول المتخلفة بكل ما في حوزتها من غباء طبيعي وحيوانية منقطعة النظير:

لم يكن أمامه إزاء ذلك النباح الهائل المتقطع أسفل النافذة

غير أن يتشبث بالثياب

تاركاً فضاءه الصغير

كي يجول فيه عابدو الأصنام

والأشباح والموتى.

من ناحية أخرى نجد الذات الشاعرة في كثير من قصائد الديوان تعلن عن تحديها للواقع المأزوم الذي يُطبق عليها بأنيابه وبراثنه الخانقة وعدم قبولها لإملاءاته عليها التي يفرضها عليها حتى وإن كان هذا الفعل يُكلّفه الكثير:

لم أندهش أبداً

من ذلك الرجل القوي

الذي احتمل وحده ذبحة الصباح

وعاش بعدها أربعين عاماً

أربعين عاماً بتمامها

دون ان يذكر هذه الحادثة.

ويطل ذلك التحدي من خلال نافذة نص آخر:

كانت مدينة واطئة

مليئة بالثلج والغبار والأصنام

ولم يكن أمامي غير انتظار

ساقيَّ الكليلتين

تدفعان هجمة الرمال.

وكذلك نجد الذات الشاعرة في رحلة مد وجزْر قبالة الزمن الذي تبحر فيه غير أنه يُعارض رغباتها ويصدُّ أبوابه أمام أي فرصة لتحقيقها:

ماذا أصنع بكل هذه الأيام

التي رأيتها امامي فجأة

كأكوام من الركام؟!

هل أجلس فوقها مبتسماً

في وجهك المرير أيها الكلام؟

أم أظل هكذا أجرها

بأقدام ثقيلة من عام لعام؟!

مشهد الثورة

وإذا كان اليوم ثمة من يفتش في كتابات المبدعين عن الإرهاصات التي تولدت عنها الثورة المصرية وساعدت على قيامها فإننا نعثر لدى محمد السيد إسماعيل على نص قصير كتبه تحديداً في 6/6/2001 وعنونه بـ:مشهد محتمل يقول فيه:

سأفترض مثلما يفترض يائس صغير

أن هذه (البلاد) قد تآكلت صخورها

حتى خلا المكان من حياته

ولم يعد به إلا صفير الريح

عندئذ سوف أنتشي تماماً

وأنا أستحضر هذه الصورة

شيء واحد فقط يمكن أن يفسد هذا المشهد الرائع

هو احتمال أن تظل في المكان

بضعة أرواح خبيثة تبحث عن (قرار).

بالطبع يتطابق هذا النص تقريباً مع المشهد الراهن بكل مفرداته من حدوث للثورة وما يحدث ضدها من ثورة مضادة تمثلها هذه الحفنة من الأرواح الخبيثة التي لا تبتغي سوى خراب هذه البلاد ليعيشوا كما البهائم على أنقاضها.

ولا يخلو الديوان من الحس الساخر الذي يعطي مذاقاً خاصاً ومختلفاً لنصوص الديوان:

حدث هذا من عشرين سنة

كانت أمامي فتاة

فانتظرت حتى عَبَرتْ

ومن يومها مرَّ أناس كثيرون:

………………..

وأنا في المكان ذاته

أضرب الحصى وأتذكر:كم لوناً لمحته في ثوبها القصير؟

هنا يسخر الشاعر من صمته بل ومن عجزه عن التواصل والتفاعل مع الآخر/الأخرى مما جعل الحال تنتهي به حالة يصورها في نص كهذا.

كما يلاحظ أن الشاعر يُفيد من اللفظة القرآنية متناصاً معها مضفياً على نصه نكهة خاصة:

أراكِ في الوقت الذي أريده

أحتويكِ

أعلم السر وأخفى

أطَّلع على فؤادكِ

أتبع الغواية وأنام عن شواردها

أستحضرك مثل ملك وملاك.

فيثاغورث

هذا ويحتوي ديوان(استشراف إقامة ماضية) للشاعر الناقد محمد السيد إسماعيل على نصوص لا أجدني مبالغاً حين أنعتها بالروعة على الرغم من أنها لم تحتل من مساحة البياض إلا القليل..مؤكداً على إحتوائها على قدر كبير من المتعة التي يحسها المتلقي أياً كانت درجة ثقافته خاصة وأن نصوص هذا الديوان قد نأت عن الغموض الذي يعيب كثيراً من نصوص هذه الأيام بعد أن حوَّلها إلى معادلاتٍ رياضية لا يتمكن من حلها سوى من هم على شاكلة فيثاغورث وأقليدس في علوم الرياضيات. هذا وقد امتازت بسلاستها وسهولته في الوقت الذي ابتعدت فيه عن المباشرة الفجة.

أنا أشرف الكائنات وأبهاها

قال (الضياء)

ثم مضى

لكل يكون (حجراً)

في أعين (العماء).

 

مقالات من نفس القسم