يتحدث رولان بارت في كتابه “شذرات من خطاب محب” عن تجارب العاشقين، عن العشق نفسه، عن لحظاته المستلبة في قلوب الخائبين، عن هذا الهوى، وهذه الهاوية: هوى… فورة انهيار تنتاب المحب يأسًا أو اكتفاءً.
على هذا النحو تهوي النساء في روايات الكاتبة المصرية الشابة نورا ناجي، التي تكتب عن بنات جنسها، عن هموم فتيات مصريات، يجدن ملاذهن الوحيد في الحب، الحب نفسه حين يخذلهن تنتهي حياتهن، وتستحيل كابوساً فظيعاً!
لا تتناول نورا ناجي ثيمة “الحب” في رواياتها، بل بالمعنى الأدق هي تستعرض ثيمة “الخسارة”، خسارة الحب وفقدانه وحالة التيه التي تخوضها الشخصيات في داخل عملها الروائي، آثار خيبات هذا الحب ليست هينة البتة لا على الرجل ولا على المرأة، في مجتمعات محافظة، تنظر إلى الحب كشبهة وتهمة، في المجتمعات نفسها التي تغدو فيها خطيئة الرجل مذكرة وخطيئة المرأة مؤنثة؛ لذا تختار كل شخصية من شخصيات الكاتبة نورا ناجي طريقًا مختلفًا لمعاقبة نفسها.
اختارت حياة، بطلة رواية “الجدار”، الرحيل من القاهرة، لتهرب من حبيبها الذي ارتبط بامرأة أخرى، بعدما خذلها كما خذلتهم الثورة المصرية، التجربة القاسية خلفت امرأة خاوية الروح، خسرت الحب وخسرت ثمرة الحب أيضا، فلم تجد مفرًا لها سوى مغادرة الماضي إلى دبي حيث يقيم والدها، ثم إلى سيول في كوريا الجنوبية، وكأنها تسعى إلى أن تخلع جلدها- لغتها، هويتها- كل ما يمت ماضيها بصلة، لتتواصل مع جدار ألصقت عليه صور ضحايا وحشية العالم، كالطفل إيان وأطفال الغوطة السورية، وهند وغيرهم، ليغدو هذا الاستغراق من المحلي، من همومها الذاتية إلى هموم العالم نوع من المواساة، وأيّة مواساة!
غير أنه أوقعها في هوّة أشد جرحًا، كما ذهب رولان بارت في شذراته: “الهوة لحظة نوام. فعل إيحاء يوعز إليّ بأن أفقد وعيي من دون أن أموت، ومن هنا، ربما، كانت عذوبة الهوة. لا وزر لي في هذا، وفعل (الموت) ليس من مسؤوليتي. إنني أركن إلى حالي وأحول ذاتي “صوب من؟ صوب الله، والطبيعة، والأشياء كلها، ما عدا صوب الآخر”.
الاختفاء
بينما تختار كاميليا، بطلة رواية “أطياف كاميليا”، أن تختفي، كما قالت ابنة أخيها التي سميت باسمها. كانت تسرّح شعرها الطويل أمام المرأة ثم اختفت، كأنّ المرآة بلعتها، وهذه الحالة يُعبّر عنها رولان بارت قائلاً: “حين يحصل وأهوي على هذه الشاكلة، فهذا يعني أنني ما عاد لي من موضع في أي مكان، حتى في الموت. صورة الآخر- التي كنت ألتصق بها، وأعيش- لم تعد موجودة”.
تختفي البطلة كاميليا إلى حيث لا يعلم أحد، لكنّ حضورها طاغ في الرواية، أطيافها تظلّ تحوم في عدة أماكن، في بيت والدها، في بيت زوجها، في شوارع القاهرة حيث يقع مرسم حبيبها المتزوج من امرأة أخرى ” كاميليا” المرأة الفاتنة التي يقع في حبها جميع الرجال، تستحيل إلى امرأة لا تشبه نفسها بعد أن سلب منها الحب روحها، تنطوي على نفسها، تزداد بدانة، تصبح غريبة الأطوار، تخرج من طنطا حيث تقيم لتهيم في شوارع القاهرة تبحث عن طيف خذلها بشدة، حول حياتها لجحيم.
في هاتين الروايتين تحديدا، تقدم الكاتبة نورا ناجي نموذجين عن آثار خيبات الحب، عن التماهي الكلي في علاقات عاطفية تستلب حيوات نساء مفرطات الحساسية كـــ” حياة” و” كاميليا”، رهانهن في الحياة هو الحب. حياة التي هربت من ماضيها إلى حضن رجل بريطاني هو “تيو”، وتمارس معه علاقة جسدية دون تأنيب في الضمير في بلاد باردة وغريبة، تستنزف ذاتها، لا لتعاقب نفسها بل لتعاقب من خذلها. أما كاميليا، فإنها اختارت الاختفاء، بعدما ضاق عليها العالم الصغير من حولها، غير أنها بقيت حيّة في حياة من حولها، وكأنها اختارت أن تعيد خلق نفسها في جسد ابنة أخيها (كاميليا)، التي ظلت تلاحق حكاية عمتها، التي تمردت ثم اختارت أن تختفي تماما من المشهد الواقعي، لتستحيل مجرد طيف، مجرد ذكرى تهز ذاكرة الحاضرين. تماما كما قال رولان بارت في شذراته: “أتكون الهوة شيئا آخر غير تلاش مؤات؟ لا يصعب أن أقرأ فيها سكينة بل يصعب أن أقرأ انفعالاً. أجعل الهرب قناعًا لحدادي: أتخفف، يغشى علي لأنفلت من هذا التراص، من هذا الانسداد الذي يحيلني فردًا مسؤولاً”.
هموم ذاتية
أما بطلات رواية “بنات الباشا” فنحن أمام حشد من النساء، اختارت الكاتبة أن تجمعهن بكامل اختلافاتهن في مكان واحد هو محل لتزيين النساء، يعملن تحت قيادة رجل واحد “الباشا” والذي يغدو مطمعهن، يرغبن في أن يقع في حب كل واحدة منهن، وكأن الكاتبة هنا تصنع أنموذجًا لرجل واحد يغري كثير من النساء باختلاف طباعهن.
في الوقت نفسه، امرأة واحدة تجده عاديا بل أكثر من عادي وهي زوجته زينب، لأنها تحب رجلاً آخر. الحب هنا أيضا له دلالات كبيرة في علاقة زينب بزوجها الباشا، ليغدو زواجهما مجرد صفقة ترضي جميع أفراد العائلة عداها، يغيب الحب بينهما فتهوي العلاقة الزوجية إلى جحيم الجفاء!
بطلات الكاتبة نورا ناجي يحتمين بحوادث عالمية، ليتغلبن على همومهن الذاتية، يتفاعلن بحساسية مفرطة تجاه ما يحدث من حولهن؛ ليطفو شعور عجزهن عن تقويم أنفسهن بمحاولة تقويم العالم، العالم بكل فجاجته يغدو جدارًا خفيًّا أو مرآة مصقولة يعكس ما يحدث حولهن، الثورة المصرية في يناير 2011، وانفجار كنيسة في طنطا، انتحار نادية، إحدى شخصيات رواية ” بنات الباشا” التي يغدو حضورها كحكاية في سرد الأخريات، كل واحدة منهن تشبثت بها في موقف ما، بدت من وصفهن عنها امرأة خارقة، حاولت منح كل ما لديها للآخرين سوى نفسها.
نحن أمام نماذج من الشخصيات يمثلن قضايا المرأة في كل مكان، فتيات تعرضهن بل يتعرضن بشكل يومي لاستنزاف جسدي ونفسي من ختان وتحرش ومثلية وغربة وجهل وتسليع.
تجيد الكاتبة نحت نفسيات شخصياتها، تظهرهن على حقيقتهن بلا رتوش، يتمتعن رغم بؤسهن الروحي بشجاعة نادرة، فمن يجرؤ على الفرار أو الاختفاء أو حتى الانتحار في مجتمعات متخلّفة، تدين المرأة لمجرد كونها خلقت أنثى؟
حالهم كحال العشق الذي يصل الى حافة نهايته في هاوية العشاق، كما يرى رولان بارت في شذراته: “كان كلامه يفصح عن نيته في أن ينهار أمام ضعفه، وألا يقاوم ما يثخنه به العالم من جراح، لكنه كان في الوقت نفسه، يستبدل هذه القوة المعدومة بقوة أخرى، وتأكيد آخر: “أتحمل إزاء الأشياء كلها وضدها عقوق الشجاعة، وبالتالي عقوق الأخلاق”.