استطرادات فينومينولوجية حول نمط الحقيقة المسرحي!

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 31
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الناصر حنفي

1- في حكاية إغريقية بعنوان “المهرج والقروي” والمنسوبة إلى “أيسوب” (القرن السادس قبل الميلاد) نجد إشارة مدهشة لما يمكن اعتباره “طبيعة الفعل المسرحي” وعلاقته بالحقيقة، ففي أحد الاحتفالات المسرحية التي أقيمت في مدينه ما بغرض التنافس على الجوائز، يبرع مهرج في تقليد صوت خنزير على نحو يثير إعجاب المشاهدين الذين يتزايد شغفهم بما يقدمه بعد التأكد أنه لم يستعن بأي مساعدة خفية، ولذلك يقرر فلاح كان يمر بالمكان أن ينتزع شيئا من هذا الإعجاب لنفسه وأن يتقدم للمنافسة على الجائزة، فيخفي خنزيرا صغيرا بين ثيابه ويقرصه ليصدر صوتا عاليا، ولكن هذا لم يثر سوى نفور وسخط المشاهدين، وعندئذ يبرز الفلاح الحيوان المخبأ مؤكدا أنه يقدم شيئا حقيقيا، ويقول: “هذا الخنزير الصغير يثبت أي نوع من القضاة (judges) أنتم”!

وكعادة القصص الاليجورية –أو الأمثولات- فإن هذه القصة تقدم بوصفها تمثيل “وعظي” حول اضطراب الحكم على الحقيقة، ففي نشرة اوكسفورد (2002) التي ترجمتها “لاورا جيبس” عن الإغريقية (والتي اعتمدنا عليها هنا في تلخيص الحكاية) يرد أن القصة تشير إلى “الأخطاء التي يرتكبها الناس بسبب المحاباة التي لا أساس لها، فيصدرون حكما خاطئا ويصرون عليه إلى أن تجبرهم الوقائع الفعلية على الندم على اختياراتهم”!

وهذا التعليق لا يبتعد كثيرا عما يورده د.عادل مصطفى في ترجمته لحكايات ايسوب (طبعة هنداوي الألكترونية)، حيث يذكر أن “العظة” وراء هذه القصة هي “أن الناس كثيرا ما يصفقون للشيء الزائف، ويخرسون الشيء الحقيقي”!

ولكن إذا ما تأملنا قليلا في معطيات الحكاية فإن تلك الوعظيات اللطيفة ستبدو أكثر سذاجة مما ينبغي لأنها تتجاهل شيئين على الأقل، أولهما هو التقابل الذي تقدمه الحكاية بين سكان المدينة المتآلفين مع الفعل المسرحي، وبين الفلاح الريفي العابر، والمغترب عن هذا الفعل، وثانيهما أن إعجاب الجمهور بالمهرج لم يتفجر حقا إلا بعد التأكد من أنه لا يخفي شيئا في ثيابه، أي بعد التأكد أن الصوت الذي أصدره هذا المهرج منقطع الصلة عما يفترض أنه فاعله الأصلي، أو حدث ظهوره الأصلي، وهو ما يدحض وعظية الندم على الحكم الخاطئ التي تقول بها “جيبس” لأن الحكاية تنص بوضوح على عملية التحقق من مصدر الفعل التي قام بها الجمهور، وهو ما فات الفلاح الريفي إدراكه فظن أن استعادة الفاعل الأصلي سيعني عودة هذا الجمهور إلى ارض الحقيقة التي يعتقد أنهم ضلوا عنها!

وهكذا، فقليل من التأمل سيكشف عن أن هذه الحكاية تفكر في الفعل المسرحي وطبيعة علاقته الفريدة بالحقيقة والحكم من وجهة نظر ريفي مغترب عن المدينة ولا يدرك ماهية المسرح!

والطريف أنه بعد أكثر من خمسة وعشرين قرنا من ظهور الحكاية لا يجد الخطاب الوعظي التقليدي مكانا لنفسه فيها إلا عبر التماهي مع هذا الفلاح الساذج الذي تسخر منه القصة، وهو ما قد يشي بأن طبيعة “ما هو مسرحي” لم تفقد غموضها وغرابتها طوال هذه القرون رغم كل هذا الماء الذي عبر أسفل جسر النظريات الجمالية.

والأشد إثارة هنا هو أن تلك الحكاية ستبدو وكأنها معارضة استباقية لنظرية المحاكاة التي ظهرت بعدها بأكثر من قرن مع أفلاطون (والتي كان هدفها الأساسي هو عزل الممارسات الجمالية بصفة عامة عن ميدان الحقيقة)، لأنه إذا ما سلمنا مع هذه النظرية أن الفعل المسرحي هو مجرد محاكاة لفعل آخر أصلي، وأن ما قام به المهرج في الحكاية هو مجرد محاكاة جيدة لصوت الحيوان، فإن هذا يثير سؤالا حول فشل الفلاح الذي قدم الفعل الأصلي ولم يحاكيه، وكأن ما هو حقيقي لا يستطيع ان يحاكي نفسه في المسرح! وهي مفارقة “مدوخة” قلما التفت اليها أحد، للأسف.

2- ولكن إلى أي مدى يمكننا الاندفاع في التفكير مع هذا الاستبصار الذي تقدمه الحكاية حول خصوصية نمط الحقيقة المسرحي وتعارضه مع المفهوم المألوف لما هو حقيقي، ولماذا لا نعتبر هذه الحكاية مجرد رصد لصدمة ريفي ساذج أمام الفعل المسرحي؟ وأن المفارقة التي نلاحظها هنا جاءت نتيجة للخطاب الوعظي المصاحب للحكاية والذي قام بليها قصرا ليضعها في مواجهة الحقيقة الواقعية التي ينتصر لها بسذاجة بالغة؟

وربما كانت هذه التساؤلات تستلزم أن نحاول التوسع أكثر في تحليل المفارقة التي ترصدها تلك الحكاية، ولكن علينا أولا أن نلاحظ أن الحكاية تتناول نموذج “للفعل المسرحي” الشديد الأولية والبساطة أي أنها تتحرك في منطقة اشد عمقا وجذرية مما قد نجده في أي عرض مسرحي من شبكة معقدة من الأحداث والأفعال التي قد تسمح باشتقاق مسارات وعلاقات درامية طبقا للألعاب التحليلية التي دشنها ارسطو فيما بعد، أي أننا هنا نخوض فيما يمكن اعتباره منطقة ما قبل درامية، وبالتالي فلن يسعفنا الفكر الجمالي أو التنظيرات الفنية في النفاذ إلى ما يمكن ملاحظته، لأننا أمام حالة خاصة أو نمط خاص من الفعل الإنساني الذي تأسست فوقه الممارسة المسرحية أولا، ثم “النوع المسرحي” ثانيا.

3- وفي هذا الإطار فلنبدأ بتعميم المفارقة التي ترصدها الحكاية، ولنفترض أننا نريد تقديم “فلاح” فوق خشبة المسرح، وهنا فلو اننا استدعينا فلاحا حقيقيا من حقله وجلبناه مباشرة إلى الخشبة فسيبدو تحت انظار المشاهدين كائنا مضطربا ومرتبكا إلى حد الذهول وغير قادر على الحركة او الكلام بصورة طبيعية، وبعبارة أخرى فإنه سيبدو بعيدا عما هو عليه بالفعل ولن يستطيع ان يتكلم أو يتحرك مثلما يفعل هو ذاته في الحياة، وسيظهر في حال أو هيئة ربما لم يظهر عليها قط في ممارساته اليومية وذلك نتيجة تعرضه في هذه اللحظة لضغوط لم يختبرها من قبل، اي انه سيكون عاجزا عن أن يكون نفسه فوق الخشبة وسيبدو أمامنا في النهاية فلاحا زائفا!

والعكس بالعكس فإذا ما بدأنا بفلاح زائف (ممثل) وقمنا بتدريبه على الحركة والانفعال كفلاح ومنحناه ما يلزم من ملابس واكسسوار وقمنا بتحفيظه جمل الحوار .. الخ، ففي النهاية هذا الفلاح الزائف هو من يمتلك فرص أكبر في الظهور بمظهر الفلاح الحقيقي.

ولكي ندرك أكثر مدى تعقيد هذا النموذج المسرحي للحقيقة فعلينا ان نلاحظ اننا نستطيع ان نخضع الفلاح “الحقيقي” لنفس العمليات التي اخضعنا لها الممثل، وأيا كانت النتيجة التي سنحصل عليها فهي بالتأكيد ستكون أكثر اقترابا من مطلب الظهور على الخشبة بمظهر الفلاح الحقيقي، أو بمعنى أدق فمع اخضاع كل من الفلاح الحقيقي والزائف لمزيد من المران المسرحي فإن نتائجهما النهائية ستمضي في الاتجاه نفسه، بحيث سيكون الفارق بينهما على الخشبة هو فارق بين ممثل وآخر وليس بين من هو حقيقي ومن هو زائف، وفي كل الأحوال فما أن ينتهي العرض فإن شخصية هذا الفلاح الذي تم تقديمه ستختفي وكأنها لم تكن، أي أن الفعل الحسي أو الشخصية “المتعينة” التي يقدمها المسرح هي بلا أصل وبلا بقاء معا، بحيث أنه ما أن تنقضي لحظة ظهورها المسرحية إلا وتتلاشى بوصفها تعينا حسيا، ولا يبقى منها سوى ما يمكن استعادته عبر التفكير أو التأمل في فضاء الحضور!

4- ولنتوقف هنا قليلا أمام ما يطيح به نموذج الحقيقة المسرحي خارج دائرة اهتمامه، فظهور الفلاح في العالم هو أمر تحقق عبر مسارات استغرقت آلاف السنين منذ ظهور الانسان على الكوكب، أما هذا الفلاح الحقيقي الذي جلبناه توا للخشبة فربما يكون قد قضى نصف عمره على الاقل في تعلم وممارسة مهنة الفلاحة، وأيا كان تقديرنا لمدى طول وتعقد تلك المسارات والاحداث التي انتجت هذا الفلاح الحقيقي فلا يمكن مقارنتها بأي مسارات مماثلة قد تتوفر أو لا تتوفر للفلاح الزائف والذي قد يكون -حرفيا- اي شخص، وذلك بغض النظر عن تقاطع سلسلة ممارساته اليومية مع أعمال الفلاحة بشكل مباشر من عدمه.

وهذا يعني ان المسرح لا يتجاهل ويتخطى ثقل ثنائية الحقيقي/الزائف فحسب؛ بل ايضا يخضع سلاسل وعمليات الظهور في العالم لألعابه التحويلية، ويقوم بإنتاج “أحداث ظهور” عبر طرق مختلفة ومباينة لسبل إنتاجها في العالم المعاش.

وبالطبع فقد يعترض البعض على تطبيق نموذج الحقيقة الخاص بالعالم على ما يعود إلى المسرح، فالمسرح في النهاية ممارسة جمالية وفنية، وهذه الممارسات تقوم على الخيال ولذلك فإن نموذجها للحقيقة يختلف في طبيعته وتكوينه وانماطه عن الحقيقة المعاشة، وبالتالي فقد يمكننا هنا الحديث عن حقيقة جمالية مقابل زيف جمالي، ولكن ليس عن حقيقة معرفية مقابل زيف معرفي.

وبغض النظر عن مدى دقة ووجاهة هذا الاعتراض؛ إلا أن الفعل المسرحي هو أحد انماط الفعل الانساني (وربما اكثرها تطورا وتعقيدا)، وهو ما يجعله شديد الاختلاف عن الممارسة الادبية التي ترعرعت في ظلها النظريات الجمالية، فمثلا في الادب يكفي ان تقول او تكتب كلمة “فلاح” حتى يقوم خيال السامع أو القارئ بباقي المهمة، أما في المسرح فسيتعين تقديم هذا الفلاح داخل حدث حسي متعين وآني، أي حدث “ظهور”، واحداث الظهور بصفة عامة تمثل الجزء الصلب في علاقتنا بالعالم، والتي يتم فوقها بناء ترابطات وفضاءات الحضور، وإذا كان ثمة اختلاف يميز الفلاح على المسرح والفلاح في الحقل فهو اختلاف يتعلق بالحضور وترابطاته أما من منظور “الظهور” فمن المفترض أن كلاهما متشابهان في حسيتهما وتعينهما، وما ينطبق على احدهما عند هذا المستوى ينطبق على الآخر، وبالتالي فإذا اعتبرنا احدهما حقيقي فإن الآخر كذلك بالضرورة، أما إذا اعتبرنا احدهما ظهورا حقيقيا (الفلاح في الحقل) والآخر ليس كذلك باعتباره فعلا جماليا أو فنيا .. الخ، اي باعتبار علاقاته بمجالات حضور بعينها، فإننا بذلك نكون قد قمنا بنفي ما يظهر (أي ذلك الحسي المتعين) لصالح أو بناء على ما يبدو وكأنه يحضر –أو لا يحضر- مرافقا او محايثا له، وما دمنا قد فتحنا هذه البوابة (التي تؤدي إلى رحلة في اتجاه واحد داخل ادغال الميتافيزيقا) فهذا لن يقتصر بالضرورة على ظهور ما هو مسرحي فقط، بل يمكن تطبيقه على اي حالة من حالات الظهور إذا استطعنا ربطها بعلاقات حضور تنفيها، وبغض النظر عن أن هذا سيمنحنا عالما متميعا يتوارى فيه ما يظهر ويختفي تحت ضغط علاقات الحضور فإن ما نود تأكيده هنا هو أنه أيا كان تصنيفنا لحدث الظهور المسرحي فإنه سيمتد بالضرورة إلى كافة احداث الظهور الاخرى، وهو ما يعني في النهاية انه لا يمكن الفصل حسيا بسهولة بين احداث الظهور ومعاملة كل فئة منها معاملة خاصة. وبالتالي فإذا ما كنا نطبق نموذج بعينه للحقيقة على بعضها فهو سيتمدد تلقائيا ليطبق نفسه على كافة تصنيفاتها ما دامت تجمعها نفس الأرضية الحسية، وهو ما يجعل نمط الحقيقة المسرحي بمثابة تحدي دائم وصارخ للمفاهيم المتداولة عن الحقيقة بوصفها تطابق أو توافق الفعل أو الحدث مع اصوله الجوهرية المفترضة.

وربما كان هذا التحليل يفسر حالة الخشية والتوجس التي تسبغها الفلسفة والأخلاق على حدث الظهور في الحياة اليومية، بحيث تكرسه باعتباره مجرد مظهر زائف أو كاذب وبلا قيمة أو ثقل يخصه ما لم تسانده حقائق الحضور، وهو ما يبدو أيضا أنه يفسر ذلك المسار الذي يكاد يستغرق تاريخ الفلسفة والمتمثل في انسحابها المتوالي أمام حدث الظهور لصالح الاكتفاء بتأسيس العالم انطلاقا من حضور فكرة أو أفكار بعينها!

5- وهكذا، فبقدر ما يمكن إقرار هذه الملاحظات فإن هذا يعني أن المفارقة التي يقدمها الفعل المسرحي في علاقته بالحقيقة لم تكن مجرد ظاهرة عارضة أو حالة طريفة يمكن تجاهلها، بقدر ما كانت عاملا مؤثرا في المسار الفلسفي والابستمولوجي الذي اختطته حضارات البحر المتوسط (على الأخص)، فعلى مدى تاريخ هذه الحضارات –وحتى الآن- سنجد الكثير من المواقف المتناقضة في اتجاهاتها وأهدافها والتي تحاول إما تحييد هذا الأثر المسرحي على الحقيقة، أو استثماره في تفسير العالم أو إدانة الخصوم الفكريين، وهذا المسار يمتد من القديس أوغسطين والذي شبه العالم بمسرحية ألفها الرب ويمثل أدوارها البشر، مدشنا بذلك تلك الاستعارة التاريخية الشهيرة حول العالم بوصفه مسرحا، مرورا بالكنيسة التي تعاملت مع هذه الاستعارة بوصفها حقيقة وبالتالي رأت في الممارسة المسرحية ما ينازع عمل الرب، فقامت بتحريم المسرح بالكامل في القرن الخامس، ثم مرت عدة قرون قبل أن تسمح به مرة أخرى ولكن بوصفه طقس مسيحي أصيل وذلك عبر ما سمي بمسرح الأسرار.

ومن جهة أخرى فإن السير فرانسيس بيكون في كتابه “الأورجانون الجديد” سعى للانتصار للمعرفة التجريبية عبر إسباغ الطابع المسرحي على كافة الفلسفات والأنساق الفكرية التي اعتبرها نتيجة مباشرة لما اسماه “وهم مسرح”، وهي صيحة كان تأثيرها هائلا على الفلسفة، بقدر ما كان تجاهل ما يخص المسرح فيها غريبا ومخزيا من الجميع.

6- ثمة عبارة منسوبة إلى الممثل الفرنسي “فرانسوا جوزيف تالما” (1763-1826) ستبدو وكأنها تلخص ببراعة ما حاولت حكاية “المهرج والقروي” أن ترصده حول نمط الحقيقة المسرحية، إذ تنص هذه العبارة على أنه في المسرح “ما يريد أن يبدو حقيقيا، لا ينبغي له أن يكون حقيقيا”، وربما لم تصدم هذه العبارة أحدا بقدر ما صدمت نيتشة الذي كان في شبابه يكن حماسا مشبوبا للحقيقة التراجيدية بوصفها مسار انكشاف العالم لذاته، وقد استعاد نيتشة هذه العبارة في كتابه “قضية فاجنر” (ترجمة علي مصباح، ص 43) وأعاد تأسيس موقفه من المسرح تحت تأثيرها.

والشائع عن نيتشة انه حاول أن يتحدى نماذج الحقيقة التي كانت سائدة في عصره، وخاصة تلك التي كانت تعتقد ان الحقيقة تلازم موضوعها وتحايثه بحيث لا تنفصل عنه قط، وفي هذا الإطار كانت اللعبة النيتشوية تقوم على مراوغة أي نقطة من نقاط ترابط الحقيقة مع موضوعها وتوجيه بعض اللطمات اليها (اسلوب المطرقة النيتشوية الشهير) حتى تتسع المسافة بين طرفي هذا الترابط، وعندها تبدأ الرقصة النيتشوية -الاكثر إثارة- طبقا للخطوات التالية:

 فما دام بامكاننا المباعدة بين الحقيقة وموضوعها عند نقطة ما فهذا يعني أن الترابط بينهما ليس ضروريا في كل الاحوال، أما تلك اللحظات التي قد يبدو فيها ذلك الترابط وكأنه يطرح نفسه فهي ليست أكثر من لحظات عارضة تأسست على استعارات باتت مألوفة أكثر من اللازم.

وهكذا فما أن تبدأ لعبة المطرقة والرقصة حتى يبدأ تماسك الحقائق في التلاشي والذوبان!

وحتى الآن يفاخر النيتشويون بالفعالية غير المحدودة لهذه اللعبة وهم لم يملوا ابدا من محاولة تسجيل براءة اختراعها باسم نيتشة وكأنه الوحيد الذي اكتشفها واستخدمها!

ولكن بغض النظر عن هذا النزاع حول الملكية الفكرية، فالأكثر طرافة ان نيتشة كان واحدا من القلائل الذين اكتشفوا ان هذه اللعبة الخارقة تتعطل تماما أمام الفعل المسرحي!

ففي خضم معركته مع فاجنر/الأب/المسرحي؛ اكتشف فجأة هذه الصيغة التي اذهلته واصابته بالرعب: ففي المسرح (ما يريد أن يبدو حقيقيا، لا ينبغي له أن يكون حقيقيا)، والان كيف للعبة النيتشوية ان تكون مجدية امام “نمط للحقيقة” لا يريد اصلا ان يبدأ مما هو حقيقي، ولكنه يستطيع ان ينتهي اليه؟ أو كيف يمكنك نقد فعل لا يدعي –بل يرفض أن يدعي- أنه ينطلق من الحقيقة، ولكنه رغم ذلك يتوصل في النهاية إلى اقتناص وقع ما هو حقيقي؟

ومن الطريف أن نيتشة انسحب فكريا أمام هذا الصراع مع نمط الحقيقة المسرحي، وشن ضده حربا أخلاقية مشفوعة بالاحتقار والازدراء للمسرح ولكل من يمارسه، بوصفهم يمثلون خطرا أخلاقيا على “نموذج الحقيقة” الذي كان نيتشة يسعى لتحطيمه!

وهذا الانسحاب أو التقهقر الفكري لنيتشة أمام نمط الحقيقة المسرحي لم يتم رصده حتى الآن بالعناية اللائقة، إذ يقرأ بوصفه مجرد تطور غير هام في مشاحناته الشخصية مع فاجنر، وذلك برغم أن هذا التحول كان بمثابة انخلاع شبه نهائي للفلسفة من رهان فرانسيس بيكون الذي كان يسعى إلى مقاومة الوهم أو الحقيقة المسرحية عبر اللواذ بنموذج حقيقة أكثر صلابة وتماسكا، وهو ما يمكن أن نجد صداه حتى على مستوى فلسفة العلم المعاصرة، فالفيلسوف بول فيرابند الذي كرس عمله لتحطيم نموذج الحقيقة التجريبية الذي ينحدر من “فرانسيس بيكون” يلوذ في النهاية بنمط الحقيقة المسرحي باعتباره المرفأ الأخير المتبقي للتواصل مع الحقيقة، كما يتضح في الفقرة التالية:

“س: إذا مضيت في انتهاج هذا اللون من التفكير فسرعان ما ستنتهي إلى القول بأننا لا نعرف مطلقا ما نفعل وأن حياتنا برمتها ليست إلا وهما وسرابا ….

ص: وماذا لو كان الأمر كذلك؟ إن أي قيمة تبدو لأقوالنا هي محصلة لعدم التفكير بطريقة صحيحة، والمسرح هو الوسيلة المناسبة للتواصل لأنه يتعامل مع هذا النمط من اللاتفكير ويجعله واضحا”

(بول فيرابند – “ثلاث محاورات في المعرفة” – ترجمة محمد احمد السيد- ص 100).

7- ومن جهة أخرى، فإن تراجع الرهان على إقصاء الحقيقة المسرحية من العالم بوصفها وهما أدى إلى إعادة إنعاش الاستبصار أو الاستعارة التي قدمها القديس أوغسطين حول المسرح بوصفه نموذج اصيل لتفسير العالم، وهو ما نجده في أعمال المثلث الفرنسي الماركسي المكون من هنري لوفيفر، وجي ديبور، وفرانسوا ليوتار.

ففي الاربعينات حاول “لوفيفر” في كتابه “نقد الحياة اليومية” تطوير فكرة القديس أوغسطين حول العالم بوصفه مسرحا، ولكن بدون مؤلف أو نص أصلي، وبالتالي اعتبر عالم الحياة اليومية مجرد ممارسة مسرحية متواصلة لا تشترط الحقيقة بقدر ما تناور بها، وهو ما تعمق فيه أكثر “جي ديبور” في كتابه “مجتمع الاستعراض” الذي صدر في الستينات، حيث اعتبر العالم الذي شيدته الرأسمالية مجرد استعراض بلا أصل حقيقي، وأن ما هو حقيقي في هذا العالم هو مجرد لحظة من لحظات ما هو زائف.

ولكن مقابل أن لوفيفر وديبور كانا يتأملان في مناورات الحقيقة المسرحية و”تلاعبها بالعالم” بوصفها مرحلة مؤقتة وطارئة ستحل بعدها لحظة الحقيقة الماركسية، فإن ليوتار في كتابه “الوضع ما بعد الحداثي” (والذي كان بمثابة المانيفستو الذي حول غمغمات ما بعد الحداثة إلى تيار فكري جارف) يتحرر من هذا الرهان الماركسي ويقترب اكثر من الرؤية التي رفضها فرانسيس بيكون والتي تنصب المسرح بوصفه اصل ما يطرح نفسه بوصفه حقيقة تاريخية، وبالتالي فقد اعتبر العالم، عالم الحداثة على الأقل، مشيدا فوق بضعة حكايات كبرى بلا اصل حقيقي، وإذا ما دققنا النظر في الطريقة التي يتناول بها ليوتار “الحكاية” فسنجد أنه لا يفكر فيها بوصفها نص لغوي متداول، بقدر ما يركز على كونها أصل أو مصدر الأفعال المتجسدة أو المتعينة في العالم، وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الحكاية المجسدة في أفعال وأحداث هي أحد تعريفات ما هو مسرحي، فإن هذا يضع ليوتار فوق نفس الأرضية التي وقف عليها أوغسطين وجي ديبور، حيث العالم هو مسرحية الرب أو استعراض زائف ولا عقلاني أسسته الرأسمالية، ولكن الفارق الأساسي هنا أن ليوتار يسقط كل من الخلاص المسيحي والخلاص الماركسي اللذين يراهنان على إعادة هذا العالم المسرحي إلى ارض الحقيقة الأصلية، وبالمقابل فهو يطرح سبيلا للتحرر عبر مواصلة الانغماس في العاب الحقيقة المسرحية من خلال مقاومة الحكاية –أو المسرحية- الكبرى التي تحاول توحيد العالم وتنميطه بالانفتاح على مزيد من الحكايات الصغرى.

ولكن هل يعني هذا أن طوفان “المابعديات” الذي شهده النصف الأخير من القرن الماضي هو بدوره حالة من حالات الاستجابة أو الانفتاح على نمط الحقيقة المسرحي؟ … ربما!

مقالات من نفس القسم