حدائق النار والزعفران

محمد عليم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عليم

وراء التجريب

أي حديث عن تجربة الشعراء السبعينيين، وخصوصًا عن رفعت سلام، لا يأخذ في اعتباره ما كان عليه الراهن الشعري حينها؛ هو حديث خارج موضوعنا سلفًا، إننا هنا نتحدث عن النسق المهيمن الذي استبد بالنص الشعري العربي، منذ الجاهلية وحتى صيحة منتصف القرن العشرين مع نازك والسياب وصلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وأدونيس والبياتي وسعدي يوسف وآخرين([1])، ومعهم ومن بعدهم محمد عفيفي مطر، أقول: حتى هذه الصيحة لم تكن قد تحررت تمامًا من قبضة ذلك النسق الشعري التليد، وأستثني هنا محمد عفيفي مطر.

ربما لم نتساءل بما يكفي عن سر القطيعة التي كادت تكون تامة بين ما أتى به رفعت سلام وأسلافه ومعاصريه، هل هو محض النزق الشخصي الذي أراد محض المخالفة بحكم صراع الأجيال؟ هل كان شيئًا آخر أعمق بكثير من أحكام الظاهر؟ فما ذلك السر إذن وراء تلك المفارقة الفنية الجارحة بينه وبين من سبقوه وعاصروه؟ أغلب الظن أن سلام أراد أن يكون نفسه، يكتب وقائعه اليومية وما وراءها، وفق تأملات “مصطفى ناصف” اللاحقة في رائعته (اللغة والتفسير والتواصل)، فاختار نسقه المتقاطع مع أسلافه كما لو كان قدرًا محتومًا، ولعل ذلك ما يفسر الصرامة الشديدة التي فرضها على نفسه، وهو يختار مفرداته، ويصوغ عبارته الشعرية في نصه المهَندَس، والصرامة نفسها التي فرضها على مسلكه الشخصي، وهو يتحدث إلى جمهور في ندوة ثقافية أو على المقهى.

فيما يلي سنقرأ أشكال التجريب في تجربة رفعت سلام قراءة أفقية أقرب إلى الوصفية منها إلى التحليل الاستقصائي المعمق، وذلك نهجٌ فرضته مقصدية هذه القراءة، ولكننا، وعلى الرغم من ذلك، سنتوقف مليًّا عند بعض ظواهر التجريب، ربما لبحث العلل أو تجلية الاستنتاجات.

التجريب في الشعر يعني في أبسط دلالاته عزوفًا عن نمط سائد لم يعد مناسبًا بما يكفي، وآخر يغري بمزيد من التجديد والإثارة، يبدو أنهما بهتا كثيرًا في راهن الشاعر، ذلك سبب أول، أما الثاني: فهو متصل برأس الشاعر وثقافته ومراجعاته لنفسه، وفنه ومدى علاقته بواقعه المعيش، تلك كانت أسئلة أولى، ولكنها جوهرية في روح رفعت سلام، ثم تناسلت الأسئلة: ما الشعر؟ والسؤال هنا عن الكنه والمفهوم، ثم كيف يكون هناك مفهوم واحد للشعر ثابتًا لا يتغير، على الرغم من تغير الأزمان والوقائع؟ ولم تأت تلك الأسئلة من فراغ، لكنها انعكاس لوعي الشاعر وسعة إحاطته بتحول الحضارات وتنوعها من حوله في سيرورة الزمان، من هنا كانت الخطوة الأولى، ومن هنا أردنا أن نتعرف على مظاهر المفارقة الفنية (التجريب) وارتقاءاتها في شعر رفعت سلام، ذلك الذي غافل الجميع وانسل من بينهم، وخرج بعيدًا إلى مطلق البكارة، خروج جده الصعلوك الأول، قبل أكثر من ألف وخمسمئة عام خلت.

سمات أولى

أصدر رفعت سلام ديوانه الأول: (وردة الفوضى الجميلة) عام1987، ومن حيث الشكل العام للنصوص على فراغ الورق بدت مألوفة للوهلة الأولى، فالعناوين على رؤوس القصائد، ونثر الأسطر الشعرية مع بعض تفاوت في المساحات الفارغة بين الفقرات، لكن نظرة أخرى إلى تلك النصوص كشفت عن الكثير مما لم يكن مألوفًا في ذلك الوقت، من حيث العناية الشديدة بالمفردات، منفردة، وفي لحمة الجملة الشعرية، ولننظر إلى المقطع الآتي في مفتتح نص “منية شبين”:

ترحلُ القطاراتُ للشرقِ بالأبناء،

لكن.. لا تعود.

ترحلُ الفتياتُ نحو الشرقِ للأبناء،

لكن.. لا تعود..

ينفتح النص على عوالم الفقد المتراكم، حيث رحيل الأبناء والفتيات في اتجاه الشرق/الحرب بلا عودة، ذلك هو المفهوم المفتاح الذي سيتشكل النص على أساسه في كل تنويعاته اللاحقة، وهذا في ذاته لا يمثل ابتكارًا أو تجريبًا على أي نحو، فقد سبق المنجز الشعري العربي والعالمي إلى مثل هذا المفهوم في حقب سابقة، لكن بنية النص الهيكلية (التي سيعمل المقطع السابق من خلالها نقطة ارتكاز تتكرر لاحقًا، لأهداف تتعلق بتنشيط ذاكرة المتلقي واتساق النص) ستُدخل النص في قلب طرح جديد للخطاب الشعري؛ بما يضعه في قلب تجريب شعري سيأخذ أشكاله.

في كل مرة يرد فيها المقطع متكررًا وقائمًا على هذا التوازي، يأتي على النحو نفسه، من حيث ثبات علامات الترقيم وأحرف الجر والنقاط الأفقية على السطر، هذا الانضباط في وضع الكلمة والتركيب في بداية الرحلة، لابد سيقطع الطريق على اتهامات محتملة قادمة لصور التجريب الأخرى التي سنرصدها، وخلاصتها أن هذا الشعر عرف طريقه بمقدار ما أوغل في غموضه، على نحو ما يرى البعض.

سنجد أنفسنا أمام معجم شعري جديد إلى حد لافت، يرد منفردًا ضمن علامات ترقيم تغلب عليها الفاصلة، مع اختفاء تام لأدوات الربط المعتادة، وسأكتفي بالنموذج الآتي الذي تلا المقطع السابق من النص نفسه:

القطاراتُ، الرحيلُ، اللوعةُ، الأبناءُ للحربِ، مناديلُ الأمهاتِ، الصِّبْيَةُ، الفتياتُ، السوادُ، الرصيفُ المقفرُ الخالي، نشيجٌ، بائعُ الكولا، مواءُ القطةِ الحاملِ، نظرةُ الدهشةِ من عينِ المدينة..

على هذا النحو الهائل من الجمل المبتورة عمدًا، يرصد رفعت سلام جانبًا من تفاصيل المشهد بعد الرحيل الأبدي للأبناء والفتيات في اتجاه الموت، هكذا كان المشهد متناثرًا كأشلاء لا يربطها جسد، أو قل هكذا بنى رؤيته الشعرية الأكثر وجعًا (عبر نزع أدوات الربط ومن قبلها متممات الجمل) في مشهد أجاد تمزيقه، قاصدًا إلى ذلك قصدًا.

إن رفعت سلام يحاول هنا أن يقدم معادلًا بنائيًّا للحظات العاصفة التي تمر بها القرية/ كامل البلد، يجلي من خلالها رؤيته المشفقة الغاضبة، وكان من أثر ذلك أن كل مفردة مثلت مبتدأ منزوع الخبر، هي جزء من مشهد شديد التعقيد والارتباك، إذ اجتمع في هذا المشهد ما يصعب حصره في الواقع.

يمضي سلام في نزوعه التجريبي إلى صورة أخرى، فيظهر أكثر من صوت في النص الواحد على نحو متوازٍ يمين الصفحة ويسارها، وهي الظاهرة التي ستنمو لتأخذ في الدواوين اللاحقة أطوارًا أخرى، واستضافة صوتين أو أكثر في النص الواحد لم تكن ابتكارًا خاصًّا برفعت سلام إذا استحضرنا سعدي يوسف وأمل دنقل وغيرهما، لكن تجاور الأصوات في النصوص اللاحقة سيشهد تفردًا ينفرد به سلام وحده، ففي نص (تنحدر صخور الوقت إلى الهاوية) ، يستضيف ثلاثة أصوات، صوته وصوت حبيبته مندمجين في يمين الصفحة، مع تمييز صوتها بفنط مائل مختلف، وصوت ثالث على يسار الصفحة، يتمم الثنائية الضديةالتي ينمو النص على مفارقاتها.

يتكرر الأمر نفسه في نصوص أخرى من الديوان مع اختلاف قليل، من مثل ما نجد في نص (وردة الفوضى الجميلة)، حيث يميز صوتين مضفورين معًا باختلاف الفنط على اليمين بتسويد أحدهما وإمالته، وتكبير حجم الصوت الثالث وإمالته على اليسار، تجسيدًا للسطوة ومقاومتها في الآن نفسه.

هذا التعدد للأصوات في النص يجنح في غالبه إلى كثافة الشعري واشتباكه في سياق نمو الرؤية الشعرية، واللجوء إليه أقرب إلى التخفف من تلك الكثافة وعدم تعقيدها حال الكتابة من منظور التجربة، لكن إدراكه يبقى عملية صعبة، لا تتيسر إلا لمن أخلصوا الإنصات للنصوص، ربما أتحدث عن مدى الوفرة الشعرية حال الكتابة، تلك الوفرة التي تجد مخارجها في أكثر من صوت شعري تتضاد معا غالبًا، أو تتضام نادرًا.

مجاوزة المتن

في ديوان (إشراقات رفعت سلام/1992)، تنمو صور جديدة للتجريب سبق ممارستها، وتختفي أخرى، وتحل صور جديدة لم تكن من قبل، فعلى الرغم من استمرارية العناوين على رؤوس القصائد؛ يواجهنا صوتين بوضعيتين مختلفتين، لصوت واحد هو صوت الشاعر، إلا أن أحدهما وهو المتن (جسدُ النص) مقدم على الآخر، أو هذا الآخر أُريد له أن يكون في الخلفية (هامش النص)، لننظر نص مراودة الذي يبدأ متنه، ويستمر على يمين الصفحة مرة ويسارها مرة أخرى في الصفحة التالية، والهامش بالعكس:

هأنتِ تسرقين النسيانَ وتتركين الذاكرةَ

عاريةً تتناهشُها طيورُ الأسى والبكاءِ فهل

كانت حمحمةُ الموتِ حُلمًا أم العاصــــــــــفةُ

عصفت بالعصافيرِ الرمليةِ فراودَنا المدى

فعدونا بلا أقدامٍ ليمحوَ الماءُ ما لم نتركْهُ

على الرمالِ لا فها هو النسيانُ يفـــــــــرُّ في

الفراغِ المراوغ..

يستمر المتن على اليمين ثم ينبت الهامش من كلمة (الفراغ) على اليسار وبفنط أصغر، على النحو الآتي:                                      

  “يفرُّ في الفراغِ رَوَّاغا،

فيرتمي على خصري:

العراء.

لا ماءَ يعرفُني،

فيستبيحَني،

ولا يحطُّ في جسدي

الخَواء.

رملٌ رماديٌّ،

وظلٌّ ناعسٌ،

بلا مطر”.

بالنظر إلى المتن في المقطع السابق (والكلام هنا سينسحب على بقية نصوص الديوان) نلاحظ عددًا من السمات، منها مجيء المتن بهيئته العمودية المتصلة في غياب تام لعلامات الترقيم، وحضور وافر لأدوات الربط، على العكس مما كان عليه شاهد ديوان وردة الفوضى الجميلة، بما يعني استمرارية كثافة الشعري حال الكتابة أيضًا، ولكن هذه المرة في اتجاه تضام لحمة المشهد ووحدته، وهو نزوع مختلف عما كان من تمزيق وتفتيت للمشهد الشعري فيما سبق.

طبيعة التجربة حال الكتابة؛ هي التي تفرض هذا النسق أو ذاك وفقًا للمقول الشعري، ولكن رفعت سلام لم يقدم الشكل المضاد وحسب، وإنما استنبت إيقاعات مصاحبة قامت على مجموعات الأصوات المتشابهة المتتابعة بما يشبه الصلصلة، من مثل حروف: العين والصاد والفاء في (العاــفةُ عصفت بالعصافير.. )، والراء والغين والفاء في: (يفرُّ في الفراغِ المراوغ).

أما الهامش، ونحن مازلنا في سياق كثافة الشعري حال الكتابة، فقد جاء مختلفًا، فزيادة على كونه يتجاوز مهمته التفسيرية المحدودة كما هو السائد؛ فإنه يفتح بابًا إضافيًّا لإثراء التجربة بامتداد الرؤية إلى خارج المتن الشعري، وإن بإيقاع شعري مختلف، فالهامش على العكس من المتن لم يأت مشدودًا إلى أَبَدٍ، ولكن جاء منبسطًا، حرًّا، تتخلله علامتا الترقيم (الفاصلة والنقطة، زيادة على مختلف أدوات الربط) وبما يسمح بالتقاط النفس، ليظل الرابط بين المتن والهامش في هذه الحالة هو نسبية الإيقاع علوًا في المتن وانخفاضًا في الهامش، هذا الازدواج في الإيقاع أضاف رافدًا أساسيًّا لتوازن النص من جهة، تفاوتًا وتبادلًا، وساعد على انسجام النص من جهة ثانية، إذ المتن هو الذي يطرح الهامش، والهامش يرتد على المتن.

ينمي سلام في (الإشراقات) نزوعه التجريبي درجة أخرى، فنجد في المتن بعض الفقرات الشعرية المميزة بالأسود الثقيل، هذه الفقرات تشتغل على تصحيح مسار الرؤية الشعرية من ناحية المفهوم/ الدلالة، وفي اتجاه يبدو اختزالاً لحدة امتداد غضب المتن في غالب المواضع التي وردت فيها.

من حيث التصميم الهيكلي للديوان، قسمه الشاعر إلى عدد من الإشراقات، الأولى (إشراقة المروق) يتفرع عنها العناوين (مُراودة، مراوغة، مراوحة، مكابدة)، ثم (إشراقة السفر) وتأتي نفسًا شعريًّا واحدًا، ثم (إشراقة الغياب) يتفرع عنها العناوين (قاف، راء، عين، حاء، راء، صاد، سين، لام، خاء، كاف، قاف، وتاء، وياء)، وبالنظر إلى التقسيم السابق؛ يتأكد لنا وعيًا سابقًا على الكتابة هو الذي قاد إلى إدهاش التجريب في هذه النصوص، وتتجلى من ثم عناية التحضير المطول للديوان، بما يشمله كل قسم أو عنوان فيه، وهو ما يمكن وصفه بهندسة النص/ الديوان، حتى لكأنه بحث علمي، أجاد كاتبه وضع خطته، مع قسوة التشبيه.

مازلت أتحدث عن الجانب الشكلي بطبيعة الحال، أما الغوص في تفاصيل الأقسام والعناوين المنبثقة عنها من منظور تأويلي معمق؛ فشيء آخر، سيأخذ في اعتباره كثافة فردانية خطاب الشاعر أول الأمر، وعلة ذلك، ثم يناقش دلالة الوصل والقطع ووجود الروابط من عدمها، وعلاقة ذلك جميعه بمنظور الرؤية الشعرية، ومجال القول الشعري، وأثره على اتساق النص وانسجامه، وسيرصد مصادر التخييل في النص الحداثي، بدءًا من النبر فالإيقاع، ثم الوحدات الصورية الصغرى، وانتهاء بالمشهدية المتكاملة، ثم يبحث أنساق تداخل الأصوات من حيث التقاطع أو التوازي داخل النص، ودورها في تحقق التجربة، وأثرها في عملية التلقي، ثم سيتوقف أمام المعجم الشعري، والظواهر الأسلوبية التي مثلت تجريبًا مفارقًا في الخطاب الشعري عمومًا لرفعت سلام … الخ.

غرائبية المشهد

صدر ديوانا: “إنها تومئ لي” و “هكذا قلت للهاوية” في عام واحد (1993)، ولكن اللافت في الديوان الأول أنه جاء، من حيث الشكل، على النمط المألوف، فالعناوين على رؤوس القصائد (القصيرة جدًا) تغطي كامل الديوان، الأمر الوحيد اللافت الذي يمكن أن نعده تجريبًا، إلى جانب شفرية الجملة الشعرية؛ هو أن تلك النصوص يمكن عدها مشاهد شعرية بمحض مفهوم مصطلح المشهد، فلدينا الحدث، وفاعله، والواقع عليه (القابل)، وبيئته، والتفاصيل (الأشياء)، وعلته، وأثره، ولكن الجديد الذي أضافه رفعت سلام إلى مشاهده في (إنها تومئ لي) هو ذلك الإدهاش عبر المجاز في تصميم أحداث كل مشهد/ قصيدة، ولننظر نص (أخيرة):

نظرةٌ أخيرة:

شمسٌ تحتسي شايًا،

رياحٌ تنامُ في فِراشي،

وغيمةٌ تحت الوِسادة،

نارٌ تصعد الجِدار،

أشياءٌ صغيرةٌ تُومئُ لي،

وعُلبةُ السجائرِخاوية.

فأمضي.

يرسم رفعت سلام مشهده السابق بعد انتهاء أحداثه الفعلية على ما يبدو، مراهنًا على استعادة تلكالأحداث الغائبة لتتضام مع الأحداث الإشارية المثبتة في النص، والتي تمثل النظرة الأخيرة قبل المغادرة: (شمس تحتسي، رياح تنام، غيمة تحت الوسادة، نار تصعد الجدار، خواء علبة السجائر)، هذه التفاصيل الإشارية الجانحة إلى الإدهاشي، إذا نظر إليها بوصفها بين قوسين (النظرة الأخيرة – المغادرة) فإنها تبدو لنا آثارًا لأحداث أخرى أشد اعتمالية وغرابة جرت من قبل، وعلى كل منا أن يستدعيها تخيلًا وفق ما شاء، عادًّا التفاصيل الإشارية في النص مآلات لتلك الأحداث التي انتهت بالفعل، وبناء المشهد بالصورة السابقة اعتمادًا على المتلقي يبلغ بالنص حده الأقصى في اتجاه (القصد) الذي يهدف إليه الشاعر في النهاية.

ترويض الشعري

عندما تقرأ ديوان (هكذا قلت للهاوية – 1993) يتأكد لديك أن النفس الشعري لرفعت سلام، وهو يصوغ تجربته في النص/ الديوان؛ لا حد لفيضانه، وأن كل (تصرفاته) على فراغ الورق ما هي إلا محاولات مضمرة لترويض فيضان ذلك النفس، الأمر الثاني الذي تلحظه هو ألا علاقة بين هذا الديوان وديوان (إنها تومئ لي) على الرغم من تزامن صدورهما، باستثناء صرامة بناء الجملة الشعرية، عدا ذلك فنحن أمام حالة مفرطة من التجريب الشعري، سأتوقف سريعًا أمام الأبرز منها.

يسقط الشاعر عناوين القصائد للمرة الأولى، وإن أبقى على مواضعها بخط أفقي يدل على غيابها، ولأول مرة أيضًا يغيِّب علامات الترقيم وأدوات الربط ويشير إليها بفراغات أفقية داخل المستطيل الذي اتخذ وضعية عمودية على غالب الصفحة، مع التركيز على كثافة المجاز في بنية الجملة بضفر المسند والمسند إليه في جمل تامة، ولكنك تتردد كثيرًا في تلقيها كجمل مفيدة بالمعنى المألوف، من مثل (صمتٌ يهوي على حجرٍ/ خنجرٌ معلّقٌ في سماء الذاكرة/ صبيٌّ يهرب خوفًا من الخميس.. وهكذا)، وبين جملة وأخرى تنتشر الفراغات الأفقية، وهنا تكرار لنسق كتابي سابق في (وردة الفوضى الجميلة)، بزيادة الفراغات الأفقية، ويمكنك أن تترجم هذه الفراغات على طريقتك، كأن تعتبرها نوعًا آخر من التمزيق الذي مارسه هناك وإن بإيقاع آخر أقرب إلى تبطيئ الكاميرا هنا، إمعانًا في تسليط الضوء على التفاصيل الشائهة ومضاعفتها لأهداف تأثيرية، ويفاجئك الشاعر في مقطع لاحق بتغييب تلك الفراغات وحضور أدوات الربط، وكأنه يمارس لعبة التوازن في بحر عاصف.

فيما يشبه العنوان يضع الشاعر في منتصف الصفحة جملة بالحجم الكبير على هيئة شعار في مظاهرة حامية، مثل هذه البنيات الشعرية تجسد بؤر النص المضيئة التي تمثل غايات الشاعر منها، والشواهد كثيرة، ومبثوثة في معظم الديوان .

النص النُّصوص

في كل من ديواني: (إلى النهار الماضي/1998 ــــ كأنها نهاية الأرض/2000) لا يقدم الشاعر أشكالًا كثيفة للتجريب أكثر مما تقدم، ولكنه يثبت عناوين النصوص في الأول، ويسقطها من الثاني، على غرار ما فعل في دواوين سابقة، وفي الديوانين معًا يُدخل عنصرًا تجريبيًّا جديدًا لم يظهر من قبل، وهو تخلل المستطيلات العمودية بعض الفقرات التي حرص على أن تكون موزونة بقوافٍ متواترة، على غرار قصيدة التفعيلة، تلك الفقرات المخالفة للنسق الكتابي والخطاب الشعري، أراها إحدى مظاهر التقاط النفس بين النسق الشعري اللاهث المتواصل، وهي ظاهرة تكررت سابقًا وإن بصور أخرى، من مثل الفراغات الأفقية والرأسية، أو الجمل ذات الفُنط الكبير المسوَّدة خلال امتداد النفس الشعري في النص، ويمكن تأويل تلك الصور التهديئية في نصوص سلام إلى وجهات أخرى تكون من صميم القراءة الفنية للخطاب الشعري، وما حواه من وسائل وتقنيات عديدة، وهو ما ليس من أهداف هذه الوقفة.

الطفرة التجريبية في تجربة رفعت سلام؛ تجسدت في ديوانه: (حجر يطفو على الماء/ 2008)، واكتملت في ديوانه: (أرعى الشياه على المياه/2018)، إذا عبرنا ديوان: (هكذا تكلم الكركدن – 2012) على أهميته في سياق ما نحن فيه، ومازلت هنا أرصد الجانب الشكلي وتماسه مع المقول الشعري بالكيفيات التجريبية كافة لرفعت سلام.

فلماذا، إذن، مثّل هذان الديوانان طفرة تجريبية؟ لأن الشاعر لم يكتفِ بالأطوار التجريبية التي ألمحنا إليها سابقًا، بل أدخل على فضاء الورق عناصر بصرية أخرى مثل: الرموز الفرعونية وغيرها، والعبارات الأيقونية التراثية، وحشد من الأصوات الشعرية المتداخلة ما فاضت به الصفحة الواحدة، ويتساءل القارئ عن سر هذا الازدحام البصري الفائض عن المتن اللغوي الأساس، للدرجة التي يُعتقَد معها أن الشاعر ينفض صفحاته نفضًا في اشتعال التجربة حال كتابتها، وكما ألمحت في مواضع سابقة، حينما حاولتُ استكناه جدوى الهامش في وجود المتن، وأنه امتداد للرؤية الشعرية لما هو خارج النص، أقول الكلام نفسه هنا، وإن بكثافة أعمق، بحيث يتجاوز الأمر هنا الحديث عن تداخل الأصوات داخل النص، إلى تداخل النصوص داخل النص، فكيف حدث ذلك؟

في فاتحة (حجر يطفو على الماء) يبدأ المتن اللغوي لما يبدو نصًّا:

(حجرٌ يطفو على الماءِ الهوينى؛ أيها الزمنُ القاسي اتئدْ؛ قادمٌ هو النسيانُ والسلوى وأسرابُ الخفافيشِ؛ سرابٌ حتى مطلعِ الفجرِ، خرابٌ يتمشى وئيدًا في الشوارعِ، يصعدُ المنابرَ، بندقيةٌ مشرعةٌ وهراوةٌ مرفوعةٌ، ما الوقتُ؟ .. )

أعلى المتن في منتصف الصفحة يكتب بفنط مُسوَّد مختلف بيت المتنبي الشهير:

أغايةُ الدينِ أن تُحفو شواربَكم

يا أمةً ضحِكت من جهلِها الأممُ

على هيئة سطرين منحدرين من أعلى إلى أسفل، في مواجهتهما على اليسار تقف بومة محّدِّقة، بعد أربعة أسطر من المتن اللغوي يبدأ مقطع مسود بحجم أكبر قليلًا، ثم استئناف المتن مرة أخرى، على يمين منتصف الصفحة يكتب بخط كالذي كُتب في الأعلى:

أيها القطيعُ الذي يقضُمُني في الظلام/ لك السلام

في مواجهتها وضمن حيز المتن اللغوي على اليسار رسمة لشمس مشرقة، أسفل الشمس وتحت ما يبدو أنه سطح ماء كُتب:

لي أن أصرخَ الآن أو أصهلَ أو أعويَ أو أنبحَ أو أموءَ أو أشقشقَ أو أبقبقَ أو أزقزقَ أنا الحيوانُ البريُّ أعدو وراء سهامِ الصائدين وكلابهم

في أسفل الصفحة على اليمين، صورة جعران (خنفساء)، وفي منتصف الأسفل صورة كلب، وفي أقصى اليسار كتب ما يشبه الهامش النازل من أعلى إلى أسفل استكمالًا للنص السابق المكتوب تحت الشمس:      

وامتطيتُها إلى سوقِ اللصوصِ والقتلةِ؛ فراودها واحدٌ فهزَّت ذيلها، وقالت: هذا آخرُ الشوطِ؛ فلتفرحْ، ولكني بكيتُ

هذا وصف إطاري لصفحة واحدة تمثل مفتتح ديوان: (حجر يطفو على الماء) وتتكرر على نحو أكثر تكثيفًا في ديوان:(أرعى الشياه على المياه) فما الذي يعنيه ذلك؟ إذا كان لابد من السؤالمن أين نبدأ؟ فسأختار المتن اللغوي أولًا، لأتعرف على وجهة الشاعر في مقوله الشعري الأساس، ثم أبحث عن العلائق التي تربط المتن بما خرج عنه أو داخَلَه أو استدعاه من مقطعات مختلفة الأوضاع ورسوم ورموز، في ضوء ذلك؛ سأحدد عددًا من المفاهيم تخص المتن وغيره، لنرى إن كانت هذه الكثافة الخارجية خادمة له أو عبئًا عليه.

وفق الشاهد السابق للمتن اللغوي، يؤسس الشاعر لمفهوم طغيان الاستبداد الذي أخذ أشكاله (الخفافيش/سراب/خراب يعم/ بندقية/ هراوة)، بما يعني حالة من الجنون والحماقة تسود المشهد، فإذا ما نظرنا إلى بيت المتنبي نجده داعمًا للسياق المفهومي نفسه كونه ينفي علاج الحماقة، أما صورة البومة المحدِّقة فهي دفاع الشاعر عن مواجهة كل أشكال العنف والطيش، لكونها رمزًا حضاريًّا عالميًّا يشير إلى الحكمة في خلاصة مغزاه، وفى مرموزه الفرعوني يشبه حرف الكاف الذي قدسه المصريون، لوروده ضمن اسم أهم آلهتهم (آمون)، ولكونها كانت الطائر المفضل لدى الملك رمسيس الثاني، أما المقطع الذي يرد في منتصف يمين المتن، فإنه يكرس دلالة الطغيان ووشوك الاستسلام، إلا أن صورة الشمس على اليسار ترد داعمة لفكرة الصمود والحمل على المواجهة، لكون الشمس في المرموز الفرعوني تشير إلى الإله (رع) رمز تجدد البعث والميلاد، من هنا يأخذ المتن اللغوي اتزانه بتعاضد تلك العناصر التي تهدمه وتعيد بناءه مرة أخرى.

بقيت ثلاثة عناصر جاءت على هامش المتن اللغوي؛ أولها: المقطع الذي يلي الشمس وكذا امتداده إلى أقصى يسار أسفل الصفحة، إذ يجسد روح المقاومة الإيجابية للشاعر في مواجهة طغيان المتن، كونه مستلهمًا من الشمس الرامزة إلى التجدد والبعث وفق الأدبيات الفرعونية، ثم صورة الجعران (الخنفساء) أسفل يمين الصفحة، فهي في مرموزها الفرعوني تشير إلى (أرض الإله) أو العالم، فيما يشبه تعرية بشاعة الطغيان وتقزيمه بمواجهته بما هو أكبر منه إحاطة وشمولًا، العنصر الأخير هو صورة الكلب، وجاء أسفل المتن في المنتصف، ليمنح النص استمراريته ويضاعف أشكال الاستبداد والطغيان كذلك، فالكلب يشير إلى (سِت) الذي يرمز إلى القوة الغاشمة والعنف الأهوج، إذ تقول الأسطورة إنه اندفع بعنف خارج رحم أمه حين ولدته، ويشير أيضًا إلى العواصف والمرض والاضطراب، فإذا ما أعدنا النظر إلى الصفحة بمنظور مختلف؛ أمكننا أن نرى الرسوم والرموز والمقاطع الخارجية أشبه بحراب متواجهة لسحق المتن الشعري وحمايته في الآن نفسه، وكأن الشاعر يبني قصيدته في ساحة معركة ضارية، تهدمه وتعيد بناءه معًا، ولا أستغرب إن جاء آخرون بتأويلات شتى لمثل هذه الغابة من التجريب الشعري.

أخيرًا، وقد انتهيت من هذه القراءة الأفقية، أشعر أنني لم أقل شيئًا، معزيًا نفسي أن من يدخل عالم رفعت سلام، عليه أن يقنع بما تيسر من حدائق النار والزعفران، وحسبنا أننا أمام شاعر تجاوز نطاقاته كلها؛ فكتب نصه بما استطاعه من كيفيات خارجة عن النسق، ليبقى يانعًا إلى الأبد، فسلامًا على روحه في الخالدين.

…………………………..

[1] ينظر: عبد الله الغذامي، النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق الثقافية العربية، الفصل الأول، ط1، 2005، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم