رأيت رام الله .. رحلة الغربة والألم!

رأيت رام الله .. رحلة الغربة والألم!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هذا لقائي الأول بالشاعر الكبير مُريد البرغوثي

لا أصنف هذا الكتاب كروايةٍ ، ولا كسيرةٍ ذاتيةٍ ، لأنها تروي جزءًا بسيطًاً من الحقيقةِ ، أو جزءًا من حياة مُريدِ ، لا من جميع النواحي .

يحكي عن رحلته التي تأخرت كثيرًا حتي تحققت ، خرج من فلسطين ليدرس، ولم يستطع العودة إلا بعد ثلاثين عاماً !

يا الله ..

هناك فارقُ كبير بين أن تغادر بلدك ، وتظل لسنوات طويلة دون أن تعود ولو زيارة عابرةٍ ويكون هذا بمحضٍ إرادتك ، ومن عقلك ومن قناعاتك ورغبك ، وبين أن تُجبر ألا تعود ، لا لأن الظروف لم تسمح ، لا لأن لم يكن لديك مال كاف أو رصيد إجازة ، لا لأنك كنت مريض .. بل لأنك منفي ومجبر ألا تعود .

أحببتٌ مريد في الكتاب ، أحببت مريد الإنسان ، لا الشاعر ، ولا زوج الراحلة العظيمة "رضوى  عاشور"  مُريد فقط ، كشخصٍ عانى ، ووصلتني مًعاناته بل ولمستني وأنا التي لم تحيا شيئًا مشابهًا.

أحببتُ ما كتب ، أنا التي لم تتغرب إلا سنواتٍ قليلة في صغري ، ولم أذق معنى اغتراب البلد ، ولا المنفى .

أحببتُ الكلمات التي صاغها ، فلمستني ، لمست غُربتي الشخصية ، ودمعت عيني ، أحببت إنسانًا استطاع أن يعبّر عن غربته ووحشته وعما آسى ، فشعرت أنها انا ، أو انها غربتي انا

في مديح كل الكتابات التي لا يكون سياقها العام يلائمُنا ، لكننا عندما نقرأها نشعر بها كسياق خاص

.

بمقدور الشاعِر أحياناً أن يصير حكيمًا وألا يتبعه الغاوون ، وأن يكسر قواعد ثًبِتت منذ أعوام ، وأن الشاعر ليس إلا هائمًا وخياليًا دائمًا ، بل يمكنه أن يكون أكثر واقعية وحكمة من غيره .

هذه الكتابة كانت تلقُنُني دروسًا في الحكمة ، دروسًا أعرفها جيدًا لكن حروفها عندما ترتطم بعيني تحدت طنينًا برأسي .

الكتابة الأقرب دومًا هي الكتابة التي نشعر بها أننا نحن ، أو أنها كتبت خصيصًا لك .

رأيتُ مريد الإنسان ذو الخِبرة والحكمة :

يقول :

ما مصدر هذه الغصة  الصغيرة في البال ؟ وأنا هُنا داخل الحلم بذاته  “

وأتساءل ..

هل يمكن لمن عانى كثيرًا وتألم وفارق أن يشعر بلذةِ السعادةِ والوصول أخيرًا دون أن يشعر بغضةٍ ما ؟ أو أن هناك تخلٍ ما عن كل ما رافقه دهرًا ؟

في مرحلةٍ ما بعد أن يُلازمك حزنًا طويل الأمد ، إن واتتك سعادة ما ، بطريقةٍ ينتابُك شعور بالخيانة تجاه رفيقك الأوفى ” الحزن ” وأنك بطريقة ما لا تصدق ما أنت فيهِ ، لا تشعر بهِ كامًلا ، لا تصدق أنك تحياه فعلًا .

.

يقول أيضًا عن السعادة التي تأتي  – أخيرًا :

أنت لا تبتهج فورًا بمجرد أن تضغط الحياة زرًا يدير دولاب الأحداث لصالحك ، أنت لا تصل إلي نقطة البهجة المحلوم بها طويلاً عبر السنوات وأنت وأنت ..

إن السنوات محمولة على كتفيك ، تفعل فعلها البطيء دون أن تدع لك أي أجراس .”

كيف نُشفى من آلام أحزان أوجاع خذلان فقدان غربة واغتراب ، عانينا منه لسنوات فجأة هكذا دون أي مقدمات لمجرد أن الحلم أخيرًا تحقق .

هذا لا يحدث ..

ويقول شارحًا :

استحالة الابتهاج المطلق بعد الفقدان

أدهشني أن خيالي مستمر في ممارسة شغله رغم وعيي الحال بأنني أمشي على الأرض التي كانت شغلاً لخيالي في سنوات البعد الطويلة .”

.

إنها المسألة نفسها ، مسألة رتق زمنين بالإبرة والخيط ، الزمن ليس خرقة من الكتان أو الصوف ، الزمن قطعة من الغيم ، لا تكف عن الحركة ، وأطرافها غائمة مثلها “

الماضي يصنع الحاضر بطريقة ما ، الماضي لا يتغير ، تُحفر أيامه أياً كانت حلوها أو مُرها بالذاكرة ، تُحفر حفرًا غائرًا ، أقول دائمًا نحن بحاجةٍ لسعادةٍ بنفس مقدار الحزن الذي عانيْناه ، بمقدار أقل لن يُجدي نفعَا ، شيء بنفس قوةِ الحزنِ وعكس اتجاهه .

.

يقول في درسٍ آخر :

علمتني الحياة أن علينا أن نحب الناس بالطريقة التي يحبون أن نحبهم بهم “

درس صغير في الحبِ ، أو درس عقلانيْ في الحب ، البعض إن أحب لا يستطيع كبح تصرفاته وإن كانت بدافع الحبِ ، هذه التصرفات التي قد تؤذي مشاعر الآخر ، الآخر الذي قد يتفهم أحياناً أن هذا حبًا ، إلا أنه قد يضيق ذرعًا يومًا ما بما تفعل لأنها ليست الطريقة التي يحبون  .

.

يقول في ريبةٍ عن الليلِ :

أمر محير وغريب ، كل العودات تتم ليلًا ، وكذلك الأعراس واللذة والاعتقالات والوفيات ، وأروع المباهج ، الليل أطروحة نقائض  “

وهو كذلك بالفعل ، الليل مجمع كل شيء ، الوحدةِ والحب ، السَّمر أحياناً والبكاء ، الليل مختلف عن النهار ، النهار متشابه عند أغلب الناس ، الليل لا يفعل ، الليل هو الوقت الوحيد الذي يخبرك بالحقائق دائمًا ، إن كنت سعيدًا بالليل ففي الصباح ستكون كذلك ، إن كنت تعيسًا ستستيقظ وأنت تحمل  تعاسة الليلة السابقة على صدرك .

الليل هو الوحيد الذي يخبرك بكل صدق كم أنت وحيد  تعيس أو سعيد .

.

يقول في الغربة :

إن العائد يعود وعلى كتفيه أحمال يستطيع المرهف أن يراها ، كما يري عتالاً محني الظهر في ضباب الميناء ، المنشود هنا البطيء ، ستتخذ اهتزازات الماضي مداها إلي أن تهدأ ، وتسكن ويجدها لها شكلها الذي تستقر فيه  “

في الغربة نفقد أشياء منا دون أن ندري ، أشياء تتسرب منا عامًا بعد عام ، لا نستطيع أن نحصيها لأننا لا نشعر بها ، أشياء أخرى نحملها ، أشياء لا نعرفها ولا نسبق لنا أن جربناها ، أشياء تتشبث بنا ، كل هذا لا نشعر به إلا فجأة عندما نعود ليبدأ كل شيء في الظهور آثار ندبات الفقدان ، أثار ما ألتصق بنا ..

.

يقول :

لا غائب يعود كاملاً ، لا شيء يستعاد كما هو “

حقيقة أخرى ، ما يذهب لا يعود ، وإن عاد لا يعود كما السابق .

.

يقول :

العالم يواصل تأرجحه “

ليست  المشكلة في أنه يتأرجح ، المشكلة أنه يتأرجح ونحن داخله ، هو يتأرجح كأنه يلعب ، أي يلعب بنا بكل عبث وكأننا دمى يحركها كما يشاء لا كما نشاء ، العالم يواصل تأرجحه لذلك أنت لا تدري بكل يقين أين ستبيت ليلتك القادمة .

.

يكرر – يؤكد

الحياة تستعصي على التبسيط “

.

يقول :

يظننا شلة سعيدة من الأصدقاء لكثرة ما نضحك بصوت عال ، المسألة أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه ”

من المشاهد المُكررة في الحياة بكل سخرية

أتساءل هل دومًا الأكثر ضحكًا هم الأكثر حزنًا ؟

هل إن توقفنا عن الضحك ، صرحنا سعداء حقًا  ؟

لا .

.

يقول في فلسفةِ أخرى :

من المريح دائمًا أن نصور المأساة فيما يقع علينا فقط ، لا فيما نفعله بأيدينا أيضاً “

ربما لأن هذا قد يخفف من وطأة الأمور ، الشعور بأن كل الأشياء السيئة لا دخل لنا فيها ، هذه الفلسفة مريحة للعقل ، ولذوي صوتِ الضمير العالي الذي لا يسكت ، أن تضع نفسك في خانة المجني عليه وأن كل الجناة يقعون خارج حدودك .

.

في السؤال الأكثر حقيقية يقول :

لماذا يظن كل شخص في هذا العالم أن وضعه بالذات هو وضع مختلف ؟ هل يريد بذلك أن يتميز عن سواه من بني آدم حتى في الخسران ؟ “

لماذا – البعض – إذا وجد مُتألمًا سارع بإخباره بآلامه التي يحسبها أكثر مما يعانيه الآخر  ؟ ما الجيد في الأمر ؟ وما هو وجه التفاخر في ذلك على أيةِ حال ؟

الكل يُعاني دون استثناء .

.

يقول في جملةٍ معبرةٍ عني كثيرًا :

أن ينظر إلى اطمئنانهم ليخبرهم أن السعادة تكذب ، أن الأمان يكذب ، أن الوسامة تكذب ن الحب يكذب ”

لقد وددت كثيرًا أن أقولها للكثيرين ، يزعمون دومًا أنني شخص كئيب ، لكنني وددت حقًا لو أقولها ثم أتراجع معللة ذلك أني ادعهم يخوضوا ويلعبوا سيعرفون ذلك يومًا ما .

هذه ليست كآبة ، هذا واقع أراه جيدًا ، وهذه الجملة جسدته جيدًا ، الأشياء تكذب ، مزوَّرة ، عليها غشاوة أو على الأبصار ..  وأن كل ما يروه غير حقيقي .

.

رأيتُ مُريد الشاعر :

يقول :

أحب القصيدة وهي تتشكل بين أصابعي صورة بعد الصورة ، حرفًا بعد حرف ، بعد ذلك يبدأ الخوف ويهرب اليقين ، تنتهي عندي تلك اللحظة الراضية التي يسمونها فتنة الخالق بالمخلوق “

يقول أيضًا :

هل الشاعر يعيش في المكان أم في الوقت  ؟ ”

.

يقول أيضا :

الشاعر يجاهد ليفلت من اللغة السائدة ، المستعملة ، إلي لغة تقول نفسها للمرة الأولى ، ويجاهد ليفلت من أظلاف القبيلة ، من تحبيذاتها ومحرماتها ، فإذا نجح في الإفلات وصار حرًا ، صار غريبًا ، أقصد في الوقت نفسه ، كأن الشاعر يكون غريبًا بمقدار ما يكون حرًا “

الشعر حالة خاصة ، حالة مميزة وغريبة ، لقد كتبت عدة قصائد ولازلتُ أذكر شعوري الأول عندما أتتني ، هو شيء مختلف ، مختلف تمامًا عن أي شيء ، كنت أشعر أن الكلمات تنزف من يدي ، أن روحًا تخرج مني ، دقات قلبي تسارعت بشكل غريب ، الحالة التي تعتريك وأنت تكتب الشعر خاصة مختلفة كليًا .

مرحلة أن ترى الوليد أمام عينيك ، الفتنة الأولى بالقصيدة ، ما تلبث أن تزول مع القراءة الثانية أو الثالثة لها ، لتبدأ مرحلة الخوف والقلق .. هل هي جيدة ؟ كيف كتبت هذا ؟

الشاعر يعيش داخله ، وخارجه ، في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة ، الشاعر يعيش في اللامكان وفي اللاوقت ، لا حدود لشيء ، لا ثوابت لشيء ..

على الشاعر أن يكون مختلفًا ، مُخالفًا عن الآخرين ، أن يكون له بصمةً خاصة ، أن يتحرر مما قد يعيقه حتى لو ترتب على ذلك أن يحمل غربته واختلافه وشعره ويمضي بعيدًا .

.

رأيتُ مريد الكاتب

الكتابة غربة، غربة عن الصفقة الاجتماعية المعتادة، غربة عن المألوف والنمط والقالب الجاهز، غربة عن طرق الحب الشائع وعن طرق الخصومة الشائعة “

الكتابة روحُ أخرى ، روح هائمة لا تجد ضالتها بسهولة ، الكتابة نزف ، وكسر للقواعد ، الكتابة حياة داخل الحياة ، اغتراب في الروح ، عطب لا يؤذي إلا صاحبه  ، الكتابة تجعلك حاضرًا فيهم ، غائبًا عنك – أحيانًا .

يقول وديع سعادة ” الكتابة غياب الحياة ”
أختم كل هذا بسؤال طرحه مُريد :

ما الذي يجعل قصتنا – نحن بالذات – جديرة بأن يُصغي لها العالم  ؟ 

مقالات من نفس القسم