مقتطف من رواية “كيرياليسون”

كيرياليسون.. رواية عن الهامش المنسي والأحلام الغاربة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أرانا نعيش في باطن الأرض، ظهورنا محدبة، عظامنا هشة، هلامية أجسادنا، نتغذى على الديدان وقت الرخاء،  والأحجار اللينة والرمال المتكلسة وقت الشدة.

في الصيف ننشط، نجوب أماكن جديدة، نتصارع بأسناننا المسنونة، وأنيابنا الطويلة الحادة.. شتاء ننزوي، عظامنا لا تنتصب؛ نتحرك زحفًا على بطوننا، ويهلك منا الكثيرون.

 لا تعرف السعادة طريقها إلينا إلا بالحصول على عظمة ـ حبذا لو كانت لفخذ ـ تُكسر  يُشفط منها النخاع، لا متعة تعدل ذلك، كنت أشعر أنه من الممكن لحياتنا أن تكون أفضل،  يسخرون مما أقول، أظل أنادي فيهم حتى أستيقظ مبحوح الصوت. 

نفس الشعور كان لدى أحد أجدادي البعيدين، كان يأتيني في صورة جدي عبد الواحد ظل يعاني حتى توصل إلى (يوم الطين)، دافع عن فكرته بكل قوة، وكنت أحيانًا أجده يتخذ صورتي، وكأنني أنا الذي أتكلم وأدافع وأتألم.

الطين راعينا، نتنفسه، نأكله.. ننام عليه، لولاه ما عرفنا مصيرنا، ألا يستحق يومًا للاحتفاء  به، يومًا نبتعد فيه تمامًا عن الأماكن الجافة، نتمرغ فيه، نشكره؛ إذ وهبنا الحياة..

هكذا كنت أقول أو يقول الجد، صار يوم الطين أول أعيادنا، نحتفل به كل عام، حتى كثرت الأعياد.. يوم العظم (المتجلي) وفيه نبتهل حتى ينعم علينا بالظهور؛ إذ من الممكن أن يكون بجانبك ولا يتجلى، فيناله الغير.. يوم للماء.. للفحم.. للرمل والحصى الطيب ـ ذلك القابل للمضغ.

بفضل يوم الطين أصبح لحياتنا معنى، وبفضله تغيرت حياتي كلها؛ عندما رأيتها في ذلك اليوم، لم أعرف أين كانت تختبئ من قبل، وكيف لم أرها؟!

كيف فُتنت إلى حد الهوس؟ّ! 

كانت كالأخريات تمامًا، نفس الأنياب الحادة، الشعر الطويل الملبد.. نفس رقائق الطين التي تستر العورة ـ رغم عدم اكتشاف عملها بعد!

اقتربت منها، حدثتها، أكملنا يومنا معا.. من الطين صَنَعتْ شكلًا خماسيًا، تعجبتُ له،  وصنعتُ عظمة ضخمة.

همس كل منا بأمنيته لما صنع، وقذف به في بئر الطين السحيق، الذي تتحقق عنده الأماني..

قبل ذهابها، كسرتْ طرفًا من طين نهديها، اعطتني إياه، شعرت بسعادة تفوق طعم النخاع.

أمسيت أحتضن كسرتي، لم يغب عن عيني لمعة أنيابها، وعيونها ذات الرموش الطويلة المتشابكة.

اقتربنا.. اقترابنا زادنا بعدًا عن الآخرين، حاربونا.. لم نؤذ أحدًا، لم نكن نريد سوى وجودنا معا.. هاجمونا بقسوة – هذا الجزء من الحلم كان يبدو ككابوس مخيف – كلما رأونا شاطت قلوبهم، استشاطوا غضبًا، أطلقنا عليهم الشيّاطين- حرفت إلى شياطين  وأصبحت تطلق على كل شرير كريه – ، ضاق علينا المكان، لا نعرف لأين المفر، ولا عاصم من حقدهم.

قليلون هم الذين آمنوا بنا، استحسنوا وجودنا معًا، حاولوا تقليدنا، صبروا على الإيذاء، عشنا مطاردين.

أتى الشتاء، انزوى كل في مكانه، لم أحتمل البعد عنها، أزحف، حتى التقيت بها في منتصف الطريق، قادمة نحوي، مرهقة كانت وجائعة، نال التصلب من أعضائها.

عيونها تقول لي أفعل شيئًا، حالتها كحالة كل من فارقونا.

تفقد الوعي، أدلك جسدها بيدي.. لمستي تقول لها أبق، استنهاضها بدقات قلبي، أبق بجانبي،  عيوني تدمع.. لأول مرة نعرف أن بالعين ذلك السائل الدافئ، عيوني تغرقها، تذيب الطين المتجمد فوق أعضائها، يتلألأ جسدها بين يدي، أجدني منجذبًا لها، ألتصق بها، يتشرخ طين جسدي، يتفتت.. جسدي وجسدها متلامسان بلا عوائق.. حرارة تنبعث.. حرارة تقاوم قسوة العري والشتاء.. أدخلها، في البدء كنت مسّيرًا بدافع لم أعرفه، بعد البدء سيرتني اللذة، لذة فاقت كل لذات حياتي،  نشوة سرت في جسدي، زادت بعدما فتحت عينيها، تشبثت بي، أعطيتها روحي– ربما لهذا أصبح مبلولًا بالمني-.

الشيّاطين ظهروا فجأة، هاجمونا، كادوا أن يفتكوا بنا، لا مهرب.. عندما أيقنا من نهايتنا علا صوت، من كل مكان يخرج.. الطين أرتج، ارتعشت الأحجار الصلبة، الصوت يعلو.. يكرر:

“أخلصتم؛ فُخلّصتم”

وإذا بنا منتصبي القامة، الأشياء من حولنا تحولت، لا طين، لا جوع، اختفت الديدان والعظام والروائح الكريهة.

من حولنا كل المصدقين، فرحين.. أصحاء.

عالم نظيف انتقلنا إليه، أو أنتقل هو إلينا، مظلة تعلونا منقوشة ببقع ضوء مستديرة، أسهر طوال الليل؛ أحولها إلى أشكال خماسية كما تعشق، فتزيد هى من وهجها، أهب الأشجار الزهر،  فتمنحه العطر، الموج فتمنحه الأصداف، على جدران الكهوف أرسم؛ فتمنح اللون.

المصدقون في متعة.. يتكاثرون، أعداد هائلة، يقولون مثلما نقول، يتتبعوننا.. يفعلون مثلما نفعل.

المصدقون يشاركوننا كل لحظة،  يتنفسون كل الهواء،  يشمون كل العطر .

احتضنها؛ نعلو.. أضمها بشدة؛ نعلو بشدة، المصدقون بأسفل، ربما لم يلتفتوا لاختفائنا.

………..

الدار للنشر والتوزيع – 2008.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم