جلدٌ سلخته الشمس

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 عزة رشاد

 

الباب القديم مُقشَّر ولا يبلغ الأرض، بل يترك مسافة تكفي لتسريب الصوت.. الصراخ الذي يترجَّع في أذنيكِ مهددًا بانفجارهما. لأول مرة ترَين هذا القبح! عورة الخشب في الباب المتهالك الذي استباحته كل كفٍ وتركت عليه عرَقها وبَصْمَتَها وغبار خلاياها! كيف لم ترينها طيلة هذه السنوات!!

 

تهبطين ببصرك نحو الأرض، ثم ترتقين أعلى الجدران.. كل شيء يثير اشمئزازك، تلتفتين نحو النافذة المشرعة.. هناك؛ على مدى الشوف تلمحين طفلة بثوبٍ منفوش، لَبني اللون، تعدو فيهفهف شعرها فوق كتفيها ويسبقها نسمة رقيقة من عبق زهر النارنج؛ تبدو هذه الطفلة في العمر الذي لا تُسعف فيه الذاكرة أحدًا ليقول: كان لي أبٌ طيب، أمٌ حنون، كنا نعيش في بيت جميل، العمر الذي لا يحتفظ الذهن بصورة مؤكدة عنه، بل فقط هالة لَبنية.. ومسحة عَفرتة وشقاوة، يصفونه ب: “عمر الزهور”، وهو نفس عمر العيل الذي يوجعكِ صراخه الآتي من تحت الباب.

الباب الآخر المُطل على الخرابة ليس مُقشرًا لكنه مصنوع من معدن صدئ، يظهر عنده الواد “حسونة”، بضحكته السمِجة المتقطعة بتناغم مع عرجة رجله..

ألفِتُ عيني للجهة المقابلة لكنه يبادرني:

 ــ ده عيل من الجداد؟

فأومئ برأسي: نعم.

يمسح عرقه بيده المعفرة ثم يمسد بها رِجله القصيرة، يمررها فوقها عدة مرات، ثم يجلس على طرف الدكة الآخر المقابل للطرف الذي أجلس عليه وبين سماعنا لصرختين يتساءل:

ــ بتاع قويسنا ولاّ شبين؟ 

أتنهد طويلا قبل أن أهمس: شبين.

يمد يده مناوشا في المساحة الفارغة بيننا وهو يضحك:

ــ ده أصلًا ماحدش سأل عليه. مزعّلة روحك ليه؟

همست وأنا أدفع يده القريبة من صدري بعيدا: 

 مش مزعّلة.

أعاد يده إلى جنبه ثم مدها في جيبه وأخرج عُقدًا من خرز لامع ملون، غمز بعينه “كأن بيننا سرا” ثم همس وهو يرفعه ليزغلل عيني:

ــ علَّقتهولك من مَرة إنما إيه! مُزة بنت أبالسة. شوفي.

صحت وأنا أقلب شفتيّ وأُدير بؤبؤي عيني بعيدًا:

_ بلا قرف.

علت صرخة من وراء الباب بنفس لحظة قيامه واقترابه رافعًا العقد بمحاذاة عنقي هامسًا:

 _قرف يا هبلة! ده هيبقى عليكي لوز.

ثم وهو يمد يده مجددا نحوي: هياكل منك حتة.

_  مش عايزاه.  صحت وأنا أرد يده محتدة.

مُصر على الاقتراب، صرخة جديدة تتسرب من تحت الباب، والعقد يغشى عيني بسحر ألوانه وبريقه. يهمس صائحًا وهو يميل بقربي:

_استني بس.

تراجعت وكدت أنزلق فوق البلاطة المكسورة، اهتاجت أعماقي غضبًا ولوحتُ له بقرن غزال اكتشفتُ في تلك اللحظة أني قابضة عليها منذ فترة لا أعلمها، لملم اندهاشه وشخر:

_يا بت المهابيل. عليّ أنا؟

كان الصراخ قد توقف وتوقعت أن يظهر حسبو ويفتح الباب بين لحظة وأخرى، ويترك لنا العيِل الذي قطع رجله قبل لحظات لنداويه. سيوصينا بمداواة جيدة:

_ بضمير. آه. علشان هناكل من وراه الشهد.

مال حسونة حتى كاد يقع فانكشف الأثر القديم برِجله، وبدا مثل جِلدٍ سلخته الشمس، راح يحدق إلى نهدي ثم مد يده ليهبشه:

_الوقتيِ أقول لحسبو وأخليه يقطعهولك. هههههه.

غززت يده بقرن الغزال فتراجع متألمًا، لم أسمع بقية ماقاله، كانت إحدى عينيّ تتيه في بريق خرزات العقد، فيما الأخرى تتابع قسمات الألم في الوجه الطيب لرفيق السنوات الطويلة؛ فكرتُ بالعناء الذي تكبده لأجلي. ضحكَ فضحكتُ ثم خطفتُ العقد من يده وقفزتُ إلى الخارج، فقفز ورائي مقهقهًا. رحتُ وأجري وأجري، قدر استطاعتي، أحاول اللحاق بالبنت المسبوقة بعبق زهر النارنج.. البنت التي لم يقطعوا رِجلها بعد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصّة وروائية مصرية، والقصة من مجموعة “حائط غاندي”
المرشّحة على القائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصّة القصيرة

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون