حَرْب

محمد الفخراني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

بعد أول حَرْب فى العالم:

مَرِضَ لون الأرض، صار لترابها رائحة الحريق، تراجَعَتْ المياه فى الآبار إلى مسافات بعيدة، وعليهم أن يستعملوا مئات الأمتار من الحبال يربطونها بالدِّلاء كى يجلبوا ماءهم، الذى تَغَيَّرَ طعمه عمَّا كان عليه قبل الحرب، صار تعيسًا، كأنما فَقَدَ روحه، وحماسه المعهود للحياة، تَغَيَّرَ طعم الفاكهة، فَقَدَتْ بهجتها، لاحَظوا لونًا شاحبًا فى كل الثمار، وكلما غسلوا ثمرة أو مسحوها بملابسهم ازداد شحوبها بريقًا، هل تَغَيَّر شكل الحيوانات أيضًا، والطيور، أم أنها فَقَدَتْ سحرًا ما؟ وكانوا يرونها من قَبْل جديدة فى كل مرة، ظهرَتْ منها أجناس جديدة متوحشة، مثلما ظهرَتْ أشجار عدائية لها أشكال مخيفة.

 فَقَدَ الخبز طيبته، وبراءته المعروفة عنه، لم يَعُد بإمكانهم الحصول على الخبز الذى كان قبل الحرب، فَقَدَ الملح طعمه الرشيق ولونه الأبيض النقىّ، لم يَعُد هناك مجال حتى للحلم بالحلوى والسكر.

بَدَا الليل والنهار عجوزين، كأنهما تَقدَّما فى العمر مائة عام دفعة واحدة، كل شىء صار قديمًا فجأة، كأنما اُستعمِلَ بقسوة ملايين المرات، تَرَهَّلَت السماء، اختفى البحر، وجدوا بدلًا منه تَمَوُّجات متداخلة من لون أبيض كثيف، ولَزِج، يمتد بمدى بصرهم لا يكشف عن أىّ شىء، ومن وقت لآخر يأتيهم منه  صدى أصوات تغرق، لا يمكنهم أن يتوقعوا وجود حياة هناك.

لم يستطيعوا تحريك جُثَث ضحايا الحرب من أماكنها، صارت قطعة من الأرض، لم يستطيعوا دفنها، كلما غَطُّوها بالتراب تطاير عنها وتركها مكشوفة، كذلك الأعضاء البشرية المقطوعة والمتناثرة حولهم، ظلَّتْ مغروسة بقوة، لم يستطيعوا التخلص منها بأىّ طريقة، حتى بِرَك الدم لم تَجِفّ، أو يغطيها التراب.

وفى الوقت الذى انتظروا فيه أن تهاجمهم تلك الجثث بطريقة ما وتؤذيهم، فإنها تعاملَتْ معهم بطريقة لم يتوقعوها، لم تتعفَّن الجثث والأعضاء المقطوعة، لم يتغيَّر شكلها أو مَلْمَسها البشرى، لم تتعَطَّن بِرَك الدم، كان الأمر مُخيفًا لهم فى البداية، فيبتعدون أثناء تحركاتهم عن الجُثَث والدماء، كانوا يستيقظون من نومهم أحيانًا على أصوات أشخاص يلعبون بالخارج، أقدام تجرى، ضحكات، كأنما نهضَت الجُثَث من موتها لتلعب، وعندما ينظر أحدهم خِلْسة من وراء بابه، يلمح ظلالاً وأطيافًا تتحرك بسرعة، يرى الماء يتدفق من الآبار شفافًا، الأشجار مكتملة تلمع فى ضوء القمر، وتصله رائحة ثمارها الحلوة، يرى التراب وقد استعاد لونه الجميل، ورائحته الطيِّبة، غير أن أحدًا لم يكن ليخرج، وفى الصباح لا يكون أيًّا منهم متأكدًا إنْ كان ما رآه حلمًا أم حقيقة، يجدون كل جثة فى مكانها، وآثار خطوات تملأ المكان، يَشمُّون رائحة طيِّبة لكنها تتلاشى سريعًا.

بمرور الوقت، اعتادوا وجود جُثَث ضحايا الحرب حولهم، بدأوا يلمسونها ليتأكدوا أنها لم تتحلَّل بَعْد، وما زالت تحتفظ بحرارتها، البعض منهم يُجرِّبُ ويتحدث إلى جثثٍ يعرفها، ويتوقَّع أن تُبادِله الحديث، خاصة أنهم يرون تعبيرات وجوهها وهى تتغيَّر من يوم لآخر بشكل طفيف، فيومًا تطفو لمحة من سعادة على وجه جثة ما، وفى اليوم التالى يرون لمسة من حزن أو شجن على الوجه نفسه.

 بدأت الجثث والأعضاء البشرية تتشقَّق برِفْق، وتَنْبُتُ منها أوراق خضراء صغيرة تُشْبِه أوراق الأشجار، فى الوقت نفسه كان لون الدم فى البِرَك يَشِفُّ، وتتسرَّب منه ما يُشبه رائحة عطريَّة خفيفة، ولم يمضِ وقت طويل حتى اكتَسَت الجُثَث والأعضاء البشرية بما يُشْبِه أوراق أشجار مكتملة، واتّخذَتْ أشكالًا هى مزيج من الجسم البشرى والشجرة، صارت أشجارًا بشرية بارتفاع رجل أو امرأة أو طفل، مُغَطَّاة تمامًا بأوراق خضراء رقيقة، ثم ظهرَتْ فيها ثمار مُتنوعة، لها رائحة حلوة، وتَحَوَّلَتْ بِرَك الدم إلى لون قرمزىّ شفيف، له رائحة عطريَّة.

 بدءوا يلمسون الأوراق التى نَبتَت فى الجُثَث والأعضاء البشرية، لكنهم لم يفكروا فى قَطْف ثمارها، بدا هذا مُخيفًا بعض الشىء، فلا يمكنهم أن يتوقعوا ما سيحدث، وعندما يَمُرُّون بجوار بِرَك الدم العطرىّ يَشمُّون رائحته الرقيقة، ويوشك الواحد منهم أن يغمس فيها يده، لكنه يتراجع، حتى اقترَبَ صبىٌّ ذات يوم من شجرة بطوله، تلمع بين أوراقها ثمار برتقالية صغيرة، كرويَّة الشكل، ولها رائحة حلوة، قَطَفَ واحدة وأكلها باطمئنان، بينما يراقبونه وينتظرون ما سيحدث له، أو ما ستفعله به الشجرة.

 ابتسم الصبىّ بعد أن انتهى من الثمرة، ومشى إلى أقرب بِرْكة دَم، جلس عند حافتها، غَمَسَ يديه فيها برفق، وأخرجهما، فظهَرَتا نظيفتَين، وفاحت منهما رائحة عطر خفيف، عندها اطمأنوا، بدأوا يأكلون من ثمار الأشجار البشريَّة، ويتعطَّرون بالدم الذى تَحوَّل عطرًا.

فى حياة أخرى، كان من الممكن أن تَتَحوَّل الجثث إلى أشباح تطارد الجميع، فتقتلهم، تُصيبهم بالجنون، أو تَدْفَعهم إلى قَتْل أنفسهم بدلًا من أن تتحوَّل إلى أشجار مثمرة، كان يمكن للدم أن يحتفظ بكثافته، ورائحته المُقْبِضة ليُلطِّخهم كلما خرجوا من بيوتهم، إلا أن شيئًا من هذا لم يحدث.

ربما أرادت الحياة أن تعطيهم فرصة أخرى للحياة، وقد صار معروفًا فيما بَعْد من خلال التجربة، أنَّ الحياة لا تتوقف عن مَنْح فرص جديدة للحياة، تعتبرها وظيفتها، وأنَّ هذا أجمل ما لديها.

لكن، ماذا لو أنَّ تلك الحرب الأولى لم تتسامح معهم، ولم يَتْحوَّل ضحاياها إلى ثِمار وعطور؟

ماذا لو توقفَتْ الحياة عن منح فرص جديدة للحياة مع أول حرب قادمة؟ 

………………….

*نشرت فى مجلة الجديد

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون