ناهد السيد
أخطأنى الموت هذه المرة أيضاً.. لا أعرف كم مرة أخطأنى، ثلاثاَ أم أربعاً، أم عشرين؟.. كل من مرضوا حولى التهمهم، وراح ينظف أسنانه بعدهم بخيوط الحرير.. لماذا يخطئنى إذن؟ إذا لم يكن فاشلا فى التصويب؟
فى كل مرة أتجهز وأضع نجمة وسط جبينى، وأقف فى مواجهته مغمضة العينين، لأتلاقى ضربتى دون أن أرى هول رشقة سهامه، تطول وقفتى، فأفتح عينى لأجد السهم أصاب أحدا آخر، لم يكن مريضا وربما شابا فى مقتبل العمر، أو جدة عجوز، أو موظفا عائدا من العمل تثقله هموم الدنيا كمدا، او عاملة نظافة ثكلى بالحزن على مصير ابنائها، وربما يصيب مريضا يلازم الفراش. هل هذا شرطه؟.. فماذا عنى عندما كنت أحيا تحت الأجهزة بلا حراك؟ لماذا أخطأتنى ؟..هل كل هؤلاء أولى منى بسهامك؟
هل لأنى انتظرك واخترتك وهم لا يختاروك ويهربوا منك.. أهكذا يسير الأمر ياترى؟
لماذا تتخطانى فى كل مرة تعدنى وتثبتنى فى موضع قبلتك، وعندما أفتح عينى أراك مطأطئ الرأس خجلا من فشلك فى التصويب؟
وتلتفت عائدا من حيث أتيت راحلا عنى فى هدوء، ملقيا لى برسالة انتظار أخرى، تقسم لى فيها بأنك ستتدرب جيدا وتصيبنى هذه المرة، وتعدنى أن تصل فى الموعد المحدد، بعد أربعين يوما.. تلك المدة المتعارف عليها للتجهيز وتوديع الأهل والأصحاب فى صمت مطبق أقضيها كاملة لأنهى مهامى من الحب والعطاء، أسدد أقساطى من الرحمة والتصدق، وأملأ حصالات أولادى نصائح وتعليمات تدور حول الاهتمام بالصحة اولا، فهى التي تجلب المال، وليس العكس.
أكتب لهم ما تيسر من وصايا الحياة وخبراتى بها، أحرق كل مخزوننا من المناديل الورقية، وأعلمهم ألا يبكوا.
فالموت حقيقة كالحياة.. أوصيهم ألا يرتدوا ملابس سوداء فأنا أحب الأبيض والبرتقالى والأزرق.. أمحو تفاصيلى الكثيرة من البيت ومن مسامعهم.. أكسر قدم كرسيي الذى ألازمه دوما، لكى لا يروا شبحى فيه، أستبدل رائحتى فى غرفة نومى برائحة البخور
أقسو عليهم واتعصب وأغضب لكى يزول جمال لحظة الحضن بيننا فيظل آخر ما يتذكروه هو صوت القسوة فقط، فيترحمون على عقلى المشوش، مؤكدين أن الموت كان أرحم لى من مرض يغزو عقلى وأعصابى.. هكذا أقضى الأربعين يوما التى تسبق لحظة الموت
أربعين يوما فى صمت مطبق.. لا يصح أن أبوح بسرنا، أودعهم بلا شجن، أعد حقيبة رحيلى.. ماذا احتاج هناك ؟
فى الجيب الكبير أضع صورنا ولحظات الضحك والمرح، ورسائل أعياد الميلاد ذات الخطوط المتعرجة التى تحبو نحو أصابع صغيرة تخطئ فى الإملاء
هداياهم، لمساتهم، براءتهم وهم نيام مطمئنين أن أمهم لازالت تتنفس ليوم آخر
كوبى.. أول هدية مجمعة جلبوها من مصروفهم.. رائحة الحياة التى تتفتح عينى عليها كل صباح، واتحسسها بشغف تناغش أنفى.
لماذا على أن اتجاهلها؟ لماذا أخجل انى لازلت على قيد الحياة؟
لماذا أنتظر هذا القاتل المأجور؟ إنه لا يأتي إلا لمن يتجاهله
أما أنا فلا أخشاه.. أنتظره.. وأرى حتمية وجوده معى فى كل لحظة ألم أمر بها.. لعله محترف فى قراءة النوايا، ويعلم أنى لا أرغب حاليا فى الموت مهما راودنى الألم عن نفسى.. فلازلت أرى أن الحياة جميلة تستحق أن تعاش.