في بيتي أشباح

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 50
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 عبد اللطيف النيلة

خاطبني دون مواربة:

– لقد خوّفوني من بيتك…

رددت عليه مستغربا:

– لأول مرة أسمع مثل هذا الكلام!

وأردفت بوجه باش:

– على كل حال لا تلقِ سمعك لإشاعات الحساد..

ثم قدته في جولة عبر مرافق الدور السفلي من البيت. وحين رأى الصحن الرحيب المنفتح على سماء صافية الزرقة، والزخارف الأصيلة على خشب السقوف وجبس الجدران، ونوافذ الغرف المشرعة على حديقة مزهرة، عقّب:

– ما أبهى بيتك!

ولما أمعن النظر في السواري والجدران ودفّات الأبواب ومصاريع النوافذ، وتحسسها بأصابعه كما لو كان خبيرا في البناء والنجارة، علّق:

– ما أمتن بيتك!

وسرعان ما أحضر متاعه الذي لم يكن يجاوز الحد الأدنى من متاع العازب. منحته حق التصرف في حجرتين ومطبخ ومرحاض، بالدور السفلي، فيما كنت وأسرتي نقطن بالدور العلوي.

لكن لم تمض أيام حتى أتاني متشكيا:

– النوافذ لا تفتأ تصطفق بالليل على نحو مريب!

رددت عليه مازحا:

– ذلك شغب الريح. أصخ سمعك إليه أو أحكم إغلاق النوافذ.. أدر الرتاج دورتين كاملتين.

عاد يقول بنبرة تردد:

– هناك شيء آخر.. أ.. أطفالك.. لم يكفوا عن الركض والصياح في الصحن بالأمس.

أزعجتني ملاحظته، إلا أني سمعت نفسي أجزم أمامه:

– لن يتكرر هذا الأمر مرة أخرى. سآمرهم باللعب بأقصى الحديقة..

وما إن شارف سكنه أحد عشر يوما حتى جاءني متذمرا:

– النباح لا ينقطع بالليل!

رددت عليه:

– إنه مجرد نباح بعيد ومؤقت.. وبإمكانك أن تشغّل الموسيقى.

فأردف:

– بالأمس تحطم زجاج إحدى النوافذ.. قذفها أطفالك بالكرة.

– أووووف، يا لشقاوتهم! لقد أمرتهم باللعب بعيدا. أغلق المصاريع الخشبية ريثما أصلح الزجاج.

وعندما استكمل الشهر قرعتُ عليه الباب، وهممتُ بالإفصاح عن مرادي فقاطعني قائلا:

– كنت على وشك القدوم إليك.

رفعت حاجبيّ مستفسرا، فسحبني من يدي، وأدخلني إلى غرفة نومه ليشير إلى إحدى زواياها قائلا بصوت مشرب بالانفعال:

– انظر إلى تلك الزائرة!

رأيت عنكبوتا احترت في فهم كيف سنحت لها الفرصة كي تنسج شبكة مرئية على نحو يلفت النظر! لكني عندما مسحت الأرض ببصري، وجدتها مغطاة بكثير من الأشياء المبعثرة: ثياب مقلوبة كأنما خُلعت لتوّها، محفظة جلدية، أحذية بأشكال وألوان مختلفة، زجاجات جعة، قوارير عطر، أوراق مكمّشة،… وغزا خياشيمي الغبار المنتشر في الفراش والأرض والأشياء.

عاد يقول:

– ما رأيك؟

أجبت لائما:

– هذه الفوضى كفيلة بأن تجتذب لا العناكب فحسب، بل كذلك الصراصير والنمل والفئران..

رد عليّ باحتداد:

– لقد اقتحمتْ عليّ أحلامي!

– عمن تتحدث؟

– العنكبوت!

– ……….؟!

– تبدّت لي عملاقة تعكف على إفراز خيوط بيضاء من فمها، ولفّها في كُبّة بحركة رشيقة.. ثم أوقفت عملها وحدقت إليّ  بعينين جاحظتين..

– ثم ماذا؟

– وهدّدتني مصرحة بصوت كأنه صوت نائلة، الحبيبة التي خذلتها قبل أيام: «اصبر عليّ لحظة ريثما أفرغ من لفّ هذه الخيوط، وسترى كيف سألفّك لفا حدّ محو أي أثر لك».

علقتُ باستغراب:

– لا يبعد أن يكون ما رأيته مجرد هلوسة مُخّ خدّرته لفافة حشيش.

– ما كان الخوف ليستولي عليّ لو كان الأمر مجرد هلوسة.. ولا تخلط يا صاحبي بين النبيذ والحشيش.

– مهما يكن، لا داعي للخوف، فالكوابيس لا تغادر الأحلام إلى أرض الواقع.

وأنا أهم بالانصراف، قال لي:

– أتعرف أن أطفالك سـ…

– ماذا فعلوا؟

– سـ… سـ… أقصد ضاعت مني المفاتيح.

– مفاتيح السيارة؟

– كلا، مفاتيح البيت.

– ابحث جيدا.. ستعثر عليها وسط هذه الفوضى.

– بحثت دون جدوى.

– لعلك تشك في أطفالي؟

– ربما تسلّـ…

قاطعته على الفور:

– لا يذهبن بك الظن إلى هذا الحد.. سأمنحك نسخة أخرى من المفاتيح.

وحين كنت أصعد الدرج إلى مسكني، تذكرت أني لم أقضِ غرضي: لقد زرته بغاية استخلاص أجرة الكراء…

وعدت إلى مفاتحته في الأمر، بعد أن سلمته المفاتيح، فضرب جبهته بيده:

– آه ذكرتني.. رجاء اصبر عليّ يومين فقط..     

منحته مهلة أسبوع، ثم قصدت مسكنه ذات صباح. طرقت الباب طويلا وناديت عليه بأعلى صوتي، لكن دون جدوى. تربصتُ به طيلة ذلك اليوم وعلى امتداد أيام أخرى، وأنا أعض على أصابعي، ليس من الغيظ فحسب، بل كذلك من الندم. لم أكن حازما، إذ لم أطالبه منذ البداية بتسبيق أجرة الشهور الثلاثة الأولى. أعمتْ عينيّ الرغبة في تبديد الإشاعة التي زعم أنها تحوم حول بيتي.

وفيما كنت، عصر أحد، منتبذا زاوية قصية، بالمقهى الذي اعتدت ارتياده، وقف أمامي على حين فجأة. بادلني العبارات المكرورة حول الصحة والجو، فلم أستطع إخفاء البرود الذي تلبس وجهي ونبرات صوتي، بل إني أحسست بميل لتشنيف أذنيه بأقسى تقريع. سحب كرسيا من تلقاء نفسه، وجلس عليه ليروي لي، دون مقدمات، كيف أن أمه أصيبت بوعكة صحية، فكشفت التحليلات أن مرارتها مريضة وأنها في حاجة إلى عملية جراحية لإزالتها، وقد اضطر للنزول إلى مسقط رأسه لعيادة أمه وتسديد مصاريف العلاج…

لم تلبث أسارير وجهي أن انفرجت، فواسيته وسامحته، ووجدت نفسي منساقا إلى ممازحته حول النوافذ والنباح والعنكبوت كما لو أني أكفّر عن قسوة شعوري تجاهه.    

وحالمَا دلفتُ إلى بيتي، أشهرت زوجتي في وجهي ثلاث زجاجات جعة. سألتها عنها باستغراب بالغ، فأجابتني:

– ليتك كنت حاضرا لترى السكارى الذين أخرجتُ من رحمي!

– غير ممكن!

– كل واحد من أبنائك الصغار كان يضع في فمه رأس زجاجة فارغة!

– ومن أعطاهم هذه المصيبة؟

– وجدوها في الحديقة قرب شجرة التوت…

أصغيت باهتمام إلى زوجتي ترغي وتزبد، وأفرغت غضبي في توبيخات لاذعة وجهتها لأطفالي. ولما استلقيت في غرفة النوم، أحسست بصدري متأججا بالنار، وضبطت نفسي أقول بصوت مسموع: «وفوق ذلك، يدمن على الجعة زاعما أنه لا يملك واجب الكراء!». ولم يطاوعني النوم إلا لحظة انتهت إلى سمعي تسبيحات المؤذن التي تسبق أذان الفجر.   

في الغد، لجأت إلى صديقي سالم، المخرج السينمائي، كي ينتشلني من ورطتي. ابتدرته بالسؤال عن صحة عمته وكيف مرت عمليتها الجراحية، فطفح رد فعله بالاستغراب:

– عن أية عمة تتحدث؟

أجبته بأني أقصد والدة المستأجر، فرد عليّ فورا:

– كل عماتي رحلن عن هذا العالم!

– ولكنه قال إنها أجرت عملية لإزالة المرارة!

– لقد ماتت أمه منذ أكثر من ثلاث سنوات. لا أعرف ما الذي دفعه للكذب؟

– إنه يتهرب من تسديد أجرة الكراء، فمنذ أول لقاء ادعى أن بيتي يبعث على الخوف.

رويت لصديقي سالم، على وجه التفصيل، ما وقع لي مع ابن عمته، فلم يتمالك أعصابه وطفق يشتمه غيابيا، موجها لوما شديدا لنفسه على وثوقه بوعوده وتدخله لمساعدته. ثم أردف:

– إدمانه على الخمر والنساء كثيرا ما أعطبا بوصلة التمييز لديه. تصور أنه لمرات عديدة نُزعت عن كتفيه جاكيتات فاخرة، لأنه شرب كثيرا فلم يعد لديه ما يكفي من مال لسداد ما عليه من دين للحانة. وكم من مرة اضطر إلى إخراس صوت بائعة هوى بإعطائها هاتفا محمولا أو ساعة ثمينة.

شرد بنظراته للحظة قبل أن يضيف:

– لا أخفيك يا صديقي أن شخصيته تغريني باستثمارها سينمائيا.   

– سيتعين عليك أن تصور اصطفاق النوافذ ونباح الكلاب وضراوة العناكب، على طريقة أفلام الرعب. لكن لا تنس شغب الأطفال!

فضحك سالم، وقال:

– المعذرة يا صديقي، لقد كنت آمل أن أسدي خدمة لكليكما، وأخذت عليه عهدا بعدم ارتكاب كل ما من شأنه أن يفسد علاقتي بك، ولكنه.. أفّ له ثم أفّ..

وقبل أن يودعني صديقي سالم، منحني وعدا:

– ما دمت قد اقترفتها بيديّ، فسأحلها ولو بأسناني.

***

من خلف الدرابزين، تتبعت صديقي سالم، ذات ليلة، وهو يتسلل رفقة ممثلين يشتغلان معه إلى حديقة بيتي. تبسمت بتواطؤ وأنا أراهم في لباس غريب…

***

وقبيل العاشرة صباحا، قرع المستأجر بابي. بدا تحت ضوء مصباح الدرج شاحبا محمر العينين… قال إنه يود أن يحدثني في أمر هام، فاقتفيت خطاه إلى فسحة الحديقة حيث أفصح عن وقوع حدث غريب، مكررا أنه لن يبيت بعدُ ليلة أخرى في بيتي!

رجوته أن يهدأ ويروي لي ما حدث بالضبط، فأشعل سيجارة وارتعاش طفيف يتخلل أصابعه، نَتَر نفسا عميقا ونفث الدخان في الهواء، ثم قال بصوت راعش:

– أتعلم أني لم أنعم البارحة بدقيقة نوم واحدة؟ لقد فاق الأمر قدرتي على الاحتمال.. كنت مستغرقا في قراءة كتاب “ظواهر خارقة على مقربة منا” – يا للصدفة العجيبة – عندما اقتحم عليّ الغرفة صوت مزمار (نفّار) مثل ذلك الذي يتردد في الأزقة إيذانا بوقت السحور في رمضان، كان صوتا عاليا ومضاعفا، هرولت إلى النافذة المطلة على الحديقة، تواصل الزمير لدقيقة قبل أن ألحظ.. ماذا أقول؟ رجالا أم عناكب؟ كانوا ثلاثة رجال عناكب ينفخون في مزامير طويلة، كانوا يشبهون الرجل العنكبوت بطل الفيلم المعروف، إلا أن أرديتهم كانت بلون أحمر مخطط بالأسود، ولا تحمل رسما للعنكبوت على الصدر، بينما شفاههم كانت مرسومة بالنيلي.. لبثتُ أحدق فيهم مشدوها، حتى اختفوا عن نظري خلف شجرة التوت الضخمة، وبعد لحظة مفعمة بالترقب، ظهروا ثانية وهم يحملون  تابوتا من خشب وبيسرى كل واحد منهم هراوة مصبوغة بالنيلي، وضعوا التابوت على الأرض بحركة رشيقة، وأخذوا يدورون حوله ويُنشدون:

«دَمْ دَمْ دَمْ

حَطِّمْ رأسَ الخائنْ

لا تنْدَمْ…».

ثم حولوا وجوههم نحوي، وجوههم المخططة بشبكة العنكبوت، وحدقوا فيّ بعيون كحيلة اخترقت أحشائي بنظراتها الوقحة، فيما لوحوا مهددين بهراواتهم.. لم أشعر بنفسي إلا وقد ندت مني صيحة، وابتعدت عن النافذة وقد خطر ببالي كابوس العنكبوت، فلم أعد أميز إن كنت في حالة حلم أم يقظة. وتفاقمت بلبلتي حين عاودت الإطلال من النافذة، بعد أن تمالكت نفسي قليلا، فلم أر للرجال العناكب أثرا ولم أسمع لهم حسا…

لم أملك سوى الإشفاق عليه، بل إني خشيت أن يفقد عقله، رغم أني كنت مستبشرا بعزمه على الرحيل. ولما فرغ من تحميل متاعه في جوف سيارة نقل، قال لي بوجه استبد به الغم:

– لقد تركتُ لك تلفازي رهينة، إنه من الطراز الرفيع ذي الشاشة المسطحة.

– لستَ مضطرا إلى ذلك.

فرد عليّ، محركا يده الماسكة بكتاب الظواهر الخارقة:

– لا بد من تسديد ما عليّ من دين.

وقبل أن يركب سيارته الصغيرة متقدما سيارة النقل المحملة بمتاعه، ناولني كتابه قائلا وقد عبرت وجهه اختلاجة خوف:   

– استكشف الحياة الأخرى التي تجري داخل بيتك..

وحين أدرت له ظهري، لم أستطع أن أمنع نفسي من الابتسام، وعلى صوت سيارته المبتعدة قذفت بالكتاب صوب الحاوية الجاثمة على مقربة من بيتي، وقلت بصوت مرتفع أخاطب طيف سالم المتخايل لذاكرتي:

– ما أخبثك أيها المخرج! 

 

 

مقالات من نفس القسم