دولتشي

عميان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
إنه لا يودع أحدهم ولا يرافقه شخص ما، لم يعانق أمّا أوحبيبة، ولم تفلت من تقاسيم وجهه بسمة او دمعة. كان وحيدًا وسط الحشد، كأنه لم يأخذ مبادرة الكلام منذ فترة. فقط كان يُحدثني بلغة ما، حين التقط وجهي بنظرة منطفئة وهو بالكاد يصل إلى بوابة العبور النهائي ويغادر كمستقبل هارب.

هدى الهرمي 

حتى لحظتي هذه، مازلت ألتقط بحاسّة شمّ فريدة تلك الرائحة إلى درجة أنها كادت تصيبني بحالة من  الإغماء مع أعراض جانبية لمزيج جرىء من الذاكرة والنشوة معًا. إنه شيء حقيقيّ فعلا. ظلّ ينبض مثل كائن حيّ. لقد جافاني النوم و أنا مستلقية في سريري، بينما تتساقط التفاصيل في عقلي وتنهر سبات الليل من القفز فوقي.

كيفما شاءت الصدفة، لقد أصابني هلع استثنائي، شهقة موازية لذلك الألم الذي اخترق ذراعي الأيمن حين اصطدمت بكتفه وأنا أهرول في رواق الدخول إلى المطار الدولي، هذا الفضاء المختلط بجموح الأجساد الوافدة والمغادرة لعوالم شتّى، فلا يفصلني عن بداية رحلتي القصيرة إلى الدار البيضاء إلا بعض الوقت.

كنت كمن يلاحق ضالّته ويبتكر له متعة طيّعة لاهفة نحو أرق لذيذ، وأنا التي تعودت التعامل بحذر مع كل مُنبّهات الحواس وتلك الإعلانات المتراكمة لوسائل التسلية المؤدية إلى تخمة المشاعر. ما كان ينبغي أن أكون يقظة في غمار هذه الحمّى وأنا أنضح عرقًا و أشد شعري للوراء، وما كان يلزمني أن أستنشق أثره وهو يتطاير فوق قفا عنقه.

 لطالما كان العطر هوسي الدائم، تلك التركيبة السحريّة الأكثر فاعليّة في خدر اللحظة. وخز ينعش مساماتي الساكنة، يداعبها بغواية طافحة لتنحاز جهة متعة فريدة من نوعها. الآن، تحوّل إلى إشعار عنيد، بوسعه أن يكون بالقدر نفسه من الغواية كنهر سريع الجريان في أرض المحرقة.!

كنت أحدّق في ظهره، لم اخاطبه بأيّة كلمة، منتظرة أن يبطىء وتيرة خطواته السريعة، فهو بالكاد يلتفت هنا وهناك، حتى خلت أنني لست متأكدة من أنه الشخص الذي اصطدم بي أصلا. إنه يمضي كأن لا شيء يعيق تحركاته، رغم وتيرة الازدحام، منطلقا باندفاع إلى وجهته المحتومة.

 لقد لاحظت ذلك جيّدا، ربما كان يجدر بي أن أميل رأسي كي أكتشف أكثر خطوط وجهه الخارجية وأخمّن ماذا تعني؟

كان الوجع و الاثارة قد أقاما إقامة فجائية في معقل اللحظة، وتلك اللّسعة تتحرك في جسدي وتستقرّ كصدمة تشعّ على وجهي. كيف للأشياء كلها ان تتغير فجأة ومن ثم تركض محدثة قعقعة في ذهني؟

دوختني التساؤلات، كان بمستطاعي أصلا ان لا أهتم و أكترث به، لكن عطره قد أغار عليّ، وأنا مجدولة في كل تفاصيله، فلم يكن بوسعي التوقف عن ذلك.

إنه لا يودع أحدهم ولا يرافقه شخص ما، لم يعانق أمّا أوحبيبة، ولم تفلت من تقاسيم وجهه بسمة او دمعة. كان وحيدًا وسط الحشد، كأنه لم يأخذ مبادرة الكلام منذ فترة. فقط كان يُحدثني بلغة ما، حين التقط وجهي بنظرة منطفئة وهو بالكاد يصل إلى بوابة العبور النهائي ويغادر كمستقبل هارب.

لم أفهم ماذا يعني أن ألوّح له بيدي كانني أودعه، كرّرت ذلك حتى أهب نفسي شيئًا من الغبطة ربما؟! لا أدري. في تلك اللحظة الفارقة رغبت في عناقه.بعدها، له أن يجد رحلة جوية أخرى. لكن العالم تهاوى من حولي حين تلاشى وهو يندسّ وسط المسافرين.

 تساءلت و أنفاسي تتصاعد وأنا محتقنة بالخيبة :

_ هل فقدته في نفس لحظة العثور عليه !!

انتثرت دمائي في روحي كأن أحدهم يمزقها إربًا إربًا. فجأة اقتادني عطره المسيطر على طول طريق مُلتف ومنفصل عن كل هذا الفضاء الصاخب . صرت لا أجرؤ على الحركة كي أفيض بشعور ما، ولا يمكنني أن اقتفي خطواته وأتأمل وجهه وهو يبادلني النظر من دون أن تطرف عيناه.

تخيلت أنه يشبه “دومينيكو ستيفانو” مبتكر عطر “دولتشي

وأنا أخفض وجهي وأستنشق الرائحة التي لا تكفّ عن إثارتي بقوّة. كيف يمكنني أن أنساها؟

 أدرك أنها تُجسّد رحلتي العاطفية والجوهرية، ثورة تلك الزهرة الإفريقية “الاماريليس الأبيض” وزيت زهر النارج، وزهر البابايا، ليتكامل مزيج جريء من زنبق الماء ويهبني ذروة التجلّي في أرض ما، كأنما انسكب العطر على قدمي و تحت اخمصَي قدميّ المحترقين. حتى رأسي صار يؤلمني ألما جنونيّا. ينبغي ان أستوعب تلك المعلومات، كما لو أني أحفظ عن ظهر قلب درس كيمياء بما اختزنته من عبق و صدمة أو ارتداد.   

لم أستوعب ما يدور برأسي حينئذ، وما يحصل معي، غير أنه من دأبي أن تحصل معي أشياء غير مترابطة منطقيًا. ربما كنت متأثرة بأفلام بوليود! لكني لم أستطع أن أتمالك نفسي.

كانت حشود الملأ توتر أعصابي. سمعت سيدة تطلب مني أن اتقدّم في الصفّ ورغم ذلك وددت لو أصرخ :

“إني أنتظرك، لن أتحرك من هنا حتى نلتقي !”

دُهشت لدى رؤيتي موظف الجوازات قبالتي وأنا في أول الطابور.

 رفع حاجبا وابتسم وهو يقول  :

” جواز سفرك يا آنسة !”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شاعرة وقاصة تونسية ـ من المجموعة القصصية “عِميان المنطقة المحظورة” صادرة مؤخرًا عن دار الدراويش 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون