مُلْهِم، يتمشى فى الشوارع، ويعيش على هواه

مُلْهِم، يتمشى فى الشوارع، ويعيش على هواه
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخرانى

"ماذا يحدث لو استيقظ العالم ولم يجد الشوارع؟"

يفكر الشارع الفوضوى، ويتخيّل حال العالم والكائنات عندما تنظر من نوافذها فى ذلك الصباح ولا تجد الشوارع، أو عندما تخطو أولى خطواتها، فتذهب قدمها إلى أىّ شىء لا يكون شارعًا، تُرى لأين يمكن أن تذهب هذه القدم؟ وهل يمكن لأىّ كائن أن يستعيدها قبل أن يضعها فى اللاشارع؟

 

شارع همجى، يتعارك، يصاحب، يتوق، يحب حتى آخر قلبه، وقلبه بلا آخر، يجرى قدر استطاعته فى الشوارع كلما حصل على فرصة، ودائمًا يحصل عليها، فى النهار يجعل من نفسه غير مرئى، يلعب ألعابًا صغيرة مع المارة الذين يعرفونه، وألعابًا كبيرة مع من لا يعرفونه، أحيانًا أخرى يمارس ألعابه الكبيرة مع من يعرفونه، ويكون شفافًا رائقًا مع من لا يعرفونه، أو من يبدءون علاقتهم به، يسهر الفوضوى طوال الليل، ويصاحب كل من يصادفه، لم يضبطه أحد متلبسًا بالنوم، لا يرتدى أىّ ملابس فى أىّ من فصول السنة، يفاجئ الآخرين أثناء نومهم، ويسكب الماء عليهم، أو ينزع عنهم ملابسهم فى ليالى البرد، وكثيرًا ما يغطى نومهم وعريهم، يخترع لهم فى جسمه زوايا دافئة، ويُخرج من خزانته ملابس لها رائحة قديمة مُحببة يمنحها لهم.

يغيّر الشارع الهمجى اسمه كلما أطلقوا عليه اسمًا، يُفضّل أن يلقبه كل كائن بلقب مختلف يعبّر عن العلاقة الخاصة بينهما، وأن يطلق عليه هذا الكائن لقبًا جديدًا من وقت لآخر مع تطور علاقتهما، واكتشافه لجانب جديد فى شخصيته التى لا تنتهى مفاجأتها. 

طائش، حائر، مغامر، به الكثير من الجروح، الشجن، عندما يحزن فلا كائن يمكن أن يكون أكثر حزنًا منه، عندما يفرح فلا كائن يمكن أن يكون أكثر فرحًا منه، غير معقول فى مشاعره، إذا كان سعيدًا الآن، سينفتح على كل الشوارع، ويمكن لمن يدخله أن يصل لأىّ مكان يريده فى العالم، ويصادف كل أحبائه، حتى الموتى منهم يلمحهم بين الوجوه وهم يبتسمون له، كما سيعثر على الأشياء التى ضاعت منه فى شوارع أخرى، لكنه لن يجدها حتى لو ضاعت فى الشارع اللامعقول نفسه وكان حزينًا وقتها، هذا إن وجده بالأساس، فعندما يحزن هذا المتهور يجرى خارج العالم، ينزف نفسه، ويصير خاليًا من كل شىء، حتى مما يحمله معه بالفعل.

يتسكّع الشارع المغامر ليلاً، يتمشى فى الشوارع، يتفرّج على الحياة، يستطعم ألمه أحيانًا، ينفض تعبه، يراقص واقعًا وخيالات حتى ينطلق بروحه بعيدًا، كثيرًا ما يطفئ كل أضواءه، أو يفتح أضواء إضافية عجيبة، يخلع أشجاره أو يُنبت أخرى جديدة، يلعب موسيقاه كلها فى وقت واحد، يُطلق كل حيواناته ومشاعره، ويُغرق نفسه بالمطر حتى يطفو كلٌ منهما على الآخر. 

الفوضوى قادر على إلهام جميع الشوارع الأخرى والتأثير فيهم، لذا سيعجبهم أن يستيقظ العالم يومًا ولا يجدهم، وعندما يفكرون فيما سيفعلونه بالكائنات التى ليس لها مكان فى العالم غير الشوارع، ينظرون للفوضوى حتى يلهمهم، فيبتسم ويفتح يديه بالكثير من الأفكار العجيبة الملهِمة.

يعرفون أنه مسكون بألوان لا نهائية من أفكار، كائنات، فنون، جموح، عجائب، وحكايات، لن يتفاجئوا لو فاجئهم بأىّ شىء، رغم ذلك يفاجئهم فى كل مرة، يصاحب المُلهَِم كل الكائنات، إلا أن أىّ كائن لن يحصل على تلك العلاقة العميقة معه إلا بعد أن يتبادلا بعض الدم، العرق، والعمر، فيعرف كلٌ منهما مذاق وعمق صاحبه، عندها يصحبه إلى مقاهٍ كأنها سرية أو سحرية، يسهر فيها مع أصحابه الشوارع، حيث يلعبون مُتَعًا جديدة كل ليلة، ويتسكعون فى الجوار عند لاعبى الموسيقا، ومخترعى العوالم والحكايات، وأسواق تعرض العجائب.

رغم أنها ليست بنفس المتعة التى تكون عليها ليلاً، أحيانًا ما تذهب الشوارع نهارًا لأسواق العجائب والمقاهى السحرية، تلك التى تظهر بأشكال غير التى تكونها مع الليل، وما يتوه كائن عن شارع حتى لو كان يعرفه جيدًا، إلا لأن الشارع بالفعل لم يكن موجودًا، ربما ذهب إلى مقهى أو سوق أو أىّ مكان، كما أن نأن الخدوش والجروح التى تشبه أحيانًا نتوءات، وحُفَرًا بسيطة أو عميقة، تلك التى تظهر صباحًا فى الشوارع، ليست إلا آثار عراكهم ومزاحهم ليلاً مع بعضهم البعض.

الشارع الجموح، يحب أن يمشى فى العالم بقدمين حافيتين، صدر مكشوف، ذراعين عاريين، ومعه آلة موسيقية وترية تعزف جموحًا وحرية، يمشى بجسده العارى، الملطخ بالشمس ومبلل بالمطر معًا، وفى أجزاء منه يظهر سيرك، عوالم صغيرة متجولة، مهرجانات، وتطير فيه كائنات كانت فى حياة أخرى تتمنى الطيران ولا تستطيع، وتلعب كائنات كانت فى حياة أخرى ممنوعة من اللعب.

 يمشى الشارع المُلهِمبلا شىء يحمله  ضد أحد، ليس معه ما يغرى به أىّ أحد، ولا أحد لديه شىء يغريه به، هو لا يريد أن يوقع بأىّ كائن، يجوع فيأكل مما نبت على حواف شوارع العالم، ويشرب من ماء تجمّع فى حفرة بسيطة، أو على ورقة شجر، يمشى حتى تنتهى الشوارع، ويخترع العالم شوارع جديدة، ينظر المُلهَم، الفوضوى، اللامعقول فى عينى كل كائن، يُسلّم على قلبه، يشاركه كسرة خبز أو لعبة أو حكاية، أو يخترع معه شيئًا يخطر لهما فى ذات اللحظة، ثم يتبادل معه بعض عرقه، دمه، وعمره.

لا يتوقف الشارع عن المشى، حتى يصير كائنًا يمر بكل شارع، وشارعًا يمر به كل كائن، وطوال المشىيظل طعم العالم فى قلبه، وطعمه فى قلب العالم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مجموعة تصدر قريبًا بعنوان “طرق مختصرة للجموح”.

 

 

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون