“دقيقة”

"دقيقة"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

يعرف مكانًا تمر منه الدقائق وتعبر إلى الماضى، فيختبئ بشبكة صيده، ويصطاد منها ما يعجبه.

"دقيقة"، عَرِفَتْ كيف يمكنها أن تبقى فى الحاضر، ربما كانت موهبة تخصها، أو أنها فقط أرادت أن تبقى، فحصلت على ما أرادته، وقد لا يكون فى بقائها أية ميزة إضافية، فالماضى أيضًا عالم ملىء بالحياة، والدقائق التى تعبر إليه تظل حية، غير أنه لا أحد يعرف بشكل نهائى إن كانت مُجبَرة على هذا العبور حتى لا تتزاحم فى الحاضر، أم أنها تفعل باختيارها، فالكثير من الدقائق ننتظرها ولا تأتى، لذا، ربما باستطاعتها أيضًا ألا تذهب.

يُفضّل اصطياد الدقائق المسكونة بالمشاعر، وتلك التى تبدو عادية بتفاصيلها البسيطة، حيث البساطة تعنى عمقًا، وتفصيلة صغيرة تصنع فارقًا، أو أن العاديّة نفسها تصنع الفارق، لا يهتم بالدقائق التى وُصِفت بأنها استثنائية أو فارقة وقتما كانت فى الحاضر، حتى إن معظمها الآن، وأثناء عبورها إلى الماضى، تبدو منطفئة، أو صاخبة بسذاجة، وفى الحالتين لا تكون مغوية بالصيد.

“دقيقة”، التى فضّلَتْ أن تبقى فى الحاضر حتى الآن على الأقل، تجول العالم، وتعرف بعد مدة قصيرة أنه ليس مكانًا واحدًا تعبر منه الدقائق إلى الماضى، يعجبها أن يغازلها البعض أحيانًا، وكلٌ منهم يحاول أن يستوقفها، ويُبقيها معه، فتتلكأ قليلاً، وتمنحه ذلك الإحساس بأنها ظلت معه سنوات أو حتى عمرًا، إلا أنها فى الحقيقة لم تفعل.

لا يبيع الدقائق التى يصطادها، فلو فعل لفكّر كثيرون فى الصيد مثله، وربما توصلوا لذلك بطريقة ما، هو لا يعرف متى بدأ هوايته تلك، كيف توصل إليها، أو توصلت إليه، ربما هى موهبة تخصه بالأساس.

 كل ليلة ودون أن يعرفوا أو يشعروا به، يوزّع على أصدقائه تلك الدقائق التى يعرف أنهم سيحبونها، يتركها لكلٍ منهم عند نافذته أو بابه، ليجدها ملفوفة فى قماشة بيضاء مثل طفلة جميلة، أحيانًا يضع سلة ملأى بالدقائق عند باب أسرة يحتاج كلٌ منهم هدية تغيّر يومه، كان يصنع صندوقًا خاصًا للدقيقة التى فكر البعض أن حياتهم متوقفة عليها لكنها أفلتت منهم، فيعيدها إليهم، وكلما حصل أحدهم على دقيقته تلك، وجرّب حياته معها ثانية، فإنه يفعل شيئًا غير ما ظل يتمنى الحصول على فرصة ثانية كى يفعله، يكتشف أن الأمر بهذه البساطة، ويسخر من التعاسة التى شعر بها عندما أفلتت منه دقيقته فى المرة الأولى، الآن، لا يفعل بها شيئًا، فقط، دون ندم أو تعاسة، وبارتياح تام يربت كتفها، ويتركها تعبر بسلام إلى الماضى.

“دقيقة”، تتحرك فى العالم بحريتها، ولا يزعجها كون شخصيتها ملأى بالتناقضات، مثل أنها أحيانًا تكون مطيعة، وتأتى فورًا لأىّ كائن يناديها، فتظل معه مثلما يريد، أو تقنعه بشكل ما أنها ظلت معه مثلما أراد، وأحيانًا أخرى تكون وغْدَة، لا تأتى مهما ناداها، ولا يعنيها أىّ شىء طالما كانت فى مزاج سيئ، أو حتى لمجرد أنها لا ترغب فى المجىء.

تعجبه الكثير من الدقائق المؤلمة، يفكر فى أن السعادة إذا كانت تُبهج العالم وتُلوّنه، فإن الألم يكشف روح هذا العالم، لذا يحتفظ لنفسه بدقائق لها طابع خاص من الألم، ومن وقت لآخر يترك عند نوافذ أصحابه بعض دقائقهم ذات الطابع الخاص، فتخدش قلوبهم بألم غير موجع.

“دقيقة”، تذهب من ليلة لأخرى إلى الأماكن التى تعبر منها الدقائق إلى الماضى، وتتفرّج عليهن دون أن يلاحظنها، ثم تقترب أكثر، وتطلّ على الماضى الذى يعبرن إليه، تعرف أنها تصادفهن فى الحاضر وكلٌ منهن لها شكل آخر، تلاحظ الفارق الذى يطرأ على كل دقيقة فى اللحظة التى تعبر فيها إلى الماضى، ولا يمكنها القول إن أحد الشكلين أقل أو أكثر جمالاً، لا يعنيها هذا، تهتم فقط بمراقبة الشعور الغامض الذى يخدّر قلبها وهى تتفرج عليهن.

سيراها عند تلك الأماكن، ويرى فى عينيها شعورها الذى يخدّر قلبها، فكّر كثيرًا أن يتعرف إليها، لكنه كان يتراجع فى كل مرة، ويفضّل ألا يبدأ طالما تأتى ولا يبدو أنهـا تريد شيئًا غير مراقبة الدقائق، والماضى الذى يعبرن إليه، وكلما التقت عيناها بعينيه كانت نظراتها ترجوه ألا يكشف وجودها، فيطمئنها بنظرة متفهمة، ويحوّل عينيه عنها بهدوء، ومع تكرار ذلك، وتكرار مصادفاتهما فى أماكن أخرى من العالم، صار لا يقلقها أن تراه عند معابر الماضى، لم تعد فى حاجة لأن ترجوه بنظراتها، بدأت تبتسم له، ولا تخشى الاقتراب منه، وعندما راجعت أفكارها عنه، لم تتذكر أنها أحسّت بالخوف منه فى أىّ وقت، صارت تأتى مرات كثيرة لتتفرّج عليه وهو يصطاد الدقائق التى تثير إعجابه، فيشير إلى مكان تجلس فيه، بحيث لا يكشفها أحد، ويمكنها منه أن تحصل على رؤية واضحة لتفاصيل الصيد، يستمران فى ذلك ليالٍ كثيرة، ولا يفكر أحدهما أن يبدأ الكلام مع الآخر، أو ربما يؤجلان ذلك لسبب ما، فقط، تلك التفاصيل المريحة المتفهمة.

وفى ليلة، أثناء عودته من صيد، قابلته فى طريق، ابتسمت، ابتسم، بدأت الكلام، تعرّفت إليه بطريقة لا تسأله فيها عن اسمه، ولا تذكر له اسمها، لم تطلب منه وعدًا بألا يحاول اصطيادها عندما ترغب فى العبور إلى الماضى، لم يسألها لماذا لم تعبر حتى الآن، ولا عن أماكن الدقائق الأكثر روعة فى العالم، لم يطلب منها أىّ شىء، لم تطلب منه أىّ شىء، تجوّلا فى العالم لبعض الوقت، ربما الكثير منه، وفى تلك الليلة، أدرك كلٌ منهما أنه يعتبر الآخر صاحبًا له منذ وقت طويل، بما يكفى لتسميته ماضى. 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

*قصة من مجموعة “طرق سرية للجموح”

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون