عشرون قطارًا
كارولين كامل
ذهبتُ في موعدنا غير المتفق عليه.. أرسلت لك.. وأنت كالعادة لم تُجب، هذه المرة كان الأمل حليفي، أن تأتي وتُخلف ظنوني.. وصلت إلى محطة المترو التي اعتدنا أن نلتقي عندها، جلستُ على الرصيف أتابع القطارات في الاتجاهيْن.. وما أن تفتح أبوابها.. حتي تتراقص عيناي يميناً ويساراً في حركة جنونية بحثاً عنك، خوفاً من فقدانك في الزحام..
تذكَّرتُ كم كنتَ تقبض علي يديَّ أثناء خروجنا من المترو.. وتحتضني بقوة غير مبالٍ بنظرات الآخرين، وتلك المرَّة التي رأتنا فيها صديقة قديمة لي واضطررت أن أغيِّر اسمك، فلا يمكن أن أخبرها أن من كنتُ في حضنه ليس من أبناء ملتنا، وكم آلمتنا تلك الكذبة المقيتة، إلا أننا ضحكنا لاختياري اسم غريب ليدلل بقوة على وضوح هويتك، وأدركت أني كنت أعشق ركوب المترو لاختبئ في حضنك، حتي إن اضطررت للكذب وتغيير اسمك عشرات المرات..
تنبهتُ إلى أن طريقك سوف يستقر به القطار على الرصيف الآخر، صعدتُ مسرعة متجاهلة السلالم الكهربائية، وكأن قدماي سوف تصلان أسرع..
جلستُ أتابع القطارات وأحدِّق، رغم أني لم أكن أحتاج بذل مجهود لأدرك أنك وصلت، عطرك أنت وحدك يتخلل كياني، منذ تلك الأيام التي كنت أمتنع فيها عن غسل يديَّ عقب رجوعي إلى المنزل، لأحتفظ برائحتك معي، حبنا وحده ممنوع، وحلم النوم في فراش واحد يكفي لتشتعل أزمة تُهدر فيها أرواح، فلم يكن لي سوى عطرك يشاركني فراشي، ويقاسمني أحلامي المحرَّمة.
ساورني الشك مرة أخري أنني ربما أجلس على الرصيف الخطأ، فأنت قد تصل إلى هذا الرصيف، وتنتقل إلى الآخر لملاقاتي، ويجوز أن أفقدك، ركضت علي السلالم، ووصلت إلى النقطة ذاتها، التي بدأت منها، جلست علي مقعد خالٍ، شاردة وعاقدة العزم على العودة إلي المنزل، لأشم علي جسدي كله وليس يديَّ فقط رائحتك، سوف أحتضنك أمام الجميع دون خوف، ودون حتي أن أفكر هل سترفضني أم لا، شعرتُ أنك من ستبادر بفتح ذراعيك لي، لأنك تعرف أني لم أكن أستطيع أن آخذك بين ذراعي دون مساعدة منك، لم أسعد من قبل أني قصيرة القامة إلا عندما سندتُ رأسي علي صدرك، أول مرة وبكيت، واحتويتني بذراعيك القويتين، وعندما تحملني لأحتضنك، كانت قدماي ترتفعان عن الأرض، فأشعر أن مصيري كله تعلّق بك.
لا أعرف كم من القطارات مر عليَّ وأنا غارقة في الذكريات والأمنيات، اكتشفتُ دموعي وهي تنهمر بغزارة، دون أي محاولة مني لإستحضارها، تلطَّخ وجهي الذي وقفت لتزيينه بعناية أمام المرآة.. وها هي هيئتي تنهار بأكملها، في البداية تمنيتُ أن تراني وأنا في كامل زينتي، الآن أريدك أن تراني هكذا، ربما فهمت.
لا أعرف كيف حملتني قدماي، عائدةً إلي منزل مرة أخرى، وطوال الطريق لا يدور في ذهني سوى شيء واحد، أنك قررت أن تفاجئني، وسوف أسمع صوتك في محطة الوصول بجوار منزلي، وكلماتك المميزة التي تناديني بها..
هل حضرتَ بعد رحيلي، ألم أجلس وقتاً كافياً، هل أخطأت عندما غرقت في دموعي وتوقفت عن متابعة القطارات، تعذبني فكرة أنك لم تعد تفكر فيًّ، ورغم مطاردتها لي، إلا أني انتظرتُك عشرين قطاراً على الأقل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصّة مصرية