السيرة البندارية (13)

موقع الكتابة الثقافي art 39
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

عمل سيدي أحمد الصعيدي مع أبناء خاله في صنع اللبن ومنتجاته، وكان يستيقظ مُبَكِّرًا لتوزيعه، فيتنقل من بيت لبيت كالفراشة، ويتذكر تلك الأيام التي كان ينظر إليه فيها أبوه مُشْفِقًا عليه من ثقل الفأس، وضعف البنية، وقلة الجهد، ويفرغ سَرِيعًا من عمله بالساعات الأولى من الضحى، ليتفرغ طيلة اليوم لزيارة آل البيت فذاع صيته سَرِيعًا، وكأنه ولد بتلك المدينة الساهرة، الصاخبة، مترامية الأطراف، سرعان ما أطلق عليه “اللبان” نسبة لعمله، ولم يكن يحلو له إلا الجلوس يَوْمًا بجوار السيدة زينب، وآخر بجوار أبي الشهداء الحسين، يبذل معظم مايكسبه صدقات وعطايا، واكترى سيدي أحمد مَسْكَنًا بحي شبرا، كان مَقْصِدًا لكل من جاء القاهرة من أهله وأصدقائه.

وكانت أيام عيده قدوم شيخه السيد العيساوي عليه، يبدأون زياراتهم من سيدنا الحسين ثم الأزهر حيث يلتقي الشيخ مع أقرانه ومشايخه، ثم يقضون بقية يومهم مع الشيخ صالح الجعفري؛ رفيق صبا الشيخ وشبابه، يتحدثون في مسائل العلم ظاهره وحقيقته، ويتشرب سيدي أحمد منهم ما يسمع؛ على دقة وصعوبة ما يتحدثون فيه من مسائل.

وحين يفرغ سيدي السيد العيساوي من زياراته يتوجه ومريده نحو بيته بشبرا يمكث معه أَيَّامًا، لاشغل لهم فيها غير أن يقرأ عليه متون الكتب وشرحها.

وفي أعوام متقاربة رزقه الله بمحمود ومحمد وسناء وعبد المقصود.

وبالرغم من سعة الرزق إلا أن الشيخ أحمد كان كَثِيرًا ما يقع في ضيق مالي جَرَاء كثرة بذله وعطائه، وكرمه، فعلم بمقدم الشيخ ولم يكن بالبيت قِرْشًا وَاحِدًا، فذهب مَهْمُومًا، يلوذ بالحسين، وجلس على أحد الأرصفة منشغلًا بالصلاة على النبي، وكيف سيكرم شيخه القادم، فإذا بسيارة تتعطل، ويسأله قائدها أن يدفع السيارة، وما أن وضع سيدي أحمد عليها يده حتى انتفضت السيارة، وتحركت، فنادى قائد السيارة على الشيخ، وأعطاه ثمانية عشر جُنَيْهًا، كان المبلغ بمثابة ثروة في ذلك الوقت، فاستبشر الشيخ، واشترى من خيرات الله ما حمله على عربة كارو، وتوجه به إلى البيت فإذا بالشيخ ينتظره، ويباسطه ضَاحِكًا” بالنصف ياشيخ أحمد!” فيرد عليه” النصف كله؟!!” فيرد عليه” يعنى هو أنت كنت “زجيت*” دفعت السيارة؟!”

فيضحك الشيخ السيد العيساوي، ويقول” من أكرم يُكْرَم، ومن خدم يُخْدَم فافهم..”

وبلغ مقدار ما يوزعه سيدي أحمد الصعيدي من اللبن، ومنتجاته نحو الربع طن،مما أثار حسد وحنق الكثير، وفي ذات صباح باكر خرجت له امرأة قد تخففت من ملابسها، سلمها ما تطلبه، وفر من المكان لبيته، فرار جُؤذُرٍ من عين قَسْوَرَة، مَحمُومًا لازم فراشه، حتى أن أولاده وزوجه هم من تولوا التوزيع بَدَلًا منه، وكان قراره بعدم التوزيع الصباحي بَاتًّا لا تراجع فيه، فلتذهب كل أموال الأرض وكنوزها إلى الجحيم في سبيل حفظ صفائه، ونقائه، حتى وإن كانت مجرد نظرة محرمة لا تحل له، علم سيدي أحمد أنها الفتنة متخفية في إِهاب آلاء البسط في الحياة، ومتاعها، وعلم كذلك أنه الابتلاء، وكان كل وجله وخوفه، أن لايثبت حيال هذا الطوفان القادم، والعاصفة الهوجاء التي لاحت في سماء محبته الصافية.

حاول الشيخ فتح محل لتوزيع اللبن بَدَلًا من توصيله للبيوت، فاكترى مَحَلًّا بمنطقة دوران شبرا، على مساحة واسعة للغاية، وكلفه إعداده معظم ما توفر لديه من مال، ولما بدأت تجارته في الازدهار، نظر أحدهم إلى زوجه نظرة أغضبته، فقرر إغلاق المتجر.

فشارك أحدهم في متجره، وبعدما كان المتجر على وشك الإفلاس، ازدهرت تجارته، وفاضت أرباحه، إلا أن نفس شريكه قد فسدت، فأنكر فضل سيدي أحمد الصعيدي، وفض الشركة، بعد جحد مستحقاته.

وكانت هذه العبارة لاتفارق لسانه، نابعة غضة طرية من قلبه” كل مصيبة في غير القلب هينة…”

أتت التجربتان على أموال الشيخ، بل وأوقعته في ديون واسعة، إلا أن سيدي أحمد قد تلبس وانهمك بعبادة انتظار الفرج، وحسن الظن بربه، ومع ماهو فيه من ضيق وضنك، لم ينقطع مرة عن ملازمة أعتاب آل البيت، وود أحبابهم، ماكان يُقَطِع قلبه أَلَمًا؛ عدم قدرته على البذل كما كان، كان يبكي بكاء مُرًّا كلما سأله أحدهم بَذْلًا فلم يستطع العطاء كما تعود، فتنهمر دموعه، فيشاهد أولئك الذين أقعدهم العذر عن مصاحبة رسول الله،صلى الله عليه وآله، فيتلو قول الله بَاكِيًا خَاشِعًا أمام روضة حفيدة أبي عبد الله الحسين “وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ”

فكان السبط يأتيه مواسيًا مُذَكِرًا إياه بمحنته فتنهل الْعَبَرَات بلا انقطاع، شُّوْقًا وَإِشْفَاقًا من فقدان نعمة القرب وأنسه…

فكر في العودة إلى التوزيع، ولكن بالفترة المسائية، فقد قرر عدم العودة للتوزيع الصباحي حيث تكثر به الفتن، إلا أن الطلب المسائي على اللبن يقل بكثير عن الفترة الصباحية، وبدراسته لأحوال التوزيع، علم أن ما يستطيع توزيعه لا يزيد بأي حال عن الثلاثين كيلو. فكيف يسدد ما تراكم عليه من ديون، وكيف يفي بما ناء به كاهله من أعباء أسرته الكبيرة، ولما ضاقت به السبل إذا بالشيخ السيد العيساوي يطرق الباب…

سأله عن أحواله، فشكى له سيدي أحمد الأحوال والديون، وأنه مخافة الفتنة فعل مافعل …

فأطرق الشيخ ساعة كاملة، وَاضِعًا رأسه بين راحتيه، ثم رفع رأسه مُسْتَبْشِرًا باشَّاً..

” في الثلاثين كيلو لبن البركة يا أحمد…توكل على الحي الرزاق…”

***

سادت أجواء الاحتفال والفرح مندرة أبي المعارف العيساوي، لتصدح حناجر مشايخ البلدة بالإنشاد والابتهالات، وتمد الموائد بطيب الطعام والشراب، وينير وجه سيدي السيد العيساوي بالبشر والفرح، فاليوم قد نال ولده النجيب الحسيني الثانوية الأزهرية بتفوق، بعد جد واجتهاد في التحصيل، وبذل الساعات والليالي في حفظ المتون ومراجعة القرآن والسنة.

وفي ركن قصي من المندرة جلس الشيخ أبو جمالة وسيدي السيد العيساوي وابنه الحسيني مرتديا الزي الأزهري تعلوه علامات الجد والنجابة، و أنوار جده وأبيه، وسلسلة المشايخ البندارية الممتدة للعترة، والدوحة النبوية المباركة…ليبادره الشيخ أبو جمالة بالسؤال:

-أي كلية وقع اختيارك عليها ياحسيني؟

-كلية اللغة العربية ياسيدي..

ليتدخل سيدي السيد:

-ولكنها كلية صعبة، وتحتاج الكثير من الاجتهاد…

-ولكن اللغة العربية مفتاح التبحر في شتى العلوم الشرعية قاطبة، أريد أن أخوض بها بحور الشريعة، وفهم أمثل لكتاب الله عز وجل.

-صدقت ياولدي…

ليتدخل أحد وجهاء القوم الذين طرأوا على مجلسهم الضيق:

-ولكن دراسة اللغة العربية لن تؤهلك إلا للتدريس في معهد من معاهد الأزهر الثانوية أو الابتدائية، عليك بكلية الشريعة، بها تستطيع الحصول على منصب في القضاء، وأنا ضمين بذلك …

فيرد عليه الحسيني بصوت مؤدب خاشع:

-ليست المناصب بغيتي ياعماه، أريد مزيد فهم وفقه، وتفرغ للقراءة والتحصيل هذا هو أملي وهدفي في تلك الحياة …

-نعم ،لله دركم، يا آل العيساوي استبدلتم الأراضي والمناصب بالعلم والتعليم والكتب والأوراق.

فيبادر سيدي أبوجمالة:

-رضي الله عن جدك وأبيك ياولدي…

***

وكان سيدي أحمد يوزع ما يسره الله له مساء، فيفيض الله عليه ببركات في الرزق الذي كان يفيض عليه، ومن حوله.

وأشار عليه أحدهم أن يوزع مشروب العرقسوس صَبَاحًا، فتطوع بشراء أدوات توزيعه، فلم تكن تمر عليه ساعة من نهار إلا وقد فرغ من توزيع حصته، ماشرب منه أحد إلا وتملكه حال من البسط والسرور، فيأتي يومه الثاني، لا يشغله غير البحث عن سيدي أحمد ومضاعفة الشراب، يخبر البعيد والقريب، فيسرع طَالِبًا من شراب سيدي، كلهم يبحث عنه، ويتهافت على كوب من ذلك السر المتخفي في كوب عرقسوس.

سدد سيدي أحمد ما عليه من ديون في أقل من عام، وفاضت الأموال، وكان قد اقترب مولد المشيرة، فقرر إقامة خدمته الكبرى في رحابها، يطعم، ويخدم بخفة وهمة حيرت كل من شاهده.

فتقاطر الأحباب على خدمته من قريته وغيرها من قرى الشهداء وأجوارها، وكان سيدي أحمد قليل الكلام والحديث، فلاتراه إلا مُلْتَبِسًا بحال الصمت، تعلوه هالة من نور ومهابة شديدة، وكان أول من حضر الخدمة سيدي عبد الحليم طولان، فلما شاهد النور انتابه الخوف عليه، فلم يفارقه في رواحه ومجيئه وكأنه صار ظِلًّا لايفارقه، حِرْصًا عليه، وَإِشْفَاقًا.

جاء سيدي أبو جمالة، وسيدي السيد العيساوي الخدمة،لتقام الحضرة، وتفيض الأنوار، وتهل النفحات الربانية من كل مكان.

ولازم الشيخ مريده حتى يوم الجمعة فذهبوا لزيارة سيدنا الإمام الحسين، ثم انتقلوا إلى الأزهر لسماع خطيبه المفوه سيدي صالح الجعفري…دخل سيدي السيد، ومن خلفه سيدي أحمد الصعيدي، فهرول ناحيتهم سيدي صالح الجعفري، وكأنه كان مُنْتَظِرًا لهم…مُرحِبًا بصديقه القديم ومريده، مُصَمِمًا كل التصميم أن يصعد سيدي السيد العيساوي المنبر الكبير لإلقاء خطبة الجمعة:

-كيف وقد أقيمت لك؟

-كيف وكل هذه الأنوار عليك؟…

إلا أن سيدي السيد قد أصر أن يجلس تحت المنبر بعد أن اتكأ سيدي صالح على زنده، وخلفهم يسير سيدي أحمد.

وبعد الفراغ من الخطبة والصلاة صحب الشيخ صالح الشيخ ومريده إلى حجرته، لتناول الغذاء، ثم خاضوا في بحور من العلم الظاهر والباطن، ومرة تلو المرة كان ينظر من طرف خفي إلى الصعيدي، ويبالغ في الترحيب به، وإكرامه، انطبع حديثهما، ونقش في قلبه، وتشربت روحه بفيض أنوار المعرفة، وضاقت العبارات عن صوغ ماسمعه.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون