أولاد الحارة في قسم الأورام

أولاد الحارة في قسم الأورام
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيهاب قريبة

- “الورم في أي جزء من المعدة؟”

- …

- “أنظر في الملف، من المهم معرفة ذلك، نوعية العملية ستحدد بناء عليه”

رأيته في السرير المجاور لسرير مريضنا، عجوز عربي إفريقي الملامح يرتدي روب شتائي أنيق - لم أرى أحداً من المرضى يرتدي مثله من قبل-، وقبعة صوفية، وشال حول العنق، جميعها يقع لونها في درجات ما بين البني والأخضر، شدتني هيئته، هندامه، نظارته، نضراته، وقاره، والأهم من ذلك شدني كتاب كان يحتضنه، على الأغلب كان يقرأ فيه قبل أن نقطع هدوء الغرفة نحن فريق الجراحة للكشف على مريضنا.

انقطع خيط تتبعي لنقاش استشاري الجراحة معنا عن أهمية معرفة مكان ورم المعدة، وحاولت أن أسترق النظر إلى عنوان الكتاب، تملكني الفضول لمعرفة ذلك، خمنت أنه يقرأ كتاباً عن التراث أو الإصلاح والنقد الديني، كتاباً لنصر حامد أبو زيد أو جورج طرابيشي أو محمد أركون، لا أدري لماذا فكرت بذلك.

“أولاد حارتنا” !!

عجوز في قسم الأورام في أحد مستشفيات الرياض يقرأ رواية إشكالية مثل “أولاد حارتنا” التي كادت أن تقتل كاتبها نجيب محفوظ في محاولة اغتيال فاشلة، رغم أنه تبرأ منها قبل المحاولة بسنوات حتى يرضى عنها الأزهر!

“عجوز كهذا يجب التعرف عليه، لابد أنه مليء بالقصص والحكايات والحكمة” هكذا قلت لنفسي.

انسحبت خلسة من فريق الجراحين الذين كنت أقضي معهم فترة تدريب لمدة شهرين وقصدت مكتب الممرضات بحثاً عن ملف العجوز.

كان سودانياً، وعمره خمسة وستون عاماً، والتشخيص ورم خبيث في البنكرياس، ورم من أخبث الأورام والغالبية العظمى من مرضاه لا يعيشون أكثر من خمس سنوات بعد تشخيص المرض.

 “لماذا يكون هذا مصير الأشخاص الطيبين؟!” تساءلت، واعتصرني الحزن على الرجل الذي أحببته قبل أن أكلمه!

هممت أن أعود إليه لأجلس معه، لكنني آثرت أن أؤجل ذلك إلى وقت لاحق، أكون فيه أكثر جاهزية نفسية لاستكشاف الرجل، وأن أسمح لنفسي بتحديد محاور الحديث التي سنتطرق لها.

عدت إلى البيت وقرأت أكثر عن أورام البنكرياس، كنت أبحث عن أي معلومة تفند معلومتي السابقة، “الطب يتطور” قلت لنفسي، “أو ربما أن المعلومة تخص ورماً آخراً لكن الأمور تداخلت علي”.

لم أكن أريد لهذا الرجل أن يموت، “رجل كهذا يستحق عمراً مديداً، لا بد أن هنالك كتباً كثيرة يرغب بقراءتها أو يعيد قراءتها، من يقرأ “أولاد حارتنا”في هكذا ظروف يستحق الحياة، يستحقها أكثر من كثير من الأصحاء الذين لا يفعلون شيئاً في أيامهم”.

وفي ليل ذات اليوم كاد أن يفتك بي الفضول للتعرف على الرجل،ولم أطق صبراً على تأجيل مقابلته، فقلت لأصغر إخوتي -في المرحلة الإعدادية- “أريدك أن تأتي معي لتقابل رجلاً ستحبه، رجل مختلف عن كل الرجال الذين عرفتهم”.

أخي خامة فريدة مختلفة عن الذين حوله، ولكنه يعاني من كل ما عانيته في طفولتي ومراهقتي، ويتبنى القناعات البالية السائدة في المجتمع المحيط به في المدرسة والشارع والبيت بحكم أنه لم يرى غيرها، بل إنه سيعاني أكثر مني بكثير بحكم عاطفيته التي تجعله يلقي بالاً أكثر مني لمشاعر الآخرين وكلامهم وتلاعبهم العاطفي به. لطالما رغبت بأن أنمي فرادته لكنني أملك مشاكلي الخاصة مع الوسط المحيط، واعتقدت أن مقابلة هذا الرجل ستريه وجهاً آخر للعالم غير الذي خبره، تجربة مقابلة هذا الرجل ستكون تجربة فريدة من نوعها ستنطبع في حياته عمراً بأكمله، وربما تكون لحظة تحول عنده.

وقفت أمام مكتبتي أبحث عن كتاب أهديه للرجل في زيارتنا، فكرت أن أهديه “صائد اليرقات” رائعة أمير تاج السر، قلت لنفسي أنها ستعيد له ذكريات بلاده السودان، لكنني سرعان ما غيرت رأيي عندما رأيت رواية “المجوس” رائعة إبراهيم الكوني، أفضل رواية عربية قرأتها في حياتي، كان الكتاب عزيزاً على قلبي كثيراً، الرواية كانت ثالث رواية عربية أقرأها في حياتي بعد “ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي و”النهايات” لعبدالرحمن منيف، قرأتها في إجازة نصف العام عندما كنت في السنة الثانية من الجامعة أثناء دراستي في القاهرة، كنت قبل تلك الإجازة بشهر تقريباً قد قررت أن علي أن “أقرأ”، وأن فترة الثانوية التي توقفت عن القراءة وقتها بحجة الدراسة انتهت، والسنة الأولى من الجامعة مضت برهبتها، ولم أعرف ماذا أقرأ وقتها، فاستعنت بجوجل وعثرت على قائمة بأفضل مئة رواية عربية، وكان من بينها رواية “المجوس” التي شدتني إليها جنسية كاتبها الليبيبة، ليبيا ذلك البلد المنغلق على نفسه الذي لا نعرف عنه غير جنون حاكمه وقتها معمر القذافي.

كانت الرواية عزيزة علي بسبب ذلك، واعتقدت أنها ستسعد العجوز كثيراً، قلت أن جوها الأمازيغي الإفريقي الصحراوي المليء بالبدو والصوفية والشعوذة سيروق للعجوز السوداني ويسعده.

ارتديت ملابسي، والبالطو حتى لا ألفت نظر من لا يعرفني وأنا أتجول في طرقات المستشفى ليلاً، وأخذت أخي والمجوس وانطلقنا.

أزحت الستارة قليلاً، وألقيت السلام، كان يجلس ذات الجلسة في مكانه بينما توارت “أولاد حارتنا” عن الأنظار في الفوضى فوق المنضدة المجاروة للسرير، ويجلس على طرف السرير رجل ثلاثيني عرفت فيما بعد أنه ابنه.

ارتسمت نظرة وجلة على وجه العجوز بقيت متشبتة به لثوان عدة، أدركت أنه لا يحب الأطباء، ولا تجمعه بهم علاقة طيبة، -حقيقة من يحتك بأطباء الأورام أو الجراحة ويبقى على علاقة طيبة مع الأطباء؟!-، فسارعت لتدارك الموقف، والتأكيد على رغم أنني طبيب إلا أنني جئت بصفتي زائراً.

انفرجت أساريره، ورحب بنا، ودعانا للجلوس على كرسيين موجودين بجوار السرير.

بدأت الحديث عن سبب الزيارة وختمت ذلك بقولي “أن من يقرأ أولاد حارتنا في هذا السن رجل يستحق الزيارة”، وأهديته رواية “المجوس”، وأخبرته أنها أفضل كتاب في مكتبي، وأعزهم، وسردت له معاناتي حتى عثرت عليها في إحدى مكاتب وسط البلد في القاهرة في ذلك الشتاء الذي لا أنساه، وختمت بأنني لن أجد شخصاً يستحقها ويقدرها مثله.

فرح بالمجوس كالفرح بمولود جديد، ونظر إليها بكل امتنان، وشكرني، وأمر ابنه أن يضيفنا من علبة شوكلاتة ماكنتوش موجودة بجوار السرير، ثم ساد الصمت، لم أجد ما أقوله بعد ذلك، بينما بادل العجوز نظراته بيني وبين أخي وابنه والكتاب.

سألته من باب فتح الحديث والتعارف “هل تعرف قبيلة آل خلدون الموجودة عندكم في شرق السودان؟”.

أزاح الرجل بوجهه بعيداً عني وبصق على الأرض كرد فعل غير متوقع من وقاره الوديع على ذكري لآل خلدون، وهم أحد فروع القبيلة التي أنتمي لها، ولكنهم لا يحظون بسمعة جيدة هناك على العكس من سمعتها في الدول الأخرى.

كنت أعرف عن ذلك مسبقاً، ولكنني لم أتوقع هكذا ردة فعل، وعلى الرغم من ذلك وجدتها فرصة لفتح حديث عن ثقافة التعميم لدينا مع العجوز الحكيم، فأشرت إلى انتسابي لذات القبيلة.

شعر العجوز وابنه بالخجل والتزما الصمت، وشعرت بسوء الموقف فتداركت الأمر، وسألته عن عمله.

حدثني أنه خريج أدب إنجليزي وعمل مدرس للغة الإنجليزية، فانفرجت أساريري قائلاً في سري “إن عشق الأدب متأصل فيه”، وتوقعت حديثاً مطولاً عن أساطين الأدب الإنجليزي، أوسكار وايلد وفيرجينا وولف وفيليب روث وغيرهم، ولكن كان حديثه عن أني عملت في مدرسة كذا في السودان عدة سنوات وهنا في مدرسة كذا وكذا وكذا.

بات العجوز يكرر كلامه عن سيرته المهنية تحت إلحاح أسئلتي دون أن يضيف جديد أو يأتي على ذكر أي أديب إنجليزي واحد حتى تشالرز ديكنز أو حتى شكسبير ، فغيرت مجرى الحديث قائلاً “لماذا أولاد حارتنا؟”.

بدا أنه لم يفهم سؤالي، فأردفت موضحاً “لماذا اخترت أن تقرأ رواية أولاد حارتنا؟”.

- “لم أخترها، كنت متعوداً على الاستماع إلى القرآن طوال الوقت هنا في المستشفى، ولكن مرت علي فترة تعطلت فيها سماعة الأذن الخاصة بي، فاستبدلت سماع القرآن بقراءته وقراءة الصحف للتغلب على ملل المستشفى، وفي أحد الأيام أتتني فتاة بعمرك رأتني غارقاً في الصحف، فأخبرتني أنها من جمعية تدعى “أصدقاء المرضى”، وعادت لزيارتي في يوم آخر وأهدتني الرواية كما فعلت”.

أصابتني الحقيقة بالصدمة، والعجوز الذي كنت أتوقعه مثقفاً حكيماً مليئاً بالحكايا والقصص لم يكن كذلك، ولكنني رفضت الهزيمة، وسألته سؤالاً أخيراً عما فهمه من الرواية.

حدثني بكلام عن الخير والشر، كان كلاماً عاماً، ولم تصل بصيرة العجوز إلى اسقاطات نجيب محفوظ التي كادت أن تقضي على حياته.

كانت خيبتي أكبر من أن توصف، لدرجة أني أكاد أجزم أن العجوز وابنه أدركاها، فحاولت مرة أخرى تدارك الموقف، وحولت مجرى الحديث إلى حالة العجوز ومرضه، سألته كيف بدأت الأعراض وما الفحوصات والعمليات التي جرت له، وأجبت عن بعض أسئلته التي لم يجد الأطباء وقتاً لسماعها، ولم يلقوا لها بالاً.

استأذنت بعد ذلك وغادرت مع أخي، وطوال طريق العودة عصفت بي مشاعر وأفكار كثيرة، بين شعور بالخيبة وأسف على خسارة “المجوس”، وخوفي بأن زيارتي عوضاً عن أن تفرج عن العجوز زادت شعوره بأن عمره الذي ينهشه السرطان ضاع هباءً في اللا شيء، فحزنت ولازمني الحزن أياماً.

تمنيت أن تلك الزيارة التي بالكاد استمرت عشر دقائق أن تغير شيئاً إن لم يكن عند العجوز فعند ابنه الشاب الثلاثيني أو عند أخي الذي لم يفهم جل ما حدث ولكن راقت له تجربة عيادة المرضى عموماً.

وأما تلك الفتاة التي قرأت “أولاد حارتنا” في هكذا بيئة محافظة وأهدتها للعجوز، فربما سيجمعني بها القدر يوماً ما، أو لنقل لا داعي لتمني هكذا اجتماع، فبعد ما حدث لا أستبعد أن تكون مجرد فتاة وجدت “أولاد حارتنا” في مستودع الجمعية فجلبتها وأهدتها دون أن تقرأ اسمها حتى!

ـــــــــــــــــــــــــــــ

إيهاب قريبة – قاص – فلسطين

ـــــــــــــــــــــــــــ

اللوحة للفنان: عمر جهان

ـــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون