سيكولوجية الوباء

موقع الكتابة الثقافي art 27
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سمير خان ودامير هورموفيك

ترجمة: رفيده جمال ثابت

تشتمل الصحة النفسية المتعلقة بتفشي الأوبئة على عمليتين متوازيتين تعملان على مستويين مختلفين، ويمكن تطبيقهما على كلاً من مفاهيم الجنون ومفهوم الوباء أو العدوى.

الأولى هي انعكاس الوباء في مجال علم النفس؛ في الأفكار والسلوكيات والاستجابات الانفعالية. فمثلما يكون للمرض الجسماني أسبابه؛ فينتشر عبر النواقل، ويتبع أنماط الانتقال، ويكمن خلال فترة الحضانة، ثم يستحوذ على المضيف، كذلك يكون للجوانب السيكولوجية العامة لتفشي الأوبئة بذور من المعلومات الخاطئة التي تتغذى على الارتياب وتنمو بالشكوك وكل ذلك يحدث في النظام الحوفي (جزء الدماغ المسئول عن استجاباتنا السلوكية والعاطفية)، ثم تنفجر عبر نواقل وسائل الأعلام والاتصال في شكل هلع وذعر فردي أو جماعي، مهددة بالهيمنة على مصادر تكيف الفرد أو الجماعة مع الأزمات.

أما العملية الثانية فهي التماثل بين المرض المعدي بصفته عدوى فعلية والمرض العقلي كعدوى رمزية. “الجنون معد”، يكتب الكاتب جوزيف هيلر في روايته (الخدعة 22). نعرف، بلا شك، أنه ليس كذلك، لكن غرائزنا البدائية غير مقتنعة بذلك. لذا نجد أن الوصمة الثقيلة والعزلة للمرض العقلي والمرض المعدي، ينبعان من “الخوف من العدوى”. لا عجب إذاً أن المرض الذي كان يوصم قديماً، مثل الجذام، حل محله حديثاً الأمراض العقلية.

في العادة، لا نسمح لمخاوفنا العميقة الكامنة من العدوى ومن الجنون بالطفو على السطح؛ لأن مشاعر القلق التي تسببها لا تُحتمل، ولاسيما إن كان الجنون والعدوى مرتبطين. غير أننا ننخرط أحياناً في اختبار تلك المشاعر المخيفة بغرض التسلية. فعندما نرى الزومبي في الأفلام نسمح لأنفسنا بالشعور بالرعب في حالة تسمى (تعليق الإنكار) لأنهم مرضى بشكل واضح، ونعرف أن مرضهم معد. في الوقت ذاته، تهتز أعماقنا لأنهم ليسوا مرضى من الناحية الجسمانية فحسب، بل ولأنهم مجانين، ومن المفهوم ضمنياً أن خسارة سلامتنا العقلية وذواتنا في عملية “العدوى” هي التي ترعبنا. لذا كان من الضروري إبعاد الزومبي الذي يهدد صحتنا وسلامتنا العقلية ونفيه وعزله.

استخدام صورة الزومبي في مجال الصحة العامة ظل قائماً منذ عام 2003 ومنذ صدور كتاب (دليل النجاة من الزومبي) للكاتب ماكس بروكس. كما استخدمها العلم بشكل مستفيض منذ استعانة مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) لشرح الاستعداد للطوارئ في عام 2011. وقد استخدمت حملات عديدة الزومبي بهدف رفع الوعي والاستعداد لتفشي وبائي.

ينطوي تحت الخوف من الزومبي والافتنان بهم علاقتنا المتذبذبة مع غرائزنا. في مستهل عام 1915 أشار المحلل النفسي كارل أبراهام إلى الموتى الأحياء في خطاب بعث به إلى سيجموند فرويد، مفترضاً أن المحرك الفموي الموجود في المراحل المبكرة من الحياة يمكن أن يؤدي إلى الرغبة في الاندماج بموضوع الحب عن طريق التهامه. وقد تناول فرويد هذه الفكرة بالفعل في كتابه (ثلاث مقالات في النظرية الجنسية). تساءل أبراهام إن كانت تلك الدوافع الكانيبالية غير المقبولة قادت بعض المرضى إلى أوهام الإستذئاب أو التهام الناس والرضع، وغدت أساس الحزن على الهجوم على موضوع الحب. لقد قدمت سلسلة أفلام جورج روميرو (ليلة الموتى الأحياء) فكرة تحول الزومبي إلى آكلي لحوم بشر. وأدى هذا بلا شك إلى استئثارهم بالنصيب الأكبر من الخيال العام.

من المعتقدات الشائعة عن الزومبي والمرض العقلي فكرة التحكم وفقدان حرية الإرادة. يختلف الزومبي عن مصاصي الدماء والمستذئبين في عدم امتلاكهم إرادة، بل يدفعهم الجوع. لذا لا يملكون ضميراً نحو أفعالهم أو وعياً بها. وهم بذلك يمثلون رغبة النكوص إلى الحالة الطفلية حيث يتغذى المرء بنهم دون اعترافه بالعنف. تحدث حالات العنف هذه في حالة الأوبئة والهلع الجماعي المرتبط بها؛ حيث يتخيل المرء أنه تم غزوه وفقد السيطرة على عقله وأفعاله، وسقط في قبضة الجوع الضاري والنهم المدمر. والنتيجة النهائية هي الاستسلام التام إلى الطبيعة الغريزية للفرد مما يفضي إلى نهاية العالم وانهيار الحضارة الإنسانية.

في هذا السيناريو المدمر حيث المخاوف ومشاعر الاشمئزاز تعيش في الملوث أو المعدي، يوضع “الدخلاء الغرباء” في أحياء منعزلة، ويتم مهاجمتهم، وتشويههم، وقتلهم دون تأنيب ضمير. إن الأوبئة لا تشمل نشر المرض الجسماني فحسب، بل ونشر الدعاية العنصرية والمؤيدة للعنف، فتظهر الأجندات الحوفية التي تسمح بإشباع رغباتنا العدوانية في الوقت ذاته.

ربما ننخرط في هذه الخيالات باعتبارها طريقة للسماح بمخاوفنا الأولية وعدواننا البدائي للظهور في سيناريو محكم عن نهاية العالم على يد الزومبي. في السياق ذاته، عندما يلوح تفشي وباء خطير في الأفق، نستسلم لهذه الدوافع مجدداً، هذه المرة على المستوى الجمعي والمجتمعي. إن القلق المستفحل والهستريا المتفاقمة ينبئان عن انتشار فعلي للوباء، وفور تبين إمكانية احتواءه وانحساره، ندير رؤوسنا بعيداً وننسى أهوال غزو الوباء لمخاوفنا.

بصفتنا كائنات عاقلة وعلماء، يكتنفنا بعض القلق إزاء ردود الفعل الأولية اللاشعورية لاحتمال تفشي وباء؛ لذا نختار عدم التفكير فيها بشكل واع. في استطاعتنا التعامل مع الوباء بصفته مرض مادي، كما يمكننا التعامل مع ردود الأفعال العامة البدائية على الوباء، والتبعات السيكولوجية له ولانتشاره بعد ذلك، لكننا سنعاني من صعوبة التعامل مع رمزيته السيكولوجية الغامضة المحملة بدلالات في أعماق نفوسنا.

يعارض الوباء المفهوم الشائع لعالم يسوده العدل وتحكمه قوة عظمى محبة للخير، كما يظهر زيف اعتقادنا بأن الطبيعة أم لنا أو أنها إله كلي القدرة. وقد صور الإنجيل والكتب المقدسة الأخرى الأوبئة بأنها عقاب ينزل بالناس لخطاياهم وذنوبهم. إن الناس يحتملون الحالات الفردية للمرض، ولكن مع تضاعف الحالات القدرة على استيعاب طبيعة المرض غير المتوقعة والمتقلبة تغلب قدرتهم على احتمال الغموض وعدم التيقن.

بالإضافة إلى أن العدوى لا يمكن التحكم فيها أو التغلب عليها، والبحث عن أسبابها يخلق في اللاوعي قصة أن الوباء ناجم عن فساد المجتمع. فيشعر المعافون بالغيظ والكره نحو المرضى إذ إنهم ليسوا نواقل للمرض فحسب، بل وكذلك سبب حلول اللعنة على المجتمع بأكمله وطرده من الرحمة الإلهية. وإن كان الزومبي يفصل الروح عن الجسد، فإن الوباء يفصل المجتمع عن نظامه وعافيته.

فور استعادة الصحة والنظام، الرغبة في الشعور بالعافية والكمال تدفع الناس إلى نسيان الفوضى والصدمة التي سبقت الشفاء. إن الأوبئة تشوش إحساسنا بالواقع والنظام، وتفضي إلى طريقة معدلة من تخزين الذكريات والتجارب، وعودة إلى الحالة الطبيعية يصحبها كبت وربما اضطراب في تذكر تلك الفترة.

ربما أنعكس هذا الانزعاج من الاعتراف بالمعنى العميق الوجودي الذي يحمله انتشار وباء لنفوسنا الفردية والجماعية في أول لقاء لنظرية التحليل النفسي مع الوباء وتطبيقها على أرض الواقع. في يناير 1920 توفيت صوفي فرويد هالبرشتاد الطفلة الخامسة لسيجموند فرويد جراء مضاعفات وباء الأنفلونزا الاسبانية الذي أنتشر في الفترة من 1918 إلى 1920. محطماً بهذه الخسارة، كتب فرويد إلى أوسكار فيتسر يقول: “تلقينا هذه الظهيرة نبأ أن عزيزتنا صوفي التي تقطن في هامبورج قد اختطفها التهاب الرئة الانفلونزي، والذي انتزعها وهي في أتم عافيتها وصحتها من حياة كاملة نشطة كانت فيها أم ماهرة وزوجة محبة، في أربعة أو خمسة أيام، كما لو أنها لم توجد قط. وبرغم القلق الذي ساورنا عليها لعدة أيام لكن كان يحدونا الأمل؛ فمن الصعب للغاية الحكم من مسافة بعيدة. وبسبب المسافات لم نستطع السفر على الفور، كما انتوينا، بعد النبأ الأول المفزع؛ فما من قطار، ولا حتى واحد للطوارئ. إن القسوة السافرة لزمننا تحط بثقلها علينا”.

خلال رحلته إلى البوسنة والهرسك عام 1898 يلاحظ فرويد قبول حزين مستسلم للوباء بين البوسنيين، والذي يشير إليه بقوله: “الإذعان التام للقدر”. ما من تفكير أو تساؤل حول المرض الخطير الذي تفشى في جميع أنحاء أوروبا حاصداً أرواح ملايين في ريعان شبابهم. ما من احتجاج أو غضب، عندما حالت قيود السفر بسبب الوباء بينه وبين رؤية طفلته المتوفاة وحضور جنازتها.

في خطاب إلى صديقه ماكس إتينجون يكتب فرويد: “لا أدري ماذا تبقى لأقوله. إنه حدث يصيب بالشلل، حتى أنه لا يثير أفكار لاحقة في ذهن إنسان ليس بمؤمن؛ ومن ثم معفي من كل الصراعات المصاحبة. لا يوجد إلا الحتمية الفظة والإذعان الصامت”.

وقد تأثر التفكير النقدي عند فرويد بهذه الخسارة إذ انعكست في مقاله التالي الذي نُشر عام 1920 (ما وراء مبدأ اللذة)، والذي قدم فيه مفهوم محرك الموت (ثاناتوس). يقول كاتب سيرته الأول، فريتز فيتلز: “عندما قدم فرويد نظريته (حول محرك الموت) للعالم المنصت، كان متأثراً بموت ابنته الشابة”.

إن عدم التفكير في خسارة وموت موضوع الحب، برغم الحزن عليه، سيؤدي إلى مرور العامل المتسبب في هذا الموت دون ملاحظة، وهبوطه إلى أعماق اللاشعور. وحتى يأتي وباء آخر، ينتابنا الملل واللامبالاة نحو الأوبئة الخاملة الكامنة في الأجزاء البعيدة من العالم وفي عقولنا. إن السأم هنا ليس شعور حقيقي، بل مجرد مقاومة لموقف يجد فيه المرء نفسه مغلوب تماماً أو فاقد للسيطرة.

إن استخدام هزل الثقافة الشعبية وما تحمله من المزاح والدعابة يمكن أن يمثل أساليب تعامل ومواجهة والتي يمكن من خلالها تناول الموضوعات الصعبة و”المملة”. وهكذا في مقدرونا توظيف صور الزومبي في خيالنا الجمعي بأكمله إن ساعدنا ذلك على فهم الآثار السيكولوجية الخطيرة المترتبة على تفشي الأوبئة والاستعداد لها. ويمكننا أن نغامر بالدخول إلى مملكة الأدب (مثل الخيال العلمي) لو ساعدنا ذلك على تنبأ الاستجابات الانفعالية والتبعات السيكولوجية لانتشار وباء في المستقبل.

……………….

(نُشر هذا المقال في كتاب سيكولوجية الأوبئة: استجابة الصحة النفسية لتفشي العدوى- 2019 – دار نشر سبرنجر)

 

 

مقالات من نفس القسم