ما نعرفه أن هذا النوع من الأدب قد برز بشكل واسع في الرواية الغربية، ليمتد بعد ذلك إلى الأدب الاسباني وأدب أمريكا اللاتينية كما نجده عند الكولومبي غارسيا ماركيز، الأرجنتيني خوليو كورتاثار، المكسيكي كارلوس فوينتس والبيروفي فارغاس يوسا في العديد من مؤلفاتهم الأدبية العالمية أين يتشابك فيها الواقع والفانتازيا إلى حد تشكيل عالم فريد من نوعه.
بطل “هدوء القتلة” يدعى سالم وهو مجرد موظف بسيط في الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يستهويه القتل وكتابة الشعر في آن واحد، كما أنه يعشق لذة التوحد مع ضحياه أثناء قتلهم بهدوء مفتعل كما نقرأ ذلك على لسان السارد: (بيدي اليمنى أصافح أعدائي، وأمنح التحية لكل من أكرههم، وأقتل من لا أعرفهم. يد تحمل آثار ملايين الأشخاص في راحتها: خليط روائح ولزوجة عرق وعطور ودماء.. بخلاف اليسرى، النقية: يدي التي لا تحمل سوى رائحتها ولا تصافح سوى الهواء الملاصق لمدارها.) ص 17.
لقد عرض طارق إمام بنية شخصياتية شغلت مسرح الرواية ببراعة، أين تتمركز حول بطل القصة سالم وضحاياه كحبيبته سلمى، هناء الصحفية، الاسكافي ليل، جابر عبد السلام، الجارة سوسن، إضافة إلى شخصيات أخرى قد شغلت أجزاء من المسحة الروائية الأساسية.
ما يمكن أن يلاحظه القارئ هو التوصيف الكمي لظاهر شخصية سالم، التي ستدفعه حتما إلى استنتاج سمة الواقعية والغموض لملامح هذه الشخصية، من حيث تكوينها الخارجي وردود أفعالها: (فبامتداد صدري وبطني وذراعي، والحال نفسه مع ظهري، كانت تحيا الأيقونات وسطور الشعر التي توالت في أزمنة عديدة، ليحتل كل منها مكانه الأبدي، كأنها ندوب، في خريطة نصفي الأعلى. أحببت دائما أن يكون جسدي مثل ورقة مكتوبة بحبر باهت. ذلك يجعلني راضيا بشكل ما، رغم أنني أضطر لارتداء قمصان مقفولة ذات أكمام على الدوام، وداكنة، كي لا تنجح عين فضولية في اختراقها لمشاهدة ما تخفيه.) ص 27.
الهدف الرئيسي للبطل هو كتابة ديوان شعري ليهدي بدوره كل قصيدة منه لقتلته، وهي فكرة عجائبية في الأساس كما نقرأ ذلك فيما يلي:
(ستجد الشرطة أسماء القتلى في صفحة الإهداء وكذلك بامتداد القصائد كل قتيل يحيا في قصيدة، وسيصلون إلي بسهولة وهذا بالضبط ما أريده. ستكون مهمتي في هذا العالم قد انتهت بخروج الديوان للوجود. ستموت يدي اليسرى واليمنى التي قتلت.) ص 20. هنا في هذا المشهد يتداخل ما هو طبيعي بما هو غير طبيعي فجاءت الشخصية أشبه بخليط من التكوين الإنسي وغير الإنسي المفتعل لجريمة القتل.
أول ضحية تقع فريسة لمطواة سالم هي صاحب محل التصوير، والذي يدور بينهما حوار طويل في أول لقاء، ثم يعود سالم مرة أخرى لزيارته بعد أيام معدودة، لينتهي ذلك بموت المصور الفوتوغرافي: (ثوان معدودة قضيتها بعد أن ارتاحت جثته على الأرض. بعدها خرجت وأغلقت باب الغرفة بهدوء. عبرت الغرفة الخارجية إلى الشارع، وكان هدير الشاحنات لا يزال يطن في أذني.) ص 34.
يواصل سالم رحلة التربص بضحاياه لقتلهم، ومن بينهم تلك الصحفية هناء القاتلة هي الأخرى، وذلك نزولا عند رغبة ذلك الناسك الذي دون كل ذلك في مخطوطة قديمة، وكأنها كتاب مقدس يجب أن يرضخ البطل لكلام صاحبها: (يكاد الفضول يقتلها لأطلعها على المخطوط، لأحكي لها حكاية الناسك، أو لتقرأها هي لتعرف من ستكون ضحيتي القادمة. لا تصدق أن مخطوطا مهترئا يحدد حياتي، أن حفنة حكايات في مجلد مصفر قادرة على أن تجعلني أحمل مطواتي وأقتل شخصا وحيدا في كل مرة لأخلص قطعة جديدة من روحي.. لأكتب قصيدة جديدة في ديواني.) ص 105.
يستمر بطل “هدوء القتلة” في رحلته العجيبة لاصطياد فرائسه، بكل ما فيها من أحداث غريبة، كما حدث مع تلك البائعة الفقيرة في محل الورود حيث منعته من التدخين: (منحتني باقة الورد وهي تهش بيديها على أنفها، لا أعرف هل بسبب سحابة الدخان التي تحمل أنفاسي في سماء المكعب الزجاجي أم بسبب عطر هو جو النفاذ الذي يغرق جسدي مدعوما بمزيل عرق آكس على جسدي الموشوم وبجيل بالمر الثقيل على شعري الغزير الثقيل الناعم؟) ص 54.
يتواصل هذا المشهد الواقعي الذي بات يشاهده المتلقي في دولنا العربية كثيرا، أين يتشاجر سالم مع تلك البائعة بخصوص ورقة نقدية، وما نلاحظه أن طارق إمام يستعين في روايته إجمالا بتقنية الحوار بنوعيه الداخلي والخارجي كما جاء في هذا المثال: (كام؟
اتنين وتلاتين جنيه إن شاء الله.
مددت يدي بأربعين جنيها، ورقة بعشرين وورقتين ب “عشرة“
– ما فيش فكة؟
قالتها وهي ممسكة بورقة ب “عشرة” بعد أن وضعت الجنيهات الثلاثين في درج المكتب.
لا والله.
– خلاص يبقالي.
ومدت يدها بها لي.
تمنيت في هذه اللحظة أن أقول لها: طيب هاتي الجديدة وخدي القديمة.
الفتاة بخبث شديد – وربما أيضا دون أن تقصد وضعت الورقة الجديدة الملساء في درج المكتب، وأعادت إلى الأخرى، القديمة المهترئة، التي دسستها بين الورقتين كي لا ترفضها أو تنتبه لها.) ص 54-55.
يحيط الفضول دائما بسالم ليكتشف شخصية ضحاياه قبل قتلهم، كما هو شأن جابر الذي حاول أن يريحه من عذاباته كما جاء على لسان السارد: (دسست مطواتي أولا في ساقه الوهمية فصرخ وانتفض جسده. عندما وجهت طعنتي الثانية إلى ساقه اليمنى، المعذبة، وسالت الدماء غزيرة منها، أغلق عينيه متوحدا. فكرت أن أعطيه المطواة وأقول له هيا.. جرب يا جابر الآن.. كفكف دماءك ووجه طعنة ليدي اليسرى ثم أخرى لليمنى. أريد أن أعرف أيهما ستؤلمني أكثر.) ص 19.
لقد وظف إمام المنولوج كتقنية أساسية في سرد حيثيات قصة البطل وشخصيات “هدوء القتلة” بالانتقال من عالمهم الخارجي إلى عالمهم الداخلي، ويظهر ذلك في الاستشهاد التالي: (سأكون أنا القتيل تقتلني اليمنى وتكتب اليسرى بدمي. اتفاق ممتاز. بدلا من الشجار اليومي. لعلهما ستشعران ذات يوم أنني أب يفرق بين ابنتيه. وأن الحل كان أمامهما طيلة ثلاثين عاما وأدارتا وجهيهما عنه بنبل غير مبرر.) ص 74.
هناك سمة أخرى سيستغرب القارئ حتما وجودها في شخصية سالم القاتل، ألا وهي الخوف ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المقطع السردي التالي، أين يتخوف البطل من الضاحية التي يقطن بها كونه يتوه بولوجها: (طالما أخافتني هذه الضاحية رقعة شطرنج هائلة.. شوارعها مستقيمة ومتقاطعة، بلا أسماء. كل شارع تم اختصاره في رقم مكتوب بوضوح على لافتة زرقاء. تقطع الشوارع صفوف أشجار مهذبة متساوية القامات في منتصف كل شارع. آلاف التوائم من الكائنات الناحلة تؤكد التيه.) ص 41.
يعود بنا البطل لمشهد قتله لسلمى حبيبته زوجة ضابط المباحث، حتى أنه يشارك المتلقي بعضا من ملامح هذه الشخصية، وهذا ما يظهره حديث سالم عنها: (سلمى تموت من الرعب بينما تجلس في سريرها عارية، ليس لأنها تعرف أن طعنتي ستنفذ في قلبها بعد قليل. ولكن خوفا من دخول غريب: لص ممن يؤرقون هدوء الحي الراقي كل فترة ويكون ضحاياهم في أغلب الأحيان – سيدات في منتصف العمر. تخاف سلمى أن يقتلها عابر ضد إرادتها، دون أن تكون اختارته.) ص 67.
يباغث الموت سالم حتى في أحلامه، حيث شاهد جارته سوسن وهي تموت في غرفته، تلك المرأة التي دوما تتجاهله كلما لمحها في البلكونة، وهذا ما نقرأه من خلال المقطع السردي الآتي: (رغم ذلك لم يوقظني الألم، بل حلم غامض رأيت فيه سوسن، جارتي، المرأة الوحيدة الطاعنة، تلقي بنفسها من شرفتها.. ولكن الهواء.. وبدلا من أن يسقط بجسدها إلى الإسفلت حملها باتجاه شرفتي حيث حطمت النوافذ لتموت على سريري. استيقظت متبردا.. لأكتشف أن زجاج النوافذ مهشم غير أن هناء لم تكن على سريري.) ص 73.
جاء الحوار مطولا بين البطل وشخصية ليل التي تعتبر ضحية أخرى من ضحاياه، كما نقرأ في هذا المقطع: (ستسألني من جديد يا ليل لماذا تقتلني؟.. لا أعرف على وجه الدقة ولا أريد أن أعرف.. ولكنني على يقين أنك لا بد أن تقتل كي أخلص قطعة جديدة من روحي.. قطعة تمتلكها أنت، تحيا بين يديك هاتين. لأنك تعرف جانبا من السر. لأن الناسك قال إنك لا بد أن تذهب. سأخلص روحي وأخلصك.) ص 75.
كما يمكن إضافة مشهد آخر كتبه طارق إمام زيادة في وتيرة التعجيب، حيث جعل سالم يتساءل بينه وبين نفسه عن نهاية تلك المانكينات التي كان يشاهدها على الدوام قابعة خلف زجاج الباترينات: (الأهم أن أفكر في المصير المجهول الذي تواجهه تلك الكائنات البلاستيكية عند موتها.. حين يجيء موعد إزاحتها ليحتل مكانها جيل جديد، بابتسامات أكثر إتقانا وعيون حرص صانعوها على أن يمنحوها لمحة حياة تبدو حقيقية. إلى أي مقابر تتجه حينها؟..) ص 43.
في الختام، يمكن القول أن رواية “هدوء القتلة” عبارة عن مشروع أدبي كتبه المصري طارق إمام بجملة من المثيرات السينمائية التي توظف لصالح التكنيك العجائبي، تعرض ببراعة خلال العملية السردية كل ما له علاقة بمفارقة الواقع، كما تجعل القارئ يعيش أحداث الرواية وفق خلفية فلسفية وفانتازية لعالم يقوم على فكرة القتل.