في أثر وردة صانع الحصون المثابر

أحمد سراج
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمـد سراج

هذا الرجل، مشدود القامة، ثابت النظرات، متزن الخطا، كثير الصمت، رحل..

هذا الذي أسس حركة السبعينيات.. وأطلق عليها اسمها الذي لن يتركها.. وأصدر مجلتيها: “إضاءة 77” و “كتابات”.. رحل

الرجل ذو التسعة دواوين.. وصاحب ترجمات شعراء الحداثة العالمية الكبار: “بودلير، ورامبو، وكفافيس، وويتمان، وريتسوس” … رحل

لن تذهب لأي سطر كتبه وتعود خالي الوفاض؛ لأنه كان يكابد قبل الكتابة، ويكابد أثناءها، ويكابد في مراجعة ما كتب..

اختار أن يحارب القبح والمرض والتجاهل والجهل بالكتابة.. حين سألته أثناء حكم الجماعة عن رأيه فيما يجري على أرض مصر، قال بوضوح: إن الشعب الذي صبر ثلاثين عامًّا قبل 2011، لن يصبر على هؤلاء ستة أشهر.. ومع قدرته ونظرته الفاحصة لم يحاول أن يقترب من المجال السياسي.. كان يؤمن أن كتابته هي سلاحه وفأسه.. هنا عاش رفعت سلام (1951: 2020) وسيبقى الآن وهنا.

عمر من الإبداع

سيولد في السادس عشر من نوفمبر 1951م، بقرية “منية شبين“، محافظة القليوبية، وسيرحل في الأحد الموافق السادس من ديسمبر 2020م، بعد حياة أشبه بمعركة متواصلة مع ظروف سياسية واجتماعية وثقافية قاسية ومتقلبة.

في عام 1969م سيلتحق بجامعة القاهرة، كلية الآداب قسم الصحافة، وسينشر أول قصيدة في العام نفسه في مجلة “الأديب” البيروتية، ولم تصل سنه الثامنة عشـرة بعد، وسيتخرج في كلية الآداب عام 1973، وفي هذه الفترة سيصادق حلمي سالم وسيصدران معًا ديوانهما المشترك “الغربة والانتظار”. وعندما سيصدر رفعت سلام ديوانه الكامل (2013: 2014) عن هيئة الكتاب سيجعل قصائد هذا الديوان ضمن ديوانه “حبو” ووفق جمال القصاص رفيق الرحلة: ” عكست تجربة ذلك الديوان الثنائية إشارات قوية على ميلاد صوتين شعريين سيكون لهما شأن في الشعر المصري، كما شكلت بذرة لفكرة العمل المشترك، وإمكانية تنميتها في عمل جماعي شعري، يغامر ويضخ دماء جديدة في القصيدة، وهي فكرة أصبحت ضرورة يفرضها واقع الحياة الثقافية آنذاك، وبخاصة بعد الظروف السياسية القاسية التي عاشتها البلاد عقب نكسة 1967، وحالة الحرب واللاحرب، التي تحولت إلى قناع للسلطة في عهد الرئيس السادات، وعصا غليظة لمطاردة المثقفين والكتاب والشعراء؛ ما اضطر عدد من طليعتهم إلى الخروج المؤقت إلى بلدان عربية وأوروبية: صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، محمد عفيفي مطر، محمود أمين العالم، وغالي شكري، ومن تبقى في الداخل، عاش رهين المرض العضال والاكتئاب، أمل نقل، ونجيب سرور، وغيرهما”.

سيلتحق بالخدمة العسكرية (ضابط احتياط) وبعد أن ينهيها سيؤسس – متحملاً التكلفة المالية كاملة – مجلة “إضاءة 77“في يوليو 1977م الشعرية، مع حلمي سالم وجمال القصاص وحسن طلب، وستمثل هذا المجلة ما يشبه القنبلة المدوية فيصفها رجاء النقاش بأنها: “صفعة على وجه الذوق العام” وحين سألت عن رؤيته لهذه الجملة، قال إنه يتفق معها تمامًا؛ فقد كانت هناك مجلات أدبية وصفحات ثقافية تحمل الكثير من القصائد لكنها متشابهة أو متقاربة.. لا جديد فيها، لكنه هو ومجموعته فاجأوا الوسط الثقافي المصري والعربي بهذه المجلة اللافتة، لكن بعد العدد الثاني ونظرًا للخلاف المتوقع مع تكوين أي فريق عمل (مرحلة الصراع) يترك رفعت سلام المجلة.. ثم يؤسس 1979مجلة ثانية “كتابات” يستكمل فيها التنظير والتطبيق لمشروع جيله الجمالي، الذي أعطاه سلام تسميته الخالدة “جيل السبعينيات”.

سينتظم في نشر قصائده وترجماته ومقالاته منذ 1978 في المجلات المصرية والعربية المتخصصة، ورغم عنايته بجمع قصائده، وتحويل ترجماته إلى كتب فإنه لا يفعل ذلك مع المقالات المنشورة.

سيشارك في الكثير من المهرجانات والمؤتمرات الشعرية والثقافية العربية والدولية في العراق ومصر والمغرب وليبيا وتونس وسوريا واليونان والجزائر وفرنسا وكرواتيا وبلغاريا وبلجيكا.

سيُمنَح “جائزة كفافي الدولية في الشعر” عام 1993، وبعدها ستترجم قصائد له إلى الفرنسية، والإنجليزية، والكرواتية، واليونانية، والرومانية، والبلغارية، والإيطالية، والإسبانية، وسيستضيفه “المركز الدولي للشعر” بمدينة مارسيليا الفرنسية (أكتوبر 2005- يناير 2006)، وسيصدر المركز الترجمة الفرنسية لديوانه “حجر يطفو على الماء“.

سيجتهد كي يخفي أنه يعمل في أكبر وكالة أنباء في الشـرق الأوسط (أ ش أ) وحين يتصل يه صحفي يخبره أن لديه مقالة من باحث تقول: إن (سلام) اقتبس من إليوت، وإنه سيرفضها لأن فيها تحاملا. يقول له سلام: “انشرها.. فهذا حقه” ويعود الصحفي للسؤال: “وهل سترد؟ ” يقول سلام: “بالطبع لا” يبتسم وهو يحكي لي الموقف وكيف أن هذا الباحث قابله بعد عشرات السنوات ليعترف لي بأنه كان مخطئًا؛ فيخفف عنه: “يا راجل.. انت لسه فاكر”

لن يحصل على أي جائزة من جوائز الدولة، وحين سأعرض عليه أن تقوم جهة بترشيحه لجائزة الدولة التقديرية في الترجمة يقول لي: “أنا شاعر، وعليهم أن يرشحوني بهذه الصفة” لكن الجهة ستتقاعس أو ستنتصـر حسابات أفرادها، فلا ترشحه في الشعر ولا في الترجمة.

وحين سيتصل به الكاتب عز الدين مدني ليخبره بأنه يريد ترشيحه لجائزة الشابي عن ترجمة ويتمان، سيتردد سلام لدرجة أنه لن يرسل الترجمة، لكن مدني سيعلم بوجود سلام في تونس فيرسل له من يحصل على الترجمة الكاملة لأوراق العشب، التي ستحصل بجدارة واستحقاق على هذه الجائزة.

حين أسأله عن سبب عودته لنشر ترجماته في المؤسسات الحكومية رغم تجربته الناجحة في نشر بودلير في دار الشروق، يقول: “إنه وجد ثمن النسخة مرتفعًا على القارئ” أما في قصور الثقافة فلم تتجاوز ترجمة كفافي سبعة جنيهات..

سيكون همه رغم صراعه الشديد مع المرض الفتاك هو أن تكون أعماله متاحة للقراء.. وسيطلب مني في آخر زيارة (16 من نوفمبر 2020) أن آخذ معي نسخًا من ديوانه الأخير لإعطائها لمحبي شعره، وسيعطيني ترجماته للأدب الروسي التي قام بها في بداية حياته لإخراجها الداخلي كي يسلمها لدار نشر..

لكن..

سيأتي الأحد السادس من ديسمبر 2020 م بالنبأ الأليم

ربيع الشعر

سينهي سلام ديوانه “وردةُ الفَوضَى الجَميـلَة” وسيسسلمه لصلاح عبد الصبور ليقرأه لكن عبد الصبور الذي كان رئيسا للهيئة العامة للكتاب وقتها يقول لرفعت: “لنقرأه مطبوعًا” وينتقل عبد الصبور إلى جوار ربه في 14 م أغسطس عام 1981، ويبقى الديوان في أدراج الهيئة حتى يفاجأ سلام باتصال هاتفي فيقوم بإعادة النظر في الديوان ويطبع بعد حذف بعض القصائد، وإضافة قصائد أخرى عام 1987.

وفي العام نفسه يصدر “إشراقَـات رفعَت سلاَّم” (طبعة غير كاملة)، يناقشها إدوار الخراط في أتيليه القاهرة ، ثم يصدر سلام الطبعة الكاملة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1992.

وبعدها بعام 1993 يصدر سلام ديوانه “إنها تُومـئ لي”، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ثم 1996 عن سلسلة “نوافذ”، القاهرة 1996؛ ثم بعدها بتسع سنوات 2005 عن مكتبة الأسرة، القاهرة.

وسيصدر ديوان: “هكَذَا قُلتُ للهَاويَـة” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في 1993م، وبعدها بخمس سنوات 1998 سيصدر ديوانه ” إلى النَّهَـار المَاضِي” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم في 1999 يصدر “كأنَّها نهَايَـة الأَرض” عن مركز الحضارة العربية، القاهرة 1999، وبعدها بتسع سنوات 2008 يصدر ديوانه: ” حجَـرٌ يطفُو علَى المَـاء” عن “الدار للنشر والتوزيع”، ويأتي ديوانه: “هكذا تكلَّم الكَركَـدن” عام 2012 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وفي 2013 يصدر الجزء الأول من ديوان رفعت سـلاَّم، (“وردة الفوضى الجميلة”، “إشراقات رفعت سلام”، “إنها تُومئ لي”، “هكذا قُلتُ للهاوية”)، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويتبعه 2014 بالجزء الثاني (“إلى النَّهَـار المَاضِي”، “كأنَّها نهَايَـة الأَرض”، “حجَـرٌ يطفُو علَى المَـاء”، “هكذا تكلَّم الكَركَـدن” و “حبو”).

وفي عام 2018 سيصدر ديوان رفعت سلام “أرعى الشياه على المياه” عن دار مومنت في لندن، ثم سيصدر عن دار خطوط وظلال الأردنية 2020.

رحلة بحث

أول كتاب صدر لسلام هو كتاب “المَسرح الشِّعري العَربِي” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في القاهرة 1986 وهو كتاب يحتاج إلى بحث مدقق، ثم سيعلن سلام كلمته التي لن يتخلى عنها في دراساته “بحثًا” حين يصدر كتاب ” بحثًا عن التُّراث العَرَبي: نظرةٌ نقديةٌ منهجية، عن دار الفارابي، بيروت 1990؛ والهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1990؛ ثم مكتبة الأسرة، القاهرة 2006″ ويأتي كتابه النقدي الأخير في 2010 “بحثًا عن الشِّـعر”، الهيئة العامة لقصور الثقافة. ورغم أن رفعت لم يصدر كتبًا نقدية فإنه ظل بين الحين والآخر يخرج بمقال نقدي رصين مثل مقاله “الشاعر” عن صلاح عبدالصبور، أو مقاله عن علي قنديل.

حصن الترجمة

 يترجم سلام الشعر إلا نادرًا، ويتجه في بداياته للأدب الروسي فيترجم لبُوشكين: “الغَجَر.. وقَصَائد أُخرَى”، وتصدر عن دار ابن خلدون، بيروت 1982؛ ثم بعد ثمانية عشر عامًا تصدر في مكتبة الأسرة، القاهرة 2010. ، وبعدها بثلاث سنوات 1985 يترجم لمَايَاكُوفسكي: “غيمةٌ في بنطلُون.. وقَصائد أخرى”وتصدر عن دار الثقافة الجديدة؛ ثم بعدها بثلاث سنوات تصدر طبعة مزيدة: المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ‏1998‏.

وفي انحراف عن مسار الشعر يترجم دراسة لكربرشُويك: “الإبدَاع القَصَصي عِندَ يُوسف إدريس” عن دار شهدي، القاهرة 1987؛ وبعدها بست سنوات يصدر طبعة كاملة لدار سعاد الصباح، القاهرة والكويت 1993، ويعود للشعر فيترجم لليرمُونتوف: “الشَّيطَان.. وقَصائد أخرى”، ويصدر عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الشارقة 1991؛ دار “نفرو”، القاهرة 2007.

ويذهب إلى اليوناني يَانِيس رِيتسُوس: “اللَّـذَّة الأُولَـى” (مختارات شعرية)، الملحقية الثقافية اليونانية، القاهرة 1992؛ وبعدها بخمس سنوات عن دار الينابيع، دمشق 1997، وفي العام نفسه يصدر “هَذِه اللَّحظَة الرَّهِيبَة (قصائد من كرواتيا)”، عن المركز المصري العربي للنشر والتوزيع، القاهرة 1997، ويعود ليَانِيس ريتسُوس: فيصدر “البعيـد (مختارات شعرية شاملة)” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1997.

وبعدها بعامين 1999 يترجم دراسة جريجُوري جُوزدَانِيس: “شِعـريَّة كفافي”، عن المجلس الأعلى للثقافة. وفي 2001 يترجم لدراجُو شتَامبُوك: “نُجومٌ منطفئةٌ علَى المنضَدة”وهذا الديوان يصدر- خطأً – بعنوان “لغة التمزق” عن المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2001؛ ثم يتم إصداره بالعنوان الصحيح عن دار “نفرو”، القاهرة 2007، ولصالح مؤسسة البابطين يترجم أنا – الآخَـر (مختارات شعرية عالمية)، الكويت 2011.

ويبدأ رفعت سلام في إصدار ترجمات كبار شعراء الحداثة المصرية بادئًا بأزهار الشر بودلير وخاتما بسوناتا ضوء القمر لريتسوس، فيصدر “شَارل بُودلير، الأعمَال الشِّـعريَّة الكَاملَة” عن دار الشروق، القاهرة 2010، وبعدها بعامين وفي حدث ثقافي يصدر الأعمَال الشِّـعريَّة الكَاملَة لقُسطَنطِين كڤَافِيس عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2011، وبعدها بعام يفاجئ الوسط الثقافي بالأعمَال الشِّـعريَّة الكَاملَة لآرثَر رَامبُو عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2012.

وفي 2017 يترجم أعمال والت ويتمان الكاملة المعنونة بـ “أوراق العشب” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويختتم الصقر المصري تحليقه بترجمة ضافية ليانيس ريتسوس: “سوناتا ضوء القمر” وهي مختارات شعرية شاملة عن دار خطوط وظلال الأردنية.

ويشق سلام في الترجمة دربًا آخر وهو المراجعة فيراجع الكتاب المؤسس: “سُوزَان برنَار، قَصيدَة النَّثر من بُودلِير حتَّى الآن، ترجمة راوية صادق، عن دار شرقيات، القاهرة 1998، ثم لبِرنَار نُويل، “مَاجرِيت، ” ترجمة راوية صادق، دار شرقيات، القاهرة 2001، ثم ثلاثية “الكالباس الروائية ” لجَان- دي فاسـانيَامَا، ترجمة عاطف عبد المجيد، د. نسرين شكري، إيمان رياح، سلسـلة الجوائز، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2010، ورواية “تقرير بروديك” لفيليب كلوديل، ترجمة لطفي السيد، عن السلسلة نفسها.

ويؤسس سلام سلسلة ” المائة كتاب” في الهيئة العامة لقصور الثقافة، التي ستصنع فارقًا في الترجمة المصرية طيلة إصدارها، وسيتوقف المشروع، بعد إصدار ربع العدد تقريبًا، لكن سلام سيبتسم كلما تذكر التجربة وكيفية إدارتها، وكيف أنه قدم أمهات الكتب الغربية، وقدم معها جيل من المترجمين الجدد.

بحثًا عن رفعت سلام

 يحب سلام شيئين العمل المخلص، وتقدير ذلك العمل؛ لذلك تجده يعمل، ويعمل ويعمل؛ لدرجة أنه جعل العمل دواءه من أدواء الدنيا وأحزانها، ولذلك تجده لا يوجه كلمة إساءة لكتاب مهما امتلأ بالأخطاء، وأذكر أنني علَّقت مرة على رواية بأنني “زعلان من كاتبها” لأنه لم يختمها بالإتقان الذي بدأها به فقال لي: “ازعل عليه مش منه.. هو الخسران”.

يعلق عمار علي حسن على طريقة عمل رفعت بأنها: “فيها إتقان عجيب.. لم أر أحدًا يعمل هكذا” وحين سألته كيف تعمل قال لي: “بقلم رصاص وورقة” ثم نظر لي مبتسمًا: “فقط” حاولت أن أفك سر إصرار رفعت على العمل بالقلم الرصاص.. وعلى إصراره أن يعمل بشكل يدوي رغم إتقانه المبكر للآلة الكاتبة وللكمبيوتر فيما بعد.. ربما كان سلام يعرف أن الكاتب زائل وان عمله باقٍ، لذلك ما أشبه القلم الرصاص الذي يذوي ويتآكل بالإنسان، فيما تتحول الورقة البيضاء إلى عالم متكامل..

حين سألته عن سر ولعه بالترجمة قال لي: “أترجم بين ديوانين” لكنه كان يحب خوض البحر حتى قلب الأمواج؛ لذلك فقد استغرق بالكلية في ترجمة أعمال تساوي عشرة أضعاف ديوانه الشعري، يكفي أن نعرف أن سوناتا ريتسوس قرابة 1400 صفحة وحدها، ويذهب الشاعر موسى حوامدة إلى أن رفعت كان يترجم إرضاءً لطبيعته النافرة من الاستقرار، فيما يقول محمد عليم إنه كان يضاعف عمره بزيادة منتجه..

لقد أراح سلام القارئ العربي بما ترك من ترجمات لكبار شعراء الحداثة، وبما ترك من دواوين تكشف عن رهافة شاعرها، ومواجهته بجماليات نصه قبح العالم وشروره، وبكتبه النقدية التي تحرك الرغبة في البحث الدؤوب واتباع الأسئلة بالأسئلة.

لم يكن سلام مكترثًا بأن يرى ثمار حدائقه تقع بين يديه، كان معتنيًا بتعمير المدن الخربة، بصناعة الحصون بقلم رصاص على ورقة بيضاء.. لا يتحدث إلا حين يسأل.. ويجيب بدقة وموضوعية وحساب، حين أجريت معه حوارًا لصحيفة الحياة سألني: ما عدد الكلمات المطلوبة قلت له: 1400. رد: مقدمتك مائتا كلمة تقريبًا. عقب نشر الحوار اتصل بي الشاعر جمال القصاص، مثنيًا على الحوار فحكيت له ما جرى، فقال لي: “رفعت طول عمره منضبط ومنظم وصارم”.

بكلمة: لقد قام رفعت بمهمته كما كان الرسام المصري القديم يقوم بمهمته؛ فهو يذهب إلى عمله مع الغروب، ويظل يرسم ويحفر بآلات صغيرة وأدوات دقيقة، وحين يعود فجرًا لمنزله يعد خامات عمله القادم، وفي النهاية تجد المعابد الضخمة.. هكذا فعل رفعت سلام.. كان يعمل ويعمل ويعمل.. لهذا سيظل نصه الشعري وترجماته ومقالاته ماثلة كتماثيل الأقصر وأعمدة الكرنك..

وهنا نحن نحاول اقتفاء أثر وردة الشعر التي تركها لنا من خلال أبواب ثلاثة؛ يضم الأول دراسة نقدية واحدة لكل ديوان، عدا ديوانه الأخير “أرعى الشياه على المياه” فلأنه لم ينل حظًّه من الدرس النقدي، قمنا بنشر دراستين، والثاني الدراسات العامة التي تناولت شعر سلام سواء كُتبَت في فترة مبكرة مثل دراسات العالِم والديب، أو بعد صدور عدد كبير من دواوينه مثل دراسات محمد عبد المطلب وأمجد ريان وصلاح بوسريف، أو بعد وفاته مثل دراسة محمد عليم، والثالث ببلوجرافيا بما كتبه صانع الحصون المثابر.

…………………………………..

*مقدمة كتاب “في أثر الوردة.. قراءاتٌ نقديَّـة في ديوان رفعت سـلَّام”

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم