د. نعيمة عبد الجواد
عاش العرب في شبه الجزيرة العربية قبائل تنهشها الصحراء من جانب، ويتملكها الخوف من الصراع الداخلي والإطاحة بها سواء من الأقارب أو القبائل المجاورة من جانب آخر. فصار العرب أهل مبالغة؛ يبالغون من شعورهم بالزعامة والخيلاء، وكذلك يبالغون من قدرة العدو على إنزال الأخطار بهم. ومن ثم صار السيف والرمح قوتهم الخارجية التي تعينهم على لقاء العدو في أي وقت. وإن امتلكوا أيضًا قوة ناعمة؛ لتحقيق أهدافهم بطرق سلمية، ألا وهي: الشعر. فالقصائد الشعرية سلاح ذو حدين؛ لجأ إليها العرب لمدح خصائل عشيرتهم، وليعظمون من قوتها وصفاتها حتى يرهبون الأعداء. و استخدموها أيضًا للتنكيل بأعداءهم وإبراز رذائلهم؛ لتحقيرهم وللحط من روحهم المعنوية. ولما كان يبلغ أحد الشعراء مبلغه من الفصاحة، سواء في شعر المدح أو الهجاء، كان يذيع صيته بين القبائل، لدرجة أنه كانت تستأجره بعضالقبائل إما لامتداح خصائلها لترهيب الأعداء، أو للتنكيل بالقبائل المعادية حتى تلوكهم الألسن ويصيرون مادة للضحك والسخرية بين القبائل. وقد يكون نتيجة لأشعار الهجاء القاسية إثارة الحرب بين القبائل؛ للثأر لكرامتهم المهدرة.
ولما وجدت الحركة الأدبية عصرها الذهبي خلال العصر العباسي الأول والثاني، احتفى الحكام بالشعراء وقربوهم لهم، لطالما أمتعوهم بما يريدون سماعه من أشعار. وكلما أمتعوا أهواء الحاكم، كلما أغدق عليهم الأموال؛ حيث أن الشعر في ذلك العصر يستخدم لخدمة المجتمع، وخاصة شعر الهجاء، الذي اتسع نطاقه وألوانه، فصار كوسيلة لنقد السلبيات الاجتماعية. لكن تقريب الشعراء من الحكام وأهل الحظوة ألهب الصراع فيما بينهم، فازدهر شعر الهجاء الشخصي، الذي يلجأ إليه الشاعر عندما يشعر بالظلم وعدم نيل حظه من المزايا والعطايا.
ولقد كان الشاعر ابن الرومي (836 – 896 م) وليد العصر العباسي بكل ما فيه من إزدهار واضح في الحركة الأدبية، وكذلك محاباة لبعض الشعراء وتفضيل بعضهم عن الآخر، ونيل بعضهم الحظوة لدى ولاة الأمور على حساب إهمال البعض. وولد أبو الحسن علي بن العباس بن جريج وقيل جورجيس في القرن الثالث الهجري، ولقِّب بابن الرومي نسبة إلى أصل والده، أما أمه فكانت فارسية. واشتهر ابن الرومي بأشعاره التي تفيض بالسلاسة والعذوبة والإطناب. فكان محبًا للحياة، وراغبًا في التمتع بطيباتها وكان السبيل لذلك تمتعه بالأموال. وبالرغم من براعته، إلا إنه لم يجد الحظوة التي يبتغيها من أصحاب الجاه والسلطان، مما أفقده صوابه، وجعله ميَّالًا للتشاؤم. وبدلًا من أن يجد التقدير لجهوده وأشعاره الفذَّة، صار الهُزء والسخرية من نصيبه. ففقد صوابه وسخط على كل من هزؤوا به، ووجد أن خير وسيلة للاقتصاص ممن أحطوا من قدره ونفسه هو هجاءهم بأقذع ألوان القدح، التي جاءت في شكل سخرية لاذعة.
وأشعار ابن الرومي الهجائية كانت صورة كاريكاتورية متكاملة بمفهومها الحديث؛ وفن الكاريكاتور يعمد إلى تعظيم أحد ملامح شخص أو خصائصه الجسدية بشكل مبالغ فيه إما للسخرية منه، أو لنقد مثالب اجتماعية أو سياسية أو حتى فنية. وجاءت أشعار ابن الرومي تحاكي صورة كاريكاتورية محكمة تحط من نفسية المهجو بأقذع الألفاظ والصور. وتنوعت أشعاره الكاريكاتورية الساخرة بين السخرية الحزينة، والتي تتنبأ بوقوع كارثة، والسخرية الضاحكة التي عمد إليها كلما استهزأ أحدهم بشخصه. فمثلًا في هجاءه لأحدهم قال:
أن تطل لحية عليك وتعرض
فالمخالي معروفة للحمير
علق الله في عذاريك مِخــلاة
ولكنها بغيـــــر شعــــــير
فقسوة ابن الرومي في الهجاء الكاريكاتوري جعلته يبالغ من حجم لحية المهجو الكثيفة وصوَّرها كمخلة حمار معلقة في وجهه، لكنها سيئة لدرجة أنها مخلاة خالية من الشعير. وذقون الرجال كانت رمزًا للفتوة، لكن ابن الرومي جعلها دليلًا على أنه حمار لا قيمة له.
وقد يسلب ابن الرومي من يهجيه جميع خصاله الآدمية؛ ليلقي عليه جميع الرذائل لدرجة تجعله أضحوكة بين أهله وعشيرته؛ لأنها تجعل من يستمع للقصيدة يستمتع بالإمعان في الهجاء القكاهي الساخر، لما يحتويه من تسلية عظمى. وهذا المقطع يدلل على ذلك:
یا سیّداً لم یزل فروع
من رأیه تحتها أصول
أ مثلُ عمرٍ یَسُوم مثلي
خسفاً وأیامُه حول
أ مثلُ عمرٍ یُهینُ مثلي
عمداً ولاتنتضي النُّصول؟
یا عمروسالت بک السیول ُ
لأمّک الویل والهبول
وجهک یا عمروفیه طول
وفي وجوه الکلاب طول
فأین منک الحیاة قل لي
یا کلبُ والکلبُ لا یقول؟
والکلبُ من شأنه التعدّي
والکلبُ من شأنه الغلولُ
مقابح الکلب فیک طراً
یزولُ عنها ولا تزولُ
وفیه أشیاء صالحاتٌ
حماکَها الله والرسولُ
وقد یُحامِ عن المواشي
وماتحامي ولا تصول
وأنت من أهل بیت سوء ٍ
قصتهم قصة تطول
وجوههم للوری عِظات
لکن أقفاءهم طبول
نستغفر الله قد فعلنا
مایفعل المائق الجهول
فخصومة ابن الرومي مع “عمر” هذا السيد الذي يتودد إليه الجميع لينالوا حظوته – جعلت ابن الرومي يستهزأ به بأن جمع أشتات خصاله ثم بدأ في تفنيدها ببراعة ليجعل منها مثارًا لذمه. فيستهل القصيدة بتبجيله لتأصيل مكانته الكبرى في المجتمع، مخاطبًا إياه بلفظ “يا سيدًا” وكأن مستهل القصيدة هو أحد قصائد المدح العصماء، لكن على غير المتوقع جميع ما يندرج أسفل ذلك قدح قاسي. فلقد وصف أراء عمر بالواهية التي لا أساس لها من الصحة، وكأنه ينعته بالأبله. استطرد ابن الرومي في هجائه أنه سيجعل أيام “عمر” جميعها سيئة؛ لأنه أهانه ومن هو ذاك عمر ليهين ابن الرومي. فذاك ال “عمر” ما هو إلا أهطل وأخذ تلك الصفة بالوراثة عن أمه التي أيضًا تميزت بها. ثم انتقل لتصوير ملامح عمر وخاصة وجهه الطويل النحيل الذي شبهه ابن الرومي بوجه الكلب. ولربما انطبع شكله الخارجي على صفاته، فصار كل كلامه نباحًا وصياحًا نابعًا من كلب مسعور يتعدى على كل من يراه. ثم صوره ابن الرومي بأن حتى الكلب أفضل منه؛ لأن الكلاب قادرة على التغلب على الجوانب السلبية بها، أما عمر فإن خصاله القبيحة لا يمكن أن يمحيها أبدًا. فهو قبيح لدرجة أن المواشي أرقى منه. ولو كان يغتر بنسبه الذي يعود للرسول، فما هو إلا نقطة سوداء فيه: فوجههة يحض على أخذ العظة من سوء تركيبه، وشخصه شديد السوء ويدعو للاستهزاء به أينما حل، ولما لا؛ فهو شديد الجهل.
وبسبب قسوة أشعار ابن الرومي الهجائية، قيل أن وزير الخليفة المعتضد هو من أمر بقتله، فجعل أحدهم يدس السم في قالب حلوى ويعطيها إياه، وذلك خشية من أن يهجوه بقسوته المعهوده التي سوف تحط من شأنه دون شك. فبالرغم من العداء الشديد الذي يناصبه ابن الرومي لمن يقدحه، إلا أن أشعاره خفيفة على اللسان تجعل كل من يسمعها تواقًا لترديدها. ومقتل ابن الرومي كهذا دليلًا على براعته الفائقة التي جعلت أعلى المناصب في الخلافة ترتجف من أشعاره الكاريكاتورية اللاذعة، وترتعد حينما تشعر أنه لسوف يصيبها الدور. فلقد سبق ابن الرومي عصره عندما جعل أشعار الهجاء كبرنامج ساخر يجمع المشاهدين حوله بما يثيره فيهم من متعة الضحك، ويجعل مستمعيه يفهمون بشكل مستتر قبح من يذمهم حتى ولو كانوا يخرجون على العامة بأبهى حلل الفضيلة.
ولو مات ابن الرومي في التاسعة والخمسين من عمره فقط مسمومًا، لكن أشعاره لا زالت قائمة تشهد بعظمته، وأشعاره الكاريكاتورية أيضًا باقية؛ لتحكي قصته الحزينة، ولتمتع حتى قارئ العصر الحديث الذي لم يشهد حكايته بسخريته القادرة على الامتاع، وإثارة الضحك والسخرية.