خلف الكواليس يصير الكومبارس بطلاً

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 41
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فكرى عمر

انفلتت طائرة ورقية من الخيط عند المغيب، فطارت بين الشفق. فى نفس اللحظة غادر “منسى” البرج السكنى، زهرة الحياة، الذى كان يعمل حارسًا له. حين نزل إلى الشارع تاركًا وظيفته إلى غير رجعة لم ينظر إلى الأرض، ولا إلى الناس. عيناه تعلقتا بالطائرة الورقية، وطارت معها إلى السماء. هذا اختصارٌ لمشهد نهاية رواية (أرضى و 12 دور) للروائى “عمرو الردينى”.

يعطى عنوان الرواية وكذلك غلافها إشارة أولية إلى أننا أمام رواية بطلها سكان المكان، فالمكان أحد الأبعاد التى تمنح الرواية هويتها، لكن الخدعة تبدأ فى الإعلان عن نفسها شيئًا فشيئًا أثناء مُضيّ الصفحات، ومُضينا وراء بطلها الباحث عن حلمه المنشود. سنكتشف أن السكان ليسوا أبطالًا تُقدّم تفاصيل حياتهم، وصراعهم الداخلى، أو الخارجى لغاية ما. بل إنهم مجرد خلفية للصراع النفسى الذى يمور داخل بطل الرواية.

يُعد التناص إحدى الوسائل السردية التى يستخدمها الراوى. تُستَهل الرواية بإهداء إلى الأسانسير الذى يشبه فى صعوده وهبوطه الدائمين روح “منسى” المُعلق بين الدور الأرضى، وسطح العمارة، ثم آية من القرآن تَحضُّ على تنزيه السمع، والبصر، والقلب عن التنصت على أسرار الآخرين، وفى المقدمة الثالثة جزء من أغنية “أحمد زكى” فى فيلم البيه البواب (أنا بيه.. أنا بيه.. أنا بيه.. أنا بيه)، ويُضمّن مقدمته السردية الأولى ذلك السؤال الأشهر فى فيلم (المنسى): “هما طلعولك يا منسى؟”، وكان “فرغلى – أحمد راتب” يقصد العفاريت وهو يسأل “منسى – عادل إمام”. خرج العفاريت لبطل الفيلم، لكنهم لم يكونوا عفاريت الخيال، والأشباح المرعبة بل عفاريت الطبقة التى تسحق “منسى” وتُذكّره دائمًا بمكانه أسفل السلم الاجتماعى فى الفيلم السينمائى.

ربما لا تكون الإجابة مؤكدة بالنسبة لسكان العمارة، فهم لم يتحولوا إلى كائنات تسحق منسى أو تعرضه للإذلال المُتعمّد. المُلاحظ أن “منسى” هو من يفسر الإشارات بهذا المعنى. إنه تحيز مسبق منه ضد الآخرين بلا أدلة، لذلك يأتى رده غالبًا فى الظل بينه وبين نفسه، أو من خلال علاقاته معهم.

يصنع السرد بضمير المخاطب فى هذه الرواية عدة مستويات للتلقى: فهو يُقصِّر المسافة أمام القارئ بين الروائى وبطله دون أن يلغيها تمامًا مما يجعل المتلقى فى حالة تشوق دائم إلى معرفة النهاية والمصير، ولأن ضمير المخاطب ينقل السرد دائمًا إلى الزمن المضارع، أو المستقبل فإنه يجعلنا إزاء عالم نُحس أنه لا زال يتخلق أمام عيوننا من فصل لآخر. هو ضمير التساؤل القلق، والنقمة، والحيرة، والندم، وتبادل الأدوار بين القارئ والبطل،. نقرأ فى الرواية: “فى الدور الأرضى ستعرف وتتعلم أن الناس طبقات.. تمامًا كما السماء. الدور الأرضى هو أرخصها، وأحقرها، غير أن الجميع لا بد لهم من المرور عليه، والانتقال من خلاله. لذا ستحاول من رفع معنوياتك بأنك أهم شخص فى ذلك المكان الصاعد لأعلى. ولكثرة ترديدك تلك العبارة ستصدقها يومًا، وقد يعترف بها البعض الآخر”. 

يرصد الراوى عدة مقارنات تنحاز إلى رؤية “منسى”، ورأيه فى أنه الأعلى والأفضل من الجميع. المقارنة الأولى هى حالة الرثاء الى يحسها نحو الحاجّة والدة مالك البرج، السيدة العجوز المريضة وابنتها المجنونة، والخادمة العجوز فى مقابل شباب “منسى” وصحته. المقارنة الثانية بين “وحيد” ساكن الدور السادس الذى تركته زوجته الجميلة منذ عشرة أعوام وبين هدوء بال “منسى” الأسرى رغم فقره، بل وعلاقتهما بعد ذلك التى نلمح من خلالها هذا الظل الزائف للشفقة. المقارنة الثالثة بين سكان العمارة الذين يعيشون فى صراعات ومشاكل زوجية، وبين “منسى” الذى يمارس حياة جنسية حُرّة دون مشكلة. المقارنة الرابعة هى مقارنة بنائية إذ ينحاز السارد إلى تقديم الفصول برباعيات شعرية ترسم جزءًا من مشاعر “منسى” إزاء ما يواجهه من الآخرين.

نستطيع أن نلتقط طرف خيط من هذه المقابلات دال على إحساس مراوغ بالتفوق والسيطرة أحيانًا، وأحيانًا يغلبه إحساس بالانحطاط والمذلة تَمثّل فى تناوله طعامه أحيانًا من بقايا طعام السكان الموجودة فى أكياس القمامة، وحرصه ألا يراه أحد فى موقف كهذا. نقرأ فى الرواية: “رغم أن البرج مكون من ثلاثة عشر طابقًا فقط إلا أنك تمنيت أن تسكن فى الدور الرابع عشر! ذلك الدور الوهمى.. تمامًا كممثل فاشل يجلس وراء الكواليس، مُقنعًا نفسه أنه البطل”.

وحسنًا أنه لم تقم بينه وبين “منى” الشغالة فى شقة صاحب البرج السكنى علاقة، فرغم أنه تمناها إلا أن الواقع خالف رغباته. ربما لو قامت بينهما مثل هذه العلاقة فى الواقع لتهدمت دلالة الرواية، فـ”منسى” يريد أن يُخضع الأثرياء وذوى المكانة فقط من سكان العمارة، وأن يثبت لنفسه أنه أعلى من الجميع، فهم يرزحون تحت مشاكل صحية ونفسية، وتحت ماض ثقيل قاتل، لكنه منطلق يعبث ويضحك ويغازل وينتصر انتصارات جسدية أو انتصارات الصعود الجسدى والصعود الخيالى على سطح العمارة السكنية،. نقرأ فى الفصل الأخير: “المنظر مهيب من أعلى.. الناس، السيارات، وكل ما هو بالأسفل حقير.. كل ما هو أسفل دنىء، وكل ما هو عالٍ سامٍ.. تعلم الآن فقط لماذ يحتل الله السماوات”.

ثمة فراغات سردية كبيرة فى رسم الصورة، والمواقف كان غيابها مؤثرًا على بناء الحدث، والشخصيات، وبعض الإشكالات اللغوية، كما يغيب المنطق أحيانًا عند رسم بعض الشخصيات فى علاقتها بماضيها، أو بـ”منسى”، وهو غياب للمنطق دال على أن ما نعاينه ليس واقعًا تسجيليًا، ولا انتقائيًا بعين السارد، ولكن الواقع هنا كان عبارة عن قناع. حين نرفع هذا القناع نكتشف طبيعة البطل النفسية التى نلحظ إحساسها بالاضطهاد، ورغبتها بالانتقام الذى يصل أحيانًا إلى حالة الإحساس بالعظمة والقوة المفرطة، ما يشى بحالة من البارانويا تسيطر على “منسى”، الشخصية التى تُجسد حالة الهامش مثلما ترمز إلى طبقة كاملة بما يشير إليه الاسم، والتناص السردى.

يجد “منسى” نفسه أمام صراع لم يختره، ولم يكن له دور فى تأججه، ولكنه ناشىء من الفروق الاجتماعية الهائلة التى يحسها ويؤكدها لنفسه، وبدلًا من أن يواجه نفسه ويحلل جذور هذا الصراع، ويصنع مَثلًا يجابه، أو يواجه أقداره كعادة أبطال الملاحم نراه يسقط فى أحلام يقظته، بالتفوق والعظمة.. تلك الأحلام والأمانى التى تُسكِّن آلامه المبرّحة، وتُسكت هواجسه الصاخبة التى تلاحقه فى كل مكان.

مقالات من نفس القسم