الرجاء المُعَلَّق والسُخرية الكامنة قراءة في ديوان “غرفةٌ في سحابة “

الرجاء المُعَلَّق والسُخرية الكامنة قراءة في ديوان "غرفةٌ في سحابة "
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

(أيها الوطن الزائر

يا أقصر من غفوة

لا شيء يجعل صرختي كفناً

و لا ناراً

و لا وردة )(1)

في ديوانه الجديد ، الصادر عن سلسلة ( الكتاب الأول ) بالمجلس الأعلى للثقافة ،  و المعنون بـ ( غرفة في سحابة ) للشاعر إبراهيم محمد إبراهيم ، يأخذنا إلى تجربته المتفردة الطازجة بشكل تدريجي ، خفي و بأسلوب عميق و لغة مكتنزة الدلالة طيعة .

على المستوى الشخصي ، عرفتُ إبراهيم محمد إبراهيم ، كشاعرٍ حالمٍ ، يمتلأ شعره  بالرومانسية الظاهرة ،  و يقترب من الإيقاع الجلي حد الغناء ، كنا زملاء في كلية التجارة ، جامعة عين شمس ، آوائل التسعينيات ، و كان حينها شاباً ممتلئاً بالحيوية و الخجل ، يُلقي شعره كحبات الكرم على من يقابله ، يتغنى بالحبيبة / الأمل ، في كل قصائده ، و كانت أشعاره حينها واضحة وضوح الطريق ، حزينة حزن الموت ، طيبة طيبة القلوب الغضة ، و مرت الأيام ، و لا أقول مر العمر لأن تكرار الأيام لا يعني العمر ، مرت الأيام و أعطتنا من التجارب و الخبرات ، ما انطبع على ذواتنا و بالتالي على كتاباتنا .

مرت سنوات ، و فاجأني إبراهيم بهذا الديوان ، و كان جُلّ ما أردت أن أعرفه ، كيف صار شعره الحالم ؟

(أريد أن تحطَ حنانك على سريري

يا أبي

و أن أسألك

فيم كبرت هكذا بلا اكتراث )(2)

“غرفةٌ في سحابة” هو الديوان الأول لإبراهيم ، و لكنه ليس أول الشعر ، و حسناً فعل إذ تمهل على تجربته الشعرية ، فأنتجت هذا الديوان العميق و الذي يمكننا رصد عدة خصائص مميزة له :

أولاً : السُخرية :

تتغلغلُ السُخرية داخل قصائد الديوان ، و نجدها مرة متسائلة ، و مرة مريرة ، و في

الأغلب هي للتهكم من الواقع ، حيث يسخرُ الشاعر من كل ما هو سلطوي :

( كل شيء هالكٌ كالحكومات )(3)

أو في قوله :

( و الجرائد عادتْ مسامير منتصبة

كالحكومة )(4)

و أحياناً تكون السخرية من الشاعر نفسه :

(نسيتُ أن أموتَ فجأة

لا تلمني

مشاعلي كثيرة )(5)

أو يتغنى بسخرية شجية ، فيقول :

( كان يجلس في المقهى

ذلك الحزن

سأخرج خلسة

ربما للمرة الأولى

وحيداً

لكنه ذلك الوغد يحفظ رقم هاتفي )(6)

ثانياً : الذاتي / العام :

في هذا الديوان لا يمكن الفصل بين الهم الذاتي/ الشخصي ، و الهم العام/ الوطني ،

و لا عجب أن الشاعر ذكر الوطن في أول قصائد الديوان ، و وصفه بالوطن الزائر

و من شأن الوطن أن يكون الموطن و الآمان المستديم ، و لكن كيف ؟!

فالشاعر و جيله تقريباً يشعرون أن الوطن تركهم في الطرقات من دون سند ، و لهذا يقف الوطن عند حدود الزائر في وجدان الشاعر ، فالجيل الذي عاش التحوّلات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية المختلفة ، التي اجتاحت الوطن العربي حتى زلزلته ، و انطبع هذا الزلزال على كتابات الجيل فأصابها بالتساؤل الدائم حول كل شيء ، حتى الرواسخ المقدسة في الوجدان ، و لهذا يمزج الشاعر بين همه الشخصي و الهم الوطني ، و يجعل كلاً منهما نتيجة للآخر ، فهو ابن الطبقة المتوسطة التي سعتْ إلى تعليم أبنائها كطوق نجاة سيصعدون به بعيداً عن الطوفان ، فإذا بطوفان التحوّلات يقسم الطبقة المتوسطة و يغرقها ، و لا تبقى سوى نداءات الاستغاثة المترددة لإثبات فعل الوجود .

يقول الشاعر :

( القاهرة هي آخر ما لدي بعد صراع )(7)

و في موضع آخر ، يصرخ :

) هزيمتك الأخيرة مُلوّنة بالسحاب

كأنك منخلع يلتحفُ بالمجلس العسكري و أمسيات المقاهي )(8)

و يجسد تأثير المأزق السياسي ، فيقول :

) القاهرة

كهيئة البرد ، و مؤخرة المتوسط

تنامين تحت سرير الملك الضليل ، و تنبعثين من بالوعةٍ

في مؤتمر المانحين )(9)

ثالثاً : الرمز و الدلالة :

الديوان يمتليء بالرموز التي تؤدي إلى دلالات معينة واضحة ، و تتكرر الرموز ، و تتكرر معها الدلالات ، فالشاعر مخلص لعالمه ، يصنعُ رموزه من شخصياتٍ حيّة في المجتمع ، شخصياتٍ يمكن أن نعدها مُعبّرة عن قطاع من المجتمع يقع تحت وطأةِ الأمل و الرجاء .

فالأم تلك الحاضرة الغائبة المُعطية المُضحية ، دلالة على الشخصية المكافحة ، و يتجسّدُ من خلال حضورها في القصائد أزمة الشاعر ، و بالتالي الشعر :

(كأن كل حسرة وتد

كأن كل دمعة إله )(10)

و يتجلى رمز الكفاح المتواصل مع الحياة ، في قوله :

( لم يعد زخمٌ ما يعجُ بالحجرة

كأنه مهرجان من الانكسار )(11)

الأب رمزٌ كبير في هذا الديوان ، ذلك الذي يورثُ ولده هيئته و ضعفه ، مما يجعل الشاعر يعطف عليه مرة ، و يحمل عليه مرة ، فالأب دلالة على قسوة الحياة ، و القسوة هنا ليست بمعنى الفقد و الفقر فقط ، بل أيضاً تتجلى القسوة في الآمال المتلألئة الغائبة ، مما أضفى رمزاً كبيراً آخر ، و هو الرجاء الدائم ، رجاء لم يقترب من تحقيق الأمل فصار سعادة ، و لا اقترب من ضياع الأمل فصار يأساً ، رجاء مُعلّقٌ دائم ، يتأرجح الشاعر معه :

( و حبل الغسيل الذي مالَ

ليته يظلُ هكذا

طائراً

ينفضُ وحدته بين شُرفتي

و شُرفة الجيران

ليتها لا تصدأُ

في حوائط الغرفة

سيدةٌ

غائبة )(12)

و يمتدُ الرجاء :

( ليته اللهُ

يُشعلها رُقيتي على سلالم

البيت )(13)

رابعاً : الشاعر/ الراوي :

آثر الشاعر أن يجعل من نفسه الراوي الوحيد في الديوان ، أن يكون هو المتكلم ، هو المسيطرُ على روح القصائد ، و رغم أن هذا أعطى للديوان خصوصية على مستوى التجربة ، و على مستوى طزاجة الإحساس ، و القدرة المتفردة لدى الشاعر على تمثل الحالة الشعورية ، التي ما تلبث أن تتسرب إلى وجدان القاريء ، حتى يجد نفسه ، داخل خندق الشاعر ، إلا أنني كنتُ أُفضل أن يخرج الشاعر من أسر ذاته ، كي يرى العالم من حوله ، و هذا ما أنتظره في الدواوين القادمة .

( لغتي حصى تحت جمر

تؤكد أن ورداً سينبتُ في عتمة البيت )(14)

تساءلتُ في البداية ، كيف صار شعر إبراهيم محمد إبراهيم ، و بعد هذه القراءة أرى أنه صار أعمق عمق السؤال ، غاضباً غضب العوز المكتوم ، ليِّناً لين الرضا و الرجاء ، ساخراً سخرية الأيام .

________________________________

*(غرفة في سحابة ) ، شعر : إبراهيم محمد إبراهيم ، الكتاب الأول ، المجلس الأعلى للثقافة ،

  ط1 ، 2014 .

1- قصيدة ( جهاد ) ص7

2- قصيدة ( مراهقة ) ص9

3- قصيدة ( طوق الحمامة ) ص14

4- قصيدة ( الغائب ) ص31

5- قصيدة ( الرومانسي ) ص43

6- قصيدة ( أيام الأسبوع ) ص49

7- قصيدة ( جهاد ) ص8

8- قصيدة ( المرأة العجوز ) ص59

9- قصيدة ( الغزاة ) ص 57

10- قصيدة ( جهاد ) ص8

11- قصيدة ( غرفة في سحابة ) ص41

12- قصيدة ( شاي الجيران ) ص70

13- قصيدة ( هالات ) ص72

14- قصيدة ( لهاث الروح ) ص11

مقالات من نفس القسم