دفاتر بيكيت الفلسفية.. الأرضية الفكرية لأعماله!

صمويل بيكيت
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد الزناتي

يسود اعتقاد عام أن صمويل بيكيت مثقف موسوعى، ورجل برىّ منعزل صموت ذو موهبة أصيلة، لكنى أفكّر أحيانًا أنه كاتب ماكر (بالمعنى الحَسَن للكلمة). وصف بيكيت نفسه بأنه رجل محتال (راجع ذكريات باريسية، ت: أحمد الزبيدى، المدى 2019)، اللف والدوران البريء حسن النيّة الذى قابل به مؤلِّفة سيرته الذاتية، التى دوَّخها سبع دوخات، يكشف عن طبيعة شخصيته. قال لها عبارة غريبة: «لن أساعدكِ، ولكنى لن أعوقكِ فى معرفة أسرار حياتي، سوف يساعدكِ أصدقائى وعائلتى، وسيعثر عليكِ أعدائى فى أقرب وقت».

عندما بدأت الاطلاع على دفاتر بيكيت الفلسفية الصادرة للمرة الأولى سنة 2020 عن مطبعة جامعة أوكسفورد، شدّتنى مقدمة المحرّريْن أكثر من متن العمل ذاته. لم أستطع إلا التفكير فى الرواية الأهمّ فى أعمال بيكيت، وهى رواية مولوي، البحر الذى ابتلعنى منذ سنوات ولم يلفظني. مولوى عمل غامض، يغرى بالتأويل ويقاومه فى الوقت ذاته. هل هى قصة رجلين، مولوى وموران، أم أن مولوى وموران هما الشخص نفسه؟ وما قصة الزمن فى العالم الذى يوجد فيه مولوى وموران؟ هل يتحرك إلى الأمام أم يتحرك فى دائرة؟ وهل السادة الذين يُصدرون الأوامر لموران ينتمون إلى هذا العالم أم إلى عالم آخر؟ ما طبيعة التقرير الذى كان يكتبه؟ يسأل موريس بلانشو: من هذه الأنا التى لا تتكلم فى روايات بيكيت، هذا الأنا التى لا تتعب من المشى والعمل، والتى يبدو أنها تحاول أن تقول دائما الشيء نفسه لكنها لا تبوح بأى شيء؟ ما الذى تفتش عنه فى الكتب والأدب؟ المؤكد أن مولوى لم يكن يكتب من أجل شهرة أو مال؛ طظين.

لماذا يكتب إذن؟ يقول مولوى إنه لا يعرف، لكنه محتال طبعًا، كان يعرف جيدًا لماذا يكتب، لماذا يغرق نفسه فى العمل ولماذا ينتج بهذه الغزارة، لكنه يتكتّم الأمر، يداريه عن الجميع عبر أقنعة ومرايا يضلل بها قارئه. يجلس مولوى فى غرفة أمه، زاعمًا كتابة تقرير كُلِّف به، ولا تفاصيل أخرى عن موضوع التقرير أو إلى الجهة التى سيُرفع إليها.

ولكن ما علاقة هذا الكلام بدفاتر بيكيت ؟ العلاقة أننى حاولت اتخاذها وسيلة للكشف عن أبعاد مولوى من ناحية كما سأبيّن فى النهاية، والكشف عن التحوّل/الانمساخ الذى يلحق بالعمل الأدبى عند نقله من عالم المثال إلى عالم المادة.

فى سنة 2020 أصدرت مطبعة جامعة أوكسفورد، وللمرة الأولى مجلدًا ضخمًا يضمَّ نصوص أديب نوبل الأيرلندى صمويل بيكيت «ملاحظات فلسفية». والحقيقة أن علاقة صمويل بيكيت بالفلسفة علاقة يشوبها التعقيد والغموض. ففى سنة 1961 قال صمويل بيكيت لصحفى فرنسى : «لا أفهم شيئًا مما يكتبونه، لم أقرأ للفلاسفة قط، ولا أعير اهتمامًا إن كانت ما تقوله الفلسفة صوابًا أم خطئًا».

من ناحية أخرى يمكن القول إن روايات بيكيت وقصائده ومسرحياته هى من بين أشد النصوص الأدبية عمقًا وإيغالًا فى التجريد النظرى فى القرن العشرين. ومن هنا فهذه الدفاتر هى بمثابة اعتراف واضح بأن الرجل كان قارئًا متعمقًا فى الفلسفة، بل معلقًا رصينًا ذا رؤية لما يقرأ.

سأبدأ بملاحظات محررَى العمل، وهما من كبار المتخصصين فى أدب بيكيت. يقول المحرران إن ما سعى بيكيت إلى كتابته لم يكن فلسفة بالمعنى الدقيق، بل شيئًا أقرب إلى «ما وراء الفلسفة» الأدبية، فينقلان عن بيكيت: «لو كان فى مقدورى التعبير عن موضوعات أعمالى باصطلاحات فلسفية، لما كان ثمّة داعٍ لكتابة رواياتي». وهو ما يعنى أن بحث بيكيت عن أدب «اللا كلمة» كان من الضرورى أن يمرَّ بأروقة الفلسفة، ليتجاوزها إلى ما لا يُمكن التعبير عنه.

الكتاب عمل ثري، يضيء الخلفية الفلسفية التى تشكّلت على ضوئها أفكار بيكيت الأكثر تجريدًا، حيث أبدى الرجل اهتمامًا خاصًا بفلاسفة ما قبل سقراط والفلاسفة الرومان الرواقيين، فضلًا عن عروجه المستفيض على نصوص زينون الإيلى وكانط وإسبينوزا.

كيف بدأت الحكاية؟

بعد وفاة بيكيت عُثر على صندوق مملوء بالأوراق التى احتفظ بها الكاتب الإيرلندى الكبير بالقرب منه طوال حياته فى الطابق السفلى من شقته فى باريس. نزل قريبه إدوارد بيكيت بصحبة آخر يُدعى جيم نولسون لفتح الصندوق واستقر الرأى منذ تلك اللحظة على المكان الذى ستُودع فيه تلك المواد. قرّرا نقل جميع هذه المواد إلى كلية ترينيتي. واقعة مثيرة تذكرنا بالصندوق الضخم الذى عُثر عليه فى شقة فيرناندو بيسوا، وأودع فيه آلاف الشذرات والنصوص والأوراق. يقول محررا الكتاب إنَّ أهمية هذه الملاحظات تكمن فى أنها بقيت قريبة من بيكيت طَوال حياته، إلا أنه أخفاها عن الجميع، وعن أقرب المقربين بمن فيهم زوجته. لم يكن الأمر مجرد هوامش هاوٍ للفلسفة كتبها بيكيت الشاب فى ثلاثينيات القرن المنصرم، بل كانت الأرضية الفكرية التى انطلقت منها أعماله حتى نهاية حياته.ما يعنينى أنا شخصيًا هو اهتمامات بيكيت الشاب فلسفيًا. أما عن طريقة بيكيت فى كتابة التعليقات والهوامش فكانت كالآتى بحسب كلام المحرر ماثيوز:

«يبدو أن طريقة بيكيت فى دراسة النصوص الفلسفية كانت تتمثّل فى قراءة النص بعناية فى البداية، ثم صوغ ملخص للفقرات التى يرتأيها وثيقة الصلة بالموضوع المقروء. وكان هذا تجميعًا يتضمن فى بعض الأحيان نقل بعض الألفاظ نقلًا مباشرًا، أو إيراد بعض الفقرات المطولة من النصوص الأصلية».

ثمة بعض الملاحظات الجديرة بالانتباه، أولاها جملة قالها المحرر ستيفن ماثيوز: «الغريب أن الملاحظات نفسها غير مؤرخة، ومن ثم فهى ليست مثل المسودات النثرية اللاحقة التى يدوّن فيها بيكيت التاريخ، ليس لدينا أى إشارة على المخطوطة نفسها تشير إلى وقت كتابة هذه الملاحظات.فى معظم الأعمال الأخرى التى تؤرّخ لحياة بيكيت نجد العكس، حيث تسلط رسائله الضوء على ما كان يقرأه أو يكتبه فى ذلك الوقت، لكننا لا نملك هنا فى أى موضع من مخطوط الملاحظات تاريخ بدء الكتابة فى عقد الثلاثينيات؛ لا يوجد شيء حقًا.ثمة إشارة واحدة نظنُّ ظنًا أنها تؤرخ لبداية عملية تدوين الملاحظات، وتحديدًا فى يوليو 1932، حيث كان بيكيت فى لندن، وراح يتحدث عن العكوف على دراسة الفلسفة اليونانية القديمة، من بين أمور أخرى. أعتقد أنه من الواضح تمامًا أن لدينا تاريخ البدء، وهو صيف سنة 1932 تقريبًا، لأسباب ليس أقلها أن أول إشارة فى عمله إلى الفلسفة تأتى فى قصيدته المبكرة «سيرينا الأولى» مع إشارة القصيدة إلى طاليس – «كل الأشياء محتشدة بالألوهية» ولكن بعد ذلك تختفى التواريخ».

ربما يعطينا الكلام السابق إشارة مهمة حول اهتمام بيكيت وكل الكُتاب الكبار عمومًا بضرورة تأسيس أرضية معرفية/فلسفية راسخة قبل ممارسة الكتابة. فلا كاتب يمارس الكتابة قبل امتلاك رؤية كلية للعالم Weltanschauung على حد تعبير الفلاسفة الألمان، مهما كانت.

فأى شاعر جوّال على الربابة هو حكّاء عظيم دون شك، بل يستطيع أن يكتب قصصًا وروايات ويحكى فى المحكي، ويشنف الآذان، ويأسر القلوب بعذوبة وخيال الحدوتة والحكاية السحرية. هو مُسلِّ عظيم، يؤدى دورًا ترفيهيًا، يزجى بروايته الويك إند وساعات انتظار تدريب الأولاد فى النادى فى أثناء شرب سموزى أناناس، ثم يترك عمله جنب الشيك.

لكنه ليس بالضرورة كاتبًا. هل كان بيكيت أو روبرت موزيل أو فوكنر أو حتى هاندكه أوكوتزى حكّائين عظامًا؟ بالطبع لا. نثرهم ممل معقّد. لكنها تلك اللمعة الغامضة التى لا تُوهب لأى أحد.

لننتقل إلى العبارة التالية من كلام المحرر د. ماثيوز التى تكشف عن جانب آخر مخفى فى شخصية بيكيت: «أولاً، العبارة التى يستخدمها بيكيت لتلخيص الفلسفة السكندرية، وخاصة ازدواجيتها، متناغمة مع عمله الموسوم اللا مسمّى. حيث يقول بيكيت فى ملاحظة: «لقد رُفِعت فكرة الإله إلى الغياب [النفي] التام لجميع الصفات. يدعو فيلون السكندى الله منزهًا عن أية صفات، لا يوجد اسم يسمّيه. وهى صيغة مثيرة للاهتمام من صاحب رواية The Unnamable[اللا مُسمّى]. إن الإحساس بالوجود الإلهى بوصف الرب «الإله الذى فوق كل شيء» هو شيء لاحظته فى كتابى السابق عن بيكيت. والحقيقة أننى وجدت هذه العبارة مثالًا نادرًا لعبقرية بيكيت الإبداعية التى تتألق داخل دفتر الملاحظات هذا».

يشير المحرر إلى أن تلخيص فكرة الألوهية فى «ما ليس له اسم»، أو اللا مسمّى بحسب عنوان آخر أجزاء الثلاثية، هو عبارة بيكيتية بامتياز، أى كاشفة عن طبيعة عقل بيكيت.

والمعنى أنها موغلة فى التجريد والتقشف الأسلوبى مثلها كمثل عبارات العلامة إيكهارت وأنجيلوس سيليزيوس، وأوائل نصوص نهج البلاغة للإمام علي، ونصوص النفرى وعبد الحق بن سبعين. وأضيف أن بيكيت ربما تأثر تأثرًا عميقًا – ذهنيًا وأسلوبيًا- بلغة/أسلوب العلامة إيكهارت Eckhart حول اللاهوت السلبي، أو ما يطلق عليه علم الكلام الإسلامى التنزيه المطلق لله، أى الحديث عن الله من حيث نفى صفات النقص عنه، التنزيه المطلق كما تقول الآية الكريمة: «ليس كمثله شيء» أو «سبحان الله عما يصفون».

ربما ألهمتْ تلك الفكرةُ المجردة حول ما يستحيل تسميته فى اعتقادى بيكيت رواية «اللا مسمّي»، وهى أعقد روايات بيكيت وأكثرها احتشادًا بالبلبلة والغموض، وربما الثرثرة.

على مستوى الأسلوب ينقل المحرر العبارة التالية على لسان بيكيت: «أدركت أن طريقتى الخاصة كانت فى فقر الكلمات، وجَدْب المعلومات، فى الحذف والشطب بدلاً من الإضافة».

هذا الكلام يؤكد فكرة أن فن بيكيت الروائي/المسرحى المتجسد فى التقشف اللغوي/الأسلوبى هى رؤية فلسفية رواقية للعالم من الأساس، ولا غرابة لو علمنا من الدفاتر اهتمامه البالغ بالفلاسفة الرواقيين. بل أذهب فأقول إن ما يُطلِق عليه العامّة «السوداوية والكآبة والعدمية» فى أعمال بيكيت ليس إلا صدى الحكمة الرواقية الزاهدة فى زُخرف الحياة، الداعية إلى التخفّف من الأباطيل، والزهد فى الأمنيات والرغبات على ما نحو ما نقرأ فى نصوص ماركوس أوريليوس وسينيكا مثلًا، ولو فهمنا بيكيت على أنه كاتب عَدَمى يائس لاعتبرنا سفر الجامعة فى العهد القديم بالمثل نصًا عَدَميًا يائسًا، وهى رؤية سطحية ساذجة. بل أكاد أدّعى أن نصوص بيكيت إن هى إلا محاكاة أدبية طافحة بالسخرية نسجًا على منوال نصوص التاو للاوتسي، وللقارىء أن يطالعها (ترجمة عبد الغفار مكاوى هى الأجمل) لو أراد التأكد والمقارنة.

شخصيًا أُفسِّر صورة بيكيت الشهيرة وهو جالس إلى جوار مقلب قمامة – فى حركة مسرحية استعراضية مش قد كدّة – على أنها مجرد محاكاة لصورة الفيلسوف الإغريقى ديوجين الكلبى الذى كان يعيش فى جرّة طينية كبيرة إلى جوار مقالب القمامة وفى صحبة الكلاب. على صعيد آخر كان الرجل ينتقل ويسافر هنا وهناك وكانت له نزواته النسائية وأسراره العاطفية، إلخ، أى لم يكن راهبًا عفيفًا، لكن ما رسخ فى العقل انسكب على الأوراق. وأزعم أن بعض عبارات إبيكتيتوس فى المختصر والمحادثات قريبة الشبه من العبارات المسرحية المقتضبة عند بيكيت. هنا تتجلى الرؤية الكلية للعالم كما أشرت. وليس من الضرورة أن يكون التأثر دينيًا أو عقائديًا، لكن المعنى تأثّر آلية عمل عقله المبدع/الروائي/المسرحى بجوهر تلك الأفكار. والدليل على ذلك عبارة وردت فى الكتاب تقول:

«بعدما هَضَم بيكيت أكبر قدر ممكن من المعرفة الفلسفية، استطاع التحرّر منها. فلم يقترض ألفاظًا لبناء برج بابل الذى يخصّه أو لهدمه، بل الأحرى قَبَض على مصادره [الأسلوبية] لأجل أن يضمِّنها لاحقًا بصورة مختزلة موجزة داخل عمل شعرى من ابتكاره هو».

أضف إلى ذلك كلام المحرر:» لا حاجة بنا إلى التأكيد أن بيكيت عندما كان يستقى معلوماته من المصادر الفلسفية الأساسية، وعلى رأسها تاريخ الفلسفة لWindelband، كان يدوّن الملاحظات الفلسفية بألفاظه الخاصة، بل إنه «كان يؤلَّفها he authors them»، بأى معنى قياسى لهذه الكلمة. ولكن هل كانت الملاحظات الفلسفية إبداعًا بيكيتيًا خالصًا؟ الحقيقة أن بيكيت لم يكن ينسخ النصوص نسخًا مباشرًا، وإنما كان ينقحّها بعناية إذ يعيد كتابتها فى دفاتره، فعلى سبيل المثال حذف فقرات كثيرة من كتاب Windelband التى رآها غير منسجمة مع أفكاره وذاته. ومن ثم كانت تدوينات بيكيت فى دفاتره الفلسفية ذات صبغة تثقيفية تنويرية سواء على مستوى الحذف أو الإضافة».

هذا مغزى كلامى فى بداية المقال من فكرة التحول. ربما تكون الفكرة فى عالم المثل العليا المجرّد شيئًا، لكنها تصير شيئًا آخر مختلفًا متى وُضعت على الأوراق.

أبلغه جامع القواقع تليفونيًا بموت قُط، لا القط، فالقط لن يموت إلا بموته. أخبره بمكان العزاء. لم يصدقه أحد لما قال إنه حَلُم بقُط فى الليلة السابقة على وفاته، ولما سأله عن رأيه فى المسار العبثى للتقرير ضحك وقال: «اطمئن.. كل الغادرين غدرًا» (سِفر إرميا 12:1). تعمّد عدم حضور العزاء مع أنه كان مقربًا، بل الأقرب. فكَّر أنه لو حضر العزاء ستطغى الشعائر على المشاعر، وستُمسخ الفكرة لو سُحِبت من عالم المثال، وسينسى الكوميديا الإنسانية المفجعة، فقرر أن يحتفظ بالمادة المثالية بِكرًا فى ذاكرته، ودعا له بالمغفرة والرحمة فى صمت.

سأل أحدهم مرة بيكيت هل المقصود بGodot هو الله God، فأجاب إنه لو كان يقصد الله لقالها مباشرة (المصدر: فقرة من كتاب رونان مكدونالد، ترجمة أمير زكي، 2014). وهو ردّ شبيه بنفى بيكيت لقراءة الفلسفة وإنكار الاهتمام بالفلاسفة من الأساس. لا يمكننا الوثوق بكلام بيكيت المباشر أبدًا.

فبعد قراءة هذا الكتاب يحق لنا أن نتساءل: هل لم يأت «جودو» فى المسرحية، لأنَّنا نحن من علينا الذهاب إلى «جودو» وليس العكس؟ لا ننسى أن مكان انتظار فلاديمير وستراجون للسيد «جودو» كان إلى جوار شجرة فى طريق قاحلة مثلما كلَّم الله النبى موسى قريبًا من العوسج الملتهب فى الصحراء كما يقول العهد القديم. قاريء بيكيت الجيّد يعرف أنه لم يكن بعيدًا عن رموز التراث الدينى وإشارته، لكن تلك قصة أخرى يطول شرحها.

وهل لم يتقابل مولوى وموران، لأنها ربما يتقابلان فى عالم آخر، عالم أكثر هدوءًا وصفاءً، تكون فيه اللغة والمشاعر أوضح وأنقى وأكثر تجردًا من مظاهر البلبلة البابلية ويصلان إلى تفاهم؟ وهل اللا مُسمّى، أى رواية بيكيت هى مرادف اضطراب وتشتت ظاهرة الحياة ذاتها، بحيث لا يقدر أحد على تسمية طُرقها الغامضة ولا توقع مفاجآتها العجيبة ولا فهم غايتها من أول لقطة، وإن حاول فليس أمامه إلا أن يخلع عليها لقب «اللا مُسمَّى»؟

فى صفحة 447 نقرأ الجُملة الآتية تعليقًا منه على أحد فقرات كتاب شوبنهاور العالم إرادة وتمثلًا: «وبما أن العالم موجود لا لشيء إلا للكشف عن الإرادة، فلا جرم أن يكون عالمًا مؤلمًا للغاية».

ولكن لِمَ أخفى بيكيت الدفاتر الفلسفية عن أعين الجميع طَوال حياته؟ هل أراد الرجل إخفاء مصادره الأسلوبية والآليات التى تشكّل بها عقله وإبداعه؟ أم إراد إخفاء إشراقاته الصوفية عن والدته التى كانت سيدة بيوريتانية شديدة التدين وطالما نشبت بينهما خلافات حادة بسبب أسلوب حياتها الصارم وطبيعة شخصيتها المناقضة لعقل بيكيت المتحرر فكريًا وفلسفيًا، فأراد أن يثبت لها أنه تحرر من تأثيرها؟ فى أحد مشاهد مسرحية «جودو» يشير بيكيت إلى أن حكاية لص اليمين ذُكِرت مرة واحدة، وفى واحد فقط من الأناجيل الأربعة برغم أن مؤلفى الأناجيل عرفوا ما جرى، وهى ملاحظة تأثّر بها بيكيت بالفلسفة الشكوكية بقوّة وخشى التصريح بها أمامها.

فى السطر الأخير من رواية مولوى نقرأ :»عدت إلى المنزل وكتبت. إنه منتصف الليل. المطر ينقر على النوافذ. لم يكن منتصف الليل. لم تكن تمطر».

لو أن شخصًا كتب أن المطر ينقر على النافذة فى حين أن المطر لا ينقر على النافذة، فهو يكذب، أو لو استعملنا تعبيرًا أكثر احترافية، يكتب رواية. لم يكذب بيكيت. كان يكتب رواية.

مقالات من نفس القسم