د. إبراهيم حنفي
عندما تتجمع الرؤى ويتحد الشعور، بمنعطف وجداني يشتعل، حثيثا حثيثا، في الجسد، تشعر حينها برائحة شياط، تقترب، وتنبئ بحالات متأججة، ربما قلب قرب على لفظ أنفاسه الأخيرة، أو موعد أخير، اشتعل رأسه صاحبة شيبا، وطار غرابه،
إنه التضاد بين الجنة والنار وبين السماء والأرض، والنار إذا تخمرت وهدأ لهيبها، وجاء من بعدها رماد، ذلك الشياط الذي جاء بأنفاس حارقه،
استطاع الكاتب محمود حمدون في تلك المجموعة أن يقف على عتبة الاحتراق الجسدي والنفسي بميزان، حراري، يصف اللحظة بمقياس دقيق، ليضع القارئ قريبا من الحالة، وربما كان القارئ نفسه قد مربها، وهذه صنيعة اللغة بمهارة فائقة، فاللغة سهل وإن جنحت إلى الرمزية، تشتهي شبقها إذا غاص المعنى، وتأصلت جذوره، فكان الكاتب صيادا ماهرا، وقد نحت الالفاظ نحتا، كما لجأ إلى التناص من القرآن الكريم، فكانت المجموعة أشبه برواية، متعددة المناظر، كما وظف نظريات النقد، من الاستباق، والتنبؤ، كان راويا عليما في معظم القصص، و راو من الخلف، وهو يتماوج بين الجليد والنار، كما واكبت عتبة النص والصورة للمحتوى القصص، فكانت ورقة حمراء محترقة، يتساقط رمادها كل حين.
اللغة: كانت اللغة سهلة لا يخلو ألفاظها من التشظي، بمهارة ففي قصة (أكل عيش) ما لبث أن اشتعل صاحبه مصورا حالته فكان بين نارين، كلتاهما جهنم (منظر مهيب اشتعلت أعصابه، اضطربت يداه، عبثت الأصابع دونماوعي، حوقل، كانت الأعين تستتر وراء خجل موقت نساء بائسات يسعين وراء أكل عيشهن).
أما في قصة (جركن بنزين) جاء اللهب الشعوري واضحا مواكبا للحقيقي فكلاهما واحد في الرؤى فقد أصبح اللهب نورا ونار يضيئان الطريق ويواكبان حالة القلب (وجدتني أقف أمام العربة، تندلع ألسنة اللهب للسماء، تتراقص وتتشكَّل في خيالات غريبة. حرارة رهيبة انزاحت أمامها برودة الطقس، نار ونور يضيئان قلب الليل الذي حلَّ من لحظات).
ويتنامى الموقف فتتأجج النيار داخل الجسد ويتصاعد حميمية الروح مع الموتي والعالم الآخر وهيهات هيهات أن يتحدان (في القبر وجدتني أندفع بإرادتي وبغيرها بين الجمع، بذلت جهدًا حتى أتحاشى الاقتراب أو الاصطدام بهن. بمنتصف المسافة أدركت من جديد أنني نسيت المدخل الصحيح، فقد تغيَّرت الأماكن، إذ تهدمت المقابر القديمة، شُيِّدت أخرى حديثة، كما اقتلعت شجرة الجميز العتيقة، مكانها ثمة أفرع جافة شاهدة على حياة دامت لفترة بين شواهد القبور).
حتى وإن ذكر الدخان المنبعث فسرعان ما يتسلل إلي ضوء بسيط في قصة (فرصة حياة) (دخلت عليه لأجد دخانا طيب الرائحة يتسلل إلى أنفى بخورا- رائحة لم أشمها من قبل، كان المكان يغرق في ظلمة مصطنعة عدا أنوار تتسلل على استحياء)
وما لبث القاص في رائحة شياط ان يستجمع كل القوى لدية من تناقض لتتضح الصورة جليا حول كل الفئات حول “عربة الفول”, التي يحج إليها كل باح من كل فج عميق ليشهدوا طبقا لذيذا مستمتعين بأداء طقس وورد، مجمع، حول مائدة واحدة، الكل يجهز حكايته، إما ساخرة، و باكية، أو غرائزية، عجائبية الكل يدلو بدلوه، فلا يفهمهم إلا (خميس) ما يستروا العربة، وقد صنع القاص نوع من أنواع المقامة في السرد العربي، عارضا من يتأفف، ويتضجر، كما في مقامات المويلحي في المحكمة. (غير أنه اليوم كان مكفهرًا، مقطب الجبين، كان ينصت للحديث، بيده اليمنى قطعة من الخبز، ظلَّت معلقة بالهواء. بينما أذنه معنا، كانت عيناه شاردتين لبعيد، قاطعني بضجر – نظر في وجوهنا، علَّه لمس وترًا بداخلنا، حتى إن “خميس” أطرق للأرض، رأيته يتمتم وأظن سمعته يقول: “حسبي الله ونعم الوكيل”، فهتفت بنبرة ساخرة واضحة: آمن الرجل أن لا إله إلَّا الذي نؤمن به، أثارت عبارتي ضحك “قِدرة” صاحب العربة، لم يكن هذا اسمه الحقيقي وما كنا نهتم بمعرفته، لكن تشابه تكوينه الجسدي لدينا مع “قِدرة الفول” فأصبحت هذه الأخيرة علامة على مهنته وصفته واسمه. اهتز جسد “قِدرة”، توقف عن غرف الفول بالأطباق الألومنيوم الصغيرة، قال من عليائه: خميس هو “الوحيد اللي بيفهم فيكم، هو اللي قاري الصورة صح”، ثم هوى بقبضة يده على جسد العربة الخشبي وقال: “يا ناس لم يعد الحال كما كان، نتراجع من سيئ لأسوأ، لا تلقوا بذنبكم على “خميس
وأحيانا يعلو صوت الراوي العليم بجلاء، معلنًا عن نفسه، لا متخفيًا وراء ستار الكلمات مستخدمًا التناص من القرآن الكريم في قصة عبارة موجزة (كذلك معرفتي بتلك السيدة، كنت أشغل “طاولة” منفردًا والمكان مزدحم عن آخره، رأيتها تتجوَّل بعينيها، ظننتها تبحث عن رفيق ينتظرها، فتجاهلتها، فمنذ فترة غير يسيرة تركت الناس وشئونهم، لم أعد أهتم بما يحدث حولي، غير أنني نظرتها سريعًا وأجزم أنها بأواخر عقدها الثالث، جمالها بدائي شرس) وفي قصة (اللايقين) (أخبرته أنني أصبحت أفضِّل العُزلة، أجد راحتي فيها، أكره أن يتقوَّل عليَّ أحد بما لم أنطق، أن يتغوَّل على عقلي بوصاية سمجة.
كان يُنصت لكلماتي المتدفقة باهتمام)
وسرعان ما يشتعل مرة أخرى محتقنًا، يائسًا بما يجول في صدرة فيعود إلى أدراجه وحالته، فكانت المجموعة أشبه برواية متعددة الفصول ففي هذه المرة منولوجا داخليا محترق الصدر ( تردَّدت بين الرحيل واختصار الزمن أو البقاء والإصرار على غايتي التي سعيت خلفها، ثم قررت المكوث، فاقتربت من جديد، قلت: صدري يغلي مما يعتمل بداخله، لكن أخاف أن أبوح لك بما لا يجوز، فأبدو أمامك بمظهر الساخط من حياته، المتمرِّد على قدره.
ثم عرج إلى التناص في (نهاية يوم دراسي) (قال صاحبي وهو يحاورني)، وفي قصة إعادة حسابات) (ذلك ما كنا نبغ) وفي قصة (ATM) يستجمع الكاتب قواه عبر تيار الوعي المتنامي بأسلوب راق، يتباين بين الخجل من حركة الماكينة أمام الناس دون نقود، كولي يستتر من كرامته قائلًا (غير أنني عندما اقتربت وجدت لفيفًا من الناس، بعضهم أعرفه حق المعرفة، فهم يعملون معي بجهة عملي، انسابت بيننا نظرات مودَّة مقتضبة، كلمات ترحيب على استحياء وتوجس. تلاقت الرؤوس حتى من يراها من أعلى يظنُّها خيمة سوداء، تتضاءل كلما بعُدت المسافة بين الرائي والماكينة حتى تصبح نقطة شديدة السواد—– بينما طائفة أخرى قليلة العدد، وجوهها ناضرة، لسعيها راضية. تعرفهم بسيماهم، نستدل عليهم حين يرتفع أزيز “الماكينة” لفترة حتى تنتهي من العد) لكنه هيهات هيهات، أن تتحقق أمنيته، فيظل يمسك بأطراف حالته، في توجس وذكاء رائعين، حتي إذا وصل إلى النهاية في آخر قصة (النصف الآخر) مصطنعًا لحوار ساخر، هائمًا على وجهه في الطرقات يجذب المارة من ملابسهم كي يصل إلى حقيقة ما، أو يجد على النار هدى، (جذبت أحد المارة من ملابسه، سألته بفزع: ذاك الذي يطلُّ من السماء، أهو القمر؟ فإن كان هو، فمن كانت بجواري منذ برهة، من تلك التي تلاعبت أصابعي بخصلات شعرها، أطعمتها بأصابعي، تحسَّست شفتيها المكتنزتين! من التي كنت أضاحكها، تعلو ضحكاتها عنان السماء؟!
ثم صحت في الخلق من حولي: هل من مُجيب؟ أليس منكم رجل رشيد؟
حينئذ ردَّت عليَّ عجوز كانت تتثاقل في طريق عودتها: يا وليدي، القمر آية، يستقر في السماء منذ أن خُلقت الأرض، فابحث عن “قمرك” في مكان آخر) حيث كان دائما يختصر الزمان والمكان في سهولة، ليضع القارئ في حالة من المجانسة والتلازم لحالته ممسكا بتيا الوعي المتنامي، ثم يكتشف أن قمره لم يكتمل (دهر مضى، لم أفق من أزمتي بعد، حتى أخبرتني ذات يوم صبية بضفيرة طويلة تتدلى خلفها: يا سيدي، لعل قمرك انشطر نصفين، تلك آية جديدة لم يسمع بها الأوَّلون أو يروها.. أصبح نصفه يلازمك كظلك على الأرض، الآخر، يطلُّ علينا بضع ساعات من كل شهر.
لقد تفوق محمود حمدون، بأن قام بنحت الألفاظ نحتا، سالت المعاني بين يديه كنهر، ينسدل من شلال عذب، فكانت كل قصة تناسب تيار الوعي المتفق، تتنامي مع القص والحكاية، متنوعة أينما ولى وجهه شطر، الوصف والحوار معلنة حالة من (الشياط)