الروحاني والفيزيقي فى المجموعة القصصية “هذا مقعدك” للكاتب “العربي عبد الوهاب”

هذا مقعدك
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد العزيز دياب

   فى مجموعته القصصية “هذا مقعدك” الصادرة عن دار الربيع للنشر والتوزيع بدعم من اتحاد كتاب مصر، يستحضر العربي عبد الوهاب المكون الفيزيقي والروحاني فى مسيرة شخوص قصصه فى أحلامهم ورؤاهم، فى معيشتهم الحياتية وهم يختلفون، يتصادمون، يتصالحون. فى قسوة الحياة بهم، فى استحضار اللحظات الدافئة المنفلتة من تواريخهم القديمة.

   تقع المجموعة فى ثلاثة ملفات، الأول: شقيق، الثانى: قفزة وقفزة، الثالث: شجن، وكما تتفاوت الملفات فى مقاربتها لفن القصة القصيرة، تتفاوت قصص المجموعة ككل فى مساحتها السردية، فى فنياتها، خاصة وقد ذكر الكاتب فى مقدمة المجموعة أن القصص كتبت ما بين عام 2011  إلى عام 2022م، وهى فترة زمنية واسعة تسمح بهذا التفاوت على كل المستويات.

   ويتأتى حضور الروحاني مقابل الفيزيقي بدءًا من الإهداء: إلى وجيه عبد الوهاب.. نقطة الضوء البعيدة فى آخر الدرب.. والدرب يتغشاه الظلام.. العربي، الكاتب هنا يمنح أخاه وجيه عبد الوهاب اللقب، وينزعه عن اسمه: العربي فقط دون اللقب، الأخ الغائب/ الروحاني فى مقابل الفيزيقي الحاضر/الكاتب.

   يتراوح حضور الروحاني مقابل الفيزيقي فى معظم قصص المجموعة بشكل لا شعورى، تأتي مشهديته جلية واضحة، أو باهتة شفافة، تتراوح من قصة إلى قصة أخري، بيد أن تلك المشهدية تتأكد بشكل واضح فى الملف الأول: شقيق

   يتكون ملف “شقيق” من (9) تسع قصص دفع بها الكاتب لتتصدر مجموعته القصصية، يتناول الملف علاقة الراوي بالشقيق فى مراحل حياتهما: الطفولة والصبا والشباب، قصص مكثفة ترصد علاقة الراوى القديمة بالأخ الغائب، لذلك تجلي حضور الروحاني مقابل الفيزيقي بشكل واضح فى قصة “هذا مقعدك”

   “بسط يده وناداه.. تعال يا أخى.. هذا مقعدك”، ص “6”

   هنا يتجلي حضور الذاكرة، يتخيل الراوي مرور أخاه الغائب/المكون الروحاني، مقابل مقعد يدعوه الراوى للجلوس معه/ كمكون فيزيقي

   وفى سياق آخر تأتي قصة “مسيرة الرجل العادية جدا”، وهى مجموعة مقاطع قصيرة، منفصلة، متصلة، يكتنفها سرد فنى رشيق، مكثف، يتبدي فيها البعد الفيزيقي فى المقطع الثالث من القصة فى عبارة:

   “ثم تَجَوّلت العاملة فى النهاية حول السرير، وجمعت كل تلك النفايات فى كيس أسود وجذبته رغم ثقله” ص “10”

   النفايات كمكون فيزيقي فى مقابل الموت وانسلاخ الروح وخروجها كمكون روحاني.

   فى المقطع الرابع أيضا من القصة يكشف الراوى عن استعادة شقيقه على المستوى الروحاني مستعينًا بالشيكة العنكبوتية ليستمع إلى صوته:

   “كان الجالس يحاول استعادة شقيقه المتعب والنائم أمامه عن طريق الشبكة العنكبوتية.. ليستمع إلى صوته، ويشاهد يديه اللتين ترافقان حديثه” ص “10”

   الروحاني متمثلا فى حضور الأخ الغائب فى مقابل الفيزيقي المتمثل فى جهاز الكمبيوتر وشبكته العنكبوتية.

   مع كثافة السرد وضيق مساحته فى عبارات رشيقة دالة موحية بمعظم قصص الملف الأول “شقيق” تتجلي ظاهرة حضور الروحاني مقابل الفيزيقي، ففى قصة “قبل المغيب بدقائق” يتمثل هذا الحضور عندما يستدعي الراوى أخاه الغائب:

   “أحس بأن أخاه يرسل له نظرة لائمة مما جعله يتراجع خطوتين للوراء ص “12”

   مشهد الدّفْنة بالمقابر كمكون فيزيقي مقابل استحضار الأخر الغائب كمكون روحاني.

   لا تخلو قصة من قصص الملف الأول من حضور الروحاني مقابل الفيزيقي، أو الاشتباك معه بشكل تلقائي دون الاتكاء على الحدث، وحضور الشخصيات مغلفة بالغموض الفني.

   وفى قصة “من يقطف الورد”، يتم استحضار العجلة (ماسورة العجلة) كمكون فيزيقي فى طرح الأسئلة الوجودية (من يزرع الورد فى خدود الجميلات ويرشق السهام فى قلوب الفتيان)ص “15”

   اشتباك الروحاني بالفيزيقي: “لم أتمكن من الالتفات لرؤية بريق الشوق فى عينيه، ليتني. يومها. التفت ورأيت ذلك البريق الذى أتخيله الآن” ص “17”

   مشاعر الشوق كمكون روحاني ببريق الشوق فى العينين كمكون فيزيائي، ويأتى السرد فى عبارة (ليتني. يومها. التفت) والفصل بين الثلاث كلمات متماشيًا مع الحالة النفسية والشعورية للراوى بدرجة كبيرة.

   يتراوح الروحاني والفيزيقي بدرجات حضوره فى قصص “يوم تركته على ماسورة العجلة وحيدًا”، وقصة “لما أردفني وراءه”، بيد أن ظاهرة حضور الروحاني مقابل الفيزيقي تتجلي بشكل واضح فى قصة “يوم بتر الطبيب الأحول عقلة من إصبعه” ويتمثل ذلك فى الآلة/ماكينة إنتاج البلاستيك كمكون فيزيقي فى مقابل مشاعر الأخ تجاه ابنه صاحب الظروف الخاصة وابنته التى على وشك الولادة كمكون روحاني:

   “ابتسم عندما حمل بيده اليسري طفلته المولودة وسمع بكاءها المسرسع، وناغاها بطرف إصبعه اليسري، وكان يحاول مداراة يده الملفوفة بالشاش من أعين زوجته، وأمه، وأبيه” ص “39”

   وعلى نحو آخر تأتي أجمل قصص المجموعة صياغة ورؤية وتَوَجّها “كأنك هو سبحان الله؟!!!”، بداية جاءت علامة الاستفهام موظفة رغم أن العنوان لا يدل على استفهام باعتبار أن الاستفهام يدور فى ذهن الراوى أمام اللبس الذى حدث بين شخصية الأخ الغائب والآخر الذى يشبهه، استحضار روح الأخ أمام هذا الآخر، حاضر بجسده وملامحه الفيزيقية ويحدث التمازج ما بين الفيزيقي والروحاني، الفكرة هنا هى التماهى بين الأخ الغائب وشخصية الآخر:

   “إنه يشبهه، لو يعلم قدر احتياجي له الآن، لو أطلب منه رقم هاتفه، حتي أهاتفه كلما هزني الشوق لأخى” ص “42”

   وضمن التكريس للتقابل ما بين الروحاني والفيزيقي فى قصة “وصايا” يكون الحضور الجسدي للرواي فى أداء الامتحان العملي بمدرسة الصناعات الثانوية بدل الأخ المجند فى الجيش، الأخ الغائب جسديًا الحاضر فى الذاكرة.

   ويمكن القول أن ملف “شقيق” بقصصه المكثفة المكتنزة، بكل مشهديته رغم أنه كان مشروع متوالية قصصية، إلا أنه فى هذه المجموعة بكل فنياته وتألقه فى طرح الروحاني مقابل الفيزيقي مثّلَ إضافة حقيقية للمجموعة على كل المستويات.

   ويأتي التقابل بين الروحاني والفيزيقي فى الملف الثانى “قفزة وقفزة” بشكل شفاف. ربما كانت المساحة السردية المتسعة فى قصص هذا الملف هى التي أدت إلى خفوت هذه الظاهرة، أو كان ذلك بسبب طبيعة الحدث وفنية التناول. ثلاثة قصص تمثل نقلة واضحة فى تشكيل هذه المجموعة القصصية، ويمكن التكهن أنها تنتمي إلى مرحلة زمنية متقدمة ومن نٍتَاج الكاتب للقصة القصيرة.

   تأتي قصة “العواد” فى صدر هذا الملف، يتمثل فيها الحلم بالتغيير فى مقابل الواقع المتردي للمتظاهرين، الحلم كمكون روحاني مقابل والواقع كمكون فيزيقي، راوى القصة افتقد العواد، والعواد افتقد رفيق الميدان، قصة حافلة بالعديد من الشفرات التي تثير خيال القارئ، رمزية العجلة والطفولة تحيلنا إلى قصة الملف الأول “يوم تركته على ما سورة العجلة وحيداً”، رمزية الأتوبيس.

   وتتميز قصة “أغلبهم مر من هنا” بتدفق السرد مع ما يطلق عليه بإخفاء الكتابة بالكتابة التى تشبه صنعة السجاد. يتمثل فى هذه القصة حضور الروحاني مقابل الفيزيقي بشكل شفاف فى إصابة راوى القصة بطلق أسفل القلب، أو ربما تخيل الراوى ذلك فى أحلامه ورؤاه (هى مزيج من مشاعر تتعلق بأزمنة مختلفة)، وتأتى إصابة الراوى بطلق نارى أو طلق خرطوش فى مقابلة رؤى واحلام الراوى، هنا الروحاني مقابل الفيزيقي.

   وعلى نحو آخر تأتى قصة “حكاية جديدة عن لوحة الموناليزا”، مساحة سرية متسعة فى المكان والزمان، تنطوى على فلسفة، ولا تخلو من تقابل الروحاني والمفيزيقي، أحلام مدرس التربية الفنية إذا أضفنا إليها أحلام الطلاب فى مقابل الأقنعة ورسومات الطلاب، ولوحة الموناليزا فى مقابل أحلام كل شخص.

   جاء الملف الثالث فى  “7” سبع قصص بشكل مختلف على مسوى الصياغة والسرد والتشكيل والرؤية، تتصدر الملف قصة “لقاء متأخر على السلم” متسعة إلى حد ما فى مساحتها السردية، متسعة فى مساحتها الزمنية، يتعامل الكاتب بشكل احترافي مع علامات الترقيم، فهى لا تقتصر على أداء دورها الوظيفى فقط، إنما يكرس لها بعدًا فنيًا يضيف إلى فنيات القصة:

   “تقاطيع وجهه، تفرض باستمرار حضور. وجه والدته. إلى مخيلتي، كأن روحًا معششة فى المكان” ص “86”

   نلاحظ أنه يفصل بين كلمة (حضور، ووجه والدته، وإلى مخيلتي) بالنقط، باعتبار أن المخيلة رافد من روافد الروح، ووجه الولدة مكون فيزيقي، فيتحقق التقابل لا شعوريًا بين الروحاني والفيزيقي بشكل شفاف.

   يظل وجه الأم المكون الفيزيقي، ولكونها ماتت منذ ثلاثين عامًا مكونًا روحانيًا حاضرًا فى سرد أحداث القصة.

   الأم أورثت ابنها “أيمن” مكانها الفيزيقي فى نفس المؤسسة مقابل رحيلها كمكون روحاني، هذا إلى جانب الانتقال المباغت للسرد من ضمير المتكلم لرواى القصة إلى ضمير المتكلم لشخصية الابن “أيمن”

   وجاء مرض الصديق/ الابن باعتباره ملبوسًا وتغافل حقيقة أنه مريض بالصرع مكونًا روحانيًا وفيزيقيًا فى نفس الوقت.

   وعلى نحو آخر جاءت قصة “نهيق متقطع لحمار حزين” بطريقة حكى غير تقليدية، جاءت مشوقة وجذابة، يحتفظ فيها الكاتب بالقارئ داخل العمل فيما يكتنف العمل التمازج والتقابل ما بين الروحاني والفيزيقي اذ يمثل الفيزيفي فى (الخرابة- بناء المدرسة- الحمار) مقابل الروحاني المتمثل فى وحدة شخص القصة “حنقوقة” والعفاريت التي تسكن الخرابة.

   وفى قصة “قالت له” المهداة إلى الشاعر حسن طلب، يتمثل فيها الفيزيقي وهو المبدع داخل هذه القصة وأحرف قصيدته، فهو- أى الشاعر- يتمتع شعره بخصوصية اللعب بالأحرف وإيقاعها داخل القصيدة، فى مقابل الروحاني وهى المشاعر المتفجرة بين الشخوص.

   وجاءت قصة “هناك لا تنتظرنى وحدك” بفنيات وطريقة سرد مختلفة مكونة من مقطعين: (امرأة تنتظر- كانوا معا)، يتبدى فيها حضور وتشابك الروحاني والفيزيقي بشكل شفاف مبهم، فيما يكون أكثر وضوحًا فى المقطع الثاني الذى جاء أكثر فنية تبدت فيه المشهدية، وتأكد حضور وتمازج الروحاني مقابل الفيزيقي عندما يصور الكاتب خلال الحادث أشخاصًا ماتوا بكل مكوناتهم الفيزيقية، مقابل الأرواح التى انسلخت عنهم كمكون روحاني، المرأة التى تلطم خديها بمشاعرها الروحانية مقابل الحاجر الاسمنتي المفعم بلطشات دم كأنها لوحة سيريالية كمكون فيزيقى:

   “ولم يلحظ أحد منهم.. اثر بقعة الدماء الهابطة من الحاجز الاسمنتي كأنها لوحة تشكيلية لرسام مجنون” ص “128”

   “هذا مقعدك” مجموعة قصصية حفية بالقراءة، تتعدد معها مستويات القراءة، لا يركن الكاتب إلى صياغة بعينها، فهو ما يلبث أن يزيحها ليخوض غمار صياغات جديدة، صياغات أكثر فنية محفزة لمخيلة القارئ.

 

 

مقالات من نفس القسم