“إفلات الأصابع” ..أو القيامة عملاً فنيًّا !

موقع الكتابة الثقافي writers 80
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يحيى وجدي

من الفقرة الأولى في رواية “إفلات الأصابع” للشاعر والروائي محمد خير، الصادرة عن “الكتب خان” يأخذك النص الروائي بقوة ورهافة إلى أعماق العمل. صحيح أنها أعماق لا تصل إلى قرارها بسهولة، لكنك تظل تواصل القراءة مستمتعًا ومنتظرًا لأن تعرف المزيد وأن تنكشف الحُجب الروائية المصنوعة بسلاسة وإحكام، وأن تفهم أكثر عن هؤلاء الذين تورطت معهم منذ السطر الأول، وحكاياتهم الغريبة ورؤاهم المدهشة وأسئلتهم التي لا يجدون إجابات عنها. حكايات تتوالد من حكايات وأساطير شخصية تتناص وتتقاطع مع أساطير إنسانية كبرى، يتلمسها القارئ في خيوطها سواء الساطعة أو المتوارية، دونما جهد. وأساطير يستثمرها الروائي في عمله دون نسخ أو تقليد، محققًا رؤية الناقد الفرنسي المعاصر برنار فاليت في كتابه الأهم عن الرواية التي صاغها في عبارة موجزة “لا ماهية لأسطورة في الأسلوب، ولا في طريقة السرد، ولا في علم النحو، ولكن في القصة المروية”.

محمد خير كاتب متنوع الإنتاج، كتب الشعر والقصة القصيرة والرواية، وقد استفاد من هذا كله في عمله الذي بين أيدينا، فنجد لغة شعرية مكثفة تحكي بأقل قدر من الزوائد، ودون تداعٍ قد يفسد السرد أو يمُطه بغير حاجة. ومن القصة القصيرة، أخذ البناء الدائري المحكم الذي يجعل كل مقطع سردي من مقاطع الرواية وكأنه نص مكتمل قائم بذاته.

إلى مكان غامض كأغلب الأماكن في “إفلات الأصابع” يذهب الصحفي “سيف” خلف “بحر” إلى نقطة وسط قضبان الترام الحديدية. نقطة ينتظران عندها حتى يمر ترامان متوازيان، واحد إلى اليسار في اتجاه والثاني على اليمين في الاتجاه آخر، لا يفصل بينهما وبين رأسي سيف وبحر إلا ملليمترات، لو تحركا عنها لتقطعا إربًا وقُضي عليهما. نقطة اكتشفها “بحر” كالعادة، وسار إليها وراءه “سيف” لا يسأله عن شيء صابرًا على ما لم يحط به خبرًا، نقطة أسماها “بحر” في أوراقه “نقطة النجاة” واكتشف “سيف” أنها حقيقية لكن لا يعلم “هل أنشأتها الصدفة أم صممها مهندس ما عمدًا، كلعبة سرية”.

على غرار هذه النقطة العمياء بين القضبان الحديدية، وسط القطارات المسرعة، والحصى الصغير، تمضي رواية “إفلات الأصابع”، وصولاً إلى نقطة شبيهة هي “نقطة الحقيقة” حيث يتضح كل شيء في النهاية، ومع ذلك لا يبدو أن شيئا قد اتضح حقيقة! شأن الأعمال الأدبية التي ترتفع بأسئلتها لتشاركها القارئ، دون أن تدعي أنها تقدم له خلاصة ما أو حكمة أو حكمًا نهائيًّا.

تنقسم “إفلات الأصابع” إلى ثلاثة أجزاء؛ اثنان يضم كل منهما فصولاً أصغر أو مقاطع سردية متفاوتة بين الطول والقصر، وجزء ثالث عنونه محمد خير “بعد النهاية” وعنده تلك النقطة التي أشرنا إليها، نقطة الحقيقة المتوهمة. الفصل الأول وهو الجزء الأطول في الرواية حكايات تتوالد من حكايات، وأشخاص يسلمون دفة السرد إلى آخرين بأصوات مختلفة، وكلما أوغل القارئ في مقاطع هذا الفصل يقابل المزيد من الأشخاص، كل له أسطورته الخاصة، وغموضه الخاص، إذ يرسم خير في العمل كله عالمًا من الأساطير المتقاطعة مع أساطير كبرى، وبقليل من الجهد يلحظ القارئ هذا التقاطع بين “بحر وسيف” و”موسى والخضر”، ثم ما يلبث الخضر أن يصبح موسى! عندما يقتل “بحر” صبيًا في البلاد التي يعيش فيها، ونجد “نوح” نفسه في “سالم” الذي يأخذ في سفينة إلى الجانب الآخر من العالم الظالم، كل سكان قرية “وهدة”، والمسيح كرجل مار بالمصادفة في ذلك الغريب الذي يراه “سيف” يمشي على الماء رافعًا جلبابه كمعجزة. قصص ينهيها محمد خير على عكس أصلها في نسختها الأصلية، فالرجل الذي يمشي على الماء لا يمشي على الماء حقًا، بل غار النهر وانكشف ماؤه، ولا في نهايتها السعيدة كما جاءت في الميثولوجيا، فركاب سفينة النجاة ماتوا جميعًا ولم ينج منهم إلا ابن القرية العاق الذي اعتصم بالجبل. يستمتع خير طوال النص باللعب الروائي ليفاجئ القارئ دائما بعكس ما يتوقعه؛ كل المعجزات لها أساس علمي أو مبرر واقعي، والنهايات ليست سعيدة، والعصاة ليسوا دائمًا الأسوأ، والأبطال الشرفاء ليسوا كذلك في حقيقتهم، وهكذا، حتى يصل إلى ذروة لعبته الروائية في نهاية العمل.

في “إفلات الأصابع” يبحث خير عن المعنى داخل الأشياء، والرعب الكامن في الجمال الظاهر، ويطرح أسئلة الوجود العنيفة، دون أن يحول شخصياته إلى مجرد وعاء لأفكاره وتأملاته، وكذلك دون أن تغويه تلك الرغبة في التورط مع هذا الشخصيات وتفاصيلها فيتداعى واصفًا إياهم بما يعطل تدفق السرد. ويتلاعب بالزمن كمن يمسك بريموت كنترول، يزيد سرعته فنرى في مشهد ما ماضي مشهد آخر، أو مستقبله، فيفصح عما كان غامضًا، أو يضعه محل مساءلة روائية. اختصارًا يتحكم خير في الزمن تمامًا، وكثيرًا ما يوقفه، على غرار عالم الفصل/ المقطع السردي “قبل الأبد بقليل” وهو فصل يصلح لأن يكون رواية مكتملة بذاتها، حيث تلاحظ مؤسسة سيادية ما أن ثمة أوقات فراغ في حياة المواطنين أو فائض في الوقت لدى مجمل السكان، فتقرر أن تملأها أو بالأحرى تهدرها، لئلا تستثمر من “جانب الجهات المحرضة أو المعادية أو العناصر الإثارية” فتعمد إلى وضع أنظمة وعراقيل بيروقراطية تضمن أن يتخبط فيها المواطن مثل ذبابة في شبكة عنكبوت، حتى يضيع وقت فراغه تمامًا، وإن وصل الأمر إلى حبسه في الزمن.

في “إفلات الأصابع” ليست الأماكن هي الأماكن نفسها التي نعرفها، صحيح أن الأبطال يسيرون مثلاً في وسط البلد، ويمرون بشوارعها وميادينها بأسمائها المعروفة، ولكنها تبدو في الرواية وكأنها تنتمي لمكان آخر تمامًا، أو كأنها مكان واقعي في واحدة من تلك الأحلام العبثية. كذلك الأحداث الكبرى مثل الثورة، لا يسميها خير في عمله الروائي، ولا يكتب عنها بشكل مباشر لكنها حاضرة كحدث آخر أسطوري، شأنها شأن بقية الأحداث وحكايات أبطال الرواية.

تصل الرواية إلى ذروتها في الجزء الثالث المعنون “بعد النهاية” وتتصاعد لغة السرد مثل نغمات عالية في أوركسترا يعزف ملحمة موسيقية، وتقترب الرواية من حدود “الديستوبيا” لنرى النهاية أو قيامة المدينة كما تخيلها “بحر” في أوراقه المتخيلة هي الأخرى “من عند حلاق سيذبح بالموسى فجأة زبونه المستسلم بين يديه، من عند جزار سيكمل حركة يده بالساطور ليصيب المشترين المتحلقين وسط اللحم والذباب. قادة السيارات سينطلقون فجأة ليكسروا الإشارات ويدهسوا العابرين، الأمهات سيجلسن -حقًا لا تهديدًا هذه المرة- فوق أطفالهن، أرى منذ الآن “تلك العاهرة التي ستسحق بفخذيها خصيتي الزبون…” إلى آخرى المقطع السردي الذي عنونه الروائي بـ”القيامة كعطل فني”، لكنه ضمن هذه الرواية البديعة يعكس كم حول محمد خير القيامة إلى عمل فني رائق ومهم.

…………

* نقلاً عن مجلة “مرايا”

مقالات من نفس القسم