جليل البنداري.. جدارية صحفية وإنسانية أم مجرد تأريخ لسيرة حساسة؟

عبد الوهاب طفل النساء المدلل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أكرم محمد 

جليل البنداري حالة صحافية وإنسانية متفردة، في عالم التناسي مغردة. صحفي “جليل”، صاحب طابع خاص وبنية لم يعتدها أحد الكتاب الصحفيين في تاريخ بلاده. هو منزوع من الأرشيف لكنه كائن في الوجدان، مزروع في الأذهان.. وجدان كل من تأثر بهذه العقلية الفذة، والكتابة الرابضة في ثنائية الساخر/الفلسفي، والكتابة الإبداعية/الكتابة التقريرية وعلى رأس قائمة من تأثروا به كان الكاتب والمفكر وائل لطفي، الذي أعاد نشر عدد من أعماله عن دار “كلمة” في محاولة لبعثه، رغم نسيان الأرشيف، وتجاهل كل من يقدر أن يضيف لهذه التجربة العامرة بالأسرار والكتابة الخاصة، الحاملة في رحمها وعلى غلافها اسم “جليل البنداري”؛ حيث تجربة لن تتكرر.. حيث “جليل الأدب”، هذا الوصف الذي وصفه الصوت الأهم في تاريخ المحروسة “أم كلثوم” إمعانًا في الجرأة الصحفية والبعد عن الأيديولوجية النفطية للكاتب الصحفي المجاور للفنانين، المجاملة لهم، وحيث وصف لهذا صاحب التجربة الغير مؤهلة للتكرار. 

من أهم كتبه، التي تخلق مفهوماً واضحا لكتابة جليل البنداري هي “عبد الوهاب طفل النساء المدلل”.

لا يعد كتاب “عبدالوهاب.. طفل النساء المدلل” مجرد تأريخا لجزء تقبع به حساسية صحافية وإنسانية من حياة واحد من أهم الموسيقيين في تاريخ بلده، ولكنه بمثابة جدارية للصحافة المصرية في وقت صدور طبعته الأولى، وطلته على القراء عام ١٩٥٨، ويعد مع صدوره عام ٢٠٢٣ عن دار “كلمة” تأريخا ملموس لحرية جليل البنداري وكتابته الرابضة بين ثنائية السطحية/العمق، عن طريق أسلوبه الساخر والواضع قلمه على مرابض المشاعر والسجايا الإنسانية.ئ

يخوض الشاعر والكاتب والصحفي الراحل جليل البنداري في هذا الكتاب رحلة في مغامرات صديقه الموسيقار محمد عبد الوهاب، فيبدأ من حيث انتهت حكايته مع المرأة التي تزوجها بالطلاق وهي السيدة “إقبال نصار”، ومن ثم يخوض في تجربة السجية الإنسانية مع الحب وعلاقته بالفن، وتأثير الماضي على الإنسان، ككل، ومن هذه النقطة يطرح “البنداري” الجانب النفسي لشخصية محمد عبد الوهاب بسرد يسترسل بسخرية لامعة بين فلسفة هائمة في قلب هذه الحكايات وسخرية سردها.. يسرد جليل البنداري أولى علاقته بالنساء مع إلهته التي هواها، وعاش في ضياها؛ أمه، ومن ثم السيدة الثلاثينية الأولى، التي مرت بفؤاده مرور له أثر فراشة لا يمحى على مر السنين، وانتصار الأقدار وتقليبها لأغوار الحياة. تملكت لبه وعاشت في قلبه، وعلمته الحياة الجنسية وهو عمره اثنا عشر سنة. لم يشكل نفر من أهله عن العلاقة بينه وبين حبيبة “باب الشعرية”، والتي انهارت وأسرت نفسه وأثّرت فيها عندما رآها الشاب الفنان في قلب غيره، تمارس الجنس مع غيره. هنا يظهر الجانب الفلسفي لهذا الكتاب، ولكتابة الراحل جليل البنداري؛ حيث الفلسفة واقعة بين الرمز والمباشرة في ثنائية شديدة الدقة في كتابتها.. هي أيضا متوارثة وراء سخرية تربض بنصوص جليل البنداري، وهي سخرية قائمة في النصوص اتباعا الذاتية. ذاتية جليل البنداري تظهر بشدة في كتابته الصحفية، ليس فقط في عرضه لمناطق خاصة لأصدقائه بحرية، ولكن أيضا في السرد ذاته؛ حيث سخريته وجرأته وفلسفته ورؤيته الفنية. 

يعيش “عبد الوهاب” بعد هذه الصدمة، وبعد ذهابه مسافرا إلى رحلة فنية، في أزمة صحية، ويرعاه الراحل مصطفى رضا، ومنعه أحمد شوقي، الذي كان قريباً منه، من الغناء قبل تخطي سن المراهقة. 

واستكمالا لثنائية الإنسان/الماضي يستكمل “جليل” حكاية عبد الوهاب مع الماضي، فيوح سبب اعتزازه بنفسه وكبرياءه، وهو بسبب المعاملة السيئة للمطربين، ورؤيتهم مجرد “آلاتية” ومعاملة أصحاب الأفراح لهم بدونية، مما جعل المطرب يبالغ في الكبرياء د، حتى ينتزع من نفسه حكم الطبقية، وحكم الشعب على المطربين.. 

ثم ينتقل “البنداري” إلى قصة الحب الفعلية الأولى في حياة المطرب والموسيقار، وهي حكاية “مليونير الزمالك”. يكتب الصحفي الراحل بأسلوب أدبي يحمل في رحمه ثنائية الإبداعي/التقريرين عن حكايته مع “مليونير الزمالك”، التي منحته أموال وهدايا وجعلته يعيش في مكان لم يتخيله الشاب الفقير ابن “باب الشعرية”، ولكنها سلبت حريته بعشقها التي تحولت لغيرة قاتلة، وتقاطعت الحكاية مع قصة حبه لفتاة شقراء نبعت حياتها من قصر محمد علي، وكانت هذه الفتاة هي من ألفت أغنية شهيرة له، لم تنشر باسمها، ولكن قصة الحب لم تكتمل؛ بسبب رفض القصر والخال، وعدم تضحية “طفل النساء المدلل”، وانتهت حكاية الفتاة مع الحياة وأفضى بها العشق إلى الموت بناره ملتهبة، كما انتهت الحكاية مع سيدة الزمالك بطلاق. مليونير الزمالك الثرية التي هامت في محراب إله النساء والبخل والنفاق اللطيف عبد الوهاب، مثلها مثل السيدة الخليجية التي تركت زوجها لأجله ولم يصح لأجلها، ولكن فن محمد الوهاب ملأ بالآهات واتجه لشعر المكلوم العاشق أحمد رامي، الذي حُيّر قلبه، بعد عشقه لزوجته السيدة إقبال نصار، التي رآه مع زوجها في وقت استرخاء وظل يطاردها حتى أسر قلبها وتزوجها، ولم تظفر به مليونير الزمالك، حتى بعد محاولتها لدينه بثلاثة آلاف جنيها ليعود..

لا يكتفي الراحل جليل البنداري بالتأريخ الأدبي الإبداعي لمحطات محمد عبد الوهاب مع النساء والحياة ومواقفه فيها، تأريخ صاحب الطابع الفلسفي الإنساني، والساخر الجرئ؛ بل لايتوانى عن سرد محطات من حياته الفنية تقترن بحياته العاطفية، فيكتب عن علاقته برئيس حزب غضب من المطرب لقوله في موال شهير له “ياللي تركت الوطن والأهل علشانك”، وثم يكتب ويلحن أغنية يسمعها المطرب في فندق، بعد أن أمر بأخذ العود من غرفة عبد الوهاب، ويسرد أولى رحلاته الفنية وهو طفل مقبل على المراهقة، ومدير من النساء، «معقدا»، بعد خيانة المرأة الثلاثينية له، وأسباب الأغاني التي غناها بعد عشقه ل”إقبال نصار”، وبعد طلاقه، وهو ما يوضح تأثير الحياة والذاتية على الفنان.

مقالات من نفس القسم