وراء الفردوس.. الذات كـ”مسودة” سردية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

(1)

بين ثنيات رواية "وراء الفردوس" لمنصورة عز الدين ترقد" مسودة"، رواية ناقصة اختبأت في طيات رواية اكتملت. رواية تكتبها " سلمى " الشخصية المركزية ، كنوع من العلاج النفسي ، التطهر .. و رواية أخرى كتبتها " منصورة " ، ضمت سلمى نفسها و " مسودتها " .هل تشبه الرواية التي كتبتها سلمى ، الرواية التي قرأناها ؟ . لن نعرف أبداً .  نحن أمام روايتين : واحدة مخفية ، تلك التي تنهمك سلمى طوال الوقت في كتابتها ، تصحبها  أينما حلت ،  رواية موجودة بالقوة و ليس بالفعل ،و أخرى معلنة ، اسمها " وراء الفردوس " .  كلتاهما كانتا تسيران أمام أعيننا .

في الرواية الأولي نشاهد المؤلف في عذاباته و مكابداته و لا نرى نصه ، في الثانية  نواجه النص و لا نعرف أبدا كيف كتبه المؤلف . حياة المؤلف في الأولى تساوي موت كتابته ، بينما موت المؤلف في الثانية كفل تحققها . ربما كانت الرواية الأولى هي ” الفردوس ” الذي لا يتحقق ، لذا لم تكتمل ، بينما الثانية هي ” ما وراء الفردوس ” ، تأويله ، و مساءلته ، حواشيه وهوامشه التي غدت متناً في ذاتها ، لذا تمت . أخفقت المحاكاة إذن لصالح الخلق . أخفق الشخصي لحساب الملحمي ، وغاب الصوت الواحد لتعلو الأصوات المتشابكة . إنه موقف جمالي أيضاً ، حتى إن لم يكن تدشينه تم بشكل واع تماماً .

(2)

    الرواية الأولى كموضوع للرواية الثانية . إنه تمثيل رمزي لفن الرواية نفسه : الرواية دائما تكتب رواية أخرى ، شفهية ، تدونها . الفارق الجوهري بين الروايتين ــ من ضمن فوارق كثيرة ــ أن ” سلمى ” المؤلفة كانت تكتب عن نفسها ، حتى و إن حرفت حياتها ، مستعينة بأناها كسارد يخط همه الضيق .. بينما استعانت مؤلفة ” وراء الفردوس ” بسارد عليم ، يعرف الكثير غير أن تورطه نفسه خافت ، و اختلقت أكثر مما حرفت ، اكتنهت العالم بالمخيلة و ليس بذات مفردة ،غنائية .

     أعلنت المؤلفة عن حضورها في الهوامش ، لتذكر ، حينا بعد آخر ، أننا أمام روايتها .بدءاً بالإشارة لمقطع كان قصة في مجموعتها الأولى ” ضوء مهتز ” ، و كان يمكن الا تفعل .. و تارات بتصويب أو تدقيق حدث داخل السرد  و التعليق عليه رغم أنه لم يكن من الصعب دمج ذلك في المتن نفسه ، بدلا من كسر إيهامه المفترض عبر الهامش . اتنتا عشر هامش كان يمكن ــ فيما عدا الإشارة الأولى ــ أن تدخل في لحمة السرد ، و ما كان ذلك ليستعصي على سارد ملم ، تديره المؤلفة ، غير أنها لم تشأ .

    إنه اللعب . مؤلف واقعي أمهر من مؤلف فني ، رهان غير مرئي ، كسبه الأول  بإتمام روايته بينما ترك المؤلف الآخر لنقصانه . رغم أنه هو نفسه مؤلف المؤلف الآخر ! . هذا موقف جمالي آخر ، غير معلن : لا يكفي أن تكتب ذاتك كي تتم روايتك ، بينما تستطيع أن تتمها بالتورط في حيوات أخرين .

    كان يمكن للعبة أن تتحول إلى تماهٍ محكم ، يذهب بعيدا ، فلا نعود نعرف أي رواية نقرأ . كان يمكن أن يتفرق نسب الرواية عمداً بين مؤلفين ــ أو مؤلفتين ــ و أن يتوزع دمها بين ساردين يتبادلان الأدوار ، غير أن إرادة السارد أبت ، مفضلة أن تكون اللعبة في اتجاه آخر : أن تشعر بأن الرواية التي لم تكتب تامة قبل أن تخط يد سلمى حرفا فيها ، بينما تظل متعطشا لاتمام الرواية التي اكتملت فعلا .

    تلك المغامرة الجوهرية في تشكل بنية النص،  منحته قدراً غير هين من سبل تحققه الفني .لقد خلقت مبدئيا الحبكة الرئيسية التي يلتم حولها العمل ، و هي حبكة توحي بطبيعتها أن ماهو قادم من سرد سيمنحها الصدارة ، كفضاء فني مثير يغري بالاشتغال . غير أن  السارد يجعل من تلك الحبكة نفسها ــ في مستوى تال ــ حبكة فرعية ، ذلك أن مهمته كانت إعادة تكوين ما هو مقوض بالفعل لحظة بدأ السرد .ثمة حوار آخر بين البنية اللعوب تلك ، و لغة السارد الراسخة ، التي تلائم وضعية التأريخ . السارد الذي يوحي بأنه لابد أن يُصدق ، حتى في التفاته للغرائبي و غير المعقول . إنها لغة تجوب شخوصَها لو صح التعبير . تعود بالزمن للخلف و قد تتقدم به للأمام مستبقة ما سوف يحدث .

(3)

    ليس عبثاً أن تجيء الفقرة الافتتاحية محملة بكل ذلك التواشج بين مفردات الطبيعة ، في شكلها الأولي و الطبيعي و البري .. و  التي تقدم للظهور الإنساني ، تمهد للحظة انبثاقه ، توسع له، كأنه يخرج من بينها ، أو كأنه محض مفردة كبقية المفردات . بل إن تقديم الإنسان نفسه يجيء مقترنا ــ بفعل التشبيه ــ بالصفة الحيوانية البرية .

    ” كنمرة هائجة نزلت سلمى رشيد درجات سلالم بيتهم الثماني ، يتبعها خادم يرزح تحت ثقل الصندوق الخشبي الضخم الذي يحمله … بدت غير مهتمة بالحر القائظ الذي نفثته تلك الظهيرة الأغسطسية ، و لم تنتبه للثعبان الأسود الذي أطل برأسه من بين كومة القش القريبة قبل أن يختفي بداخلها من جديد ، و لا للفأر الرمادي السمين الذي مرق بسرعة هاربا من المشهد الذي احتلته هي . على مقربة اختفت حرباء مشاكسة بين أوراق العنب المتدلية عناقيده بزهو من التكعيبة المدهونة بلون برتقالي بهت بفعل الزمن ” .

   هذا مفتاح أولي لأشخاص متماهين مع وجودهم الطبيعي ، مصدقين لغرائزهم . أقصد تحديدا الأشخاص الذين سبق وجودهم دخول التصنيع بقيمه ، و بالجيل التالي في الرواية . .مفتاح يجعل من الطبيعي بعد ذلك أن تسلم ” بشرى ” زوجة صابر جسدها بسهولة ل ” جابر ” ــ في علاقة محرمة ثم في زواج ــ و كلا المؤسستين يمكن أن تخاصمهما امرأة أخرى في مكانها ببساطة . . يتسق ذلك أيضا مع ” رشيد ” والد سلمى النزق . يتسق مع ” لولا ” أخت ثريا ــ أم سلمى ــ التي تدخل علاقة جسدية مع شاب تحبه ، بل و تترك نفسها إلى أن تنتفخ بطنها ، قبل أن تنتحر .سؤال الجسد حاضر بقوة

    ضمن هذا الإطار ، والأدهي أنه معبر عنه ، خارق للتابوهات ، رغم ضيق العالم الاجتماعي و قيمه المقيدة .

    تقدم ” وراء الفردوس ” رؤية عميقة لتاريخ عائلي ، امتد ليصير ــ على مستوى أشمل ــ قراءة في طبقة ناشئة شهدتها سبعينيات القرن الماضي ، لتلتحق بركب الطبقة الرأسمالية .. متجاوزة ــ في قفزة ــ الطبقى الوسطى نفسها في شكلها الكلاسيكي . تقترب الرواية من ريف الدلتا في حقبة مفصلية ، بدأ فيها التحول من قيم الإقطاع لقيم التصنيع .. من خلال الأرض بالذات ــ بكل ثقلها الثقافي و الروحي ــ التي جرى تجريفها لتصير مادة لصناعة الطوب الأحمر . هذا العالم الذي يحضر للمرة الأولى في الرواية المصرية ، يبدو جزءا من مسكوت عنه واسع بمعنى ما . يدعم خصوصيته أن الوعي الكامن خلفه هو وعي شخصية ثلاثينية الآن ، شهدته كجزء من طفولتها ، و ازدهر و خبا قبل أن تتجاوز هذه الذات منحنى طفولتها . إنه هنا الموقف العام ، ليس للمؤلفة أو السارد ، بل للمؤلف الضمني  ــ وفق أدبيات السرد ــ ذلك الضمير الأشمل لكل عمل روائي ، و الذي يستحيل القبض عليه متجسداً رغم ذلك .ارتفعت البيوت بينما انخفض سطح الأرض بعد تجريفه . يالها من مفارقة ! . هذا الانتقال سيشكل قطيعة ما مع التماهي بالطبيعة الذي أسلفت إليه، في الجيل التالي .

(4)

    التصنيع ، كأفق ، يخلق قيماً نقيضة تماما ، في مقدمتها بزوغ  الفردية مقابل انسحاب قيم الانضواء في سياق المجموع . هي الفردية التي وسمت حياة من جاءوا في سياقه ، و خلقت توحدهم : سلمى ، و جميلة ، و خالد .. مقابل الجمعية التي اتسمت بها حياة سابقيهم . ربما لهذا يغدو طبيعيا أن نواجه ذلك في الجيل الأحدث . كل في عالمه . حتى خالد عندما يشاهد إيذاء اخته سلمى على يد الشيخة ، لا يحرك ساكنا . الشيخة نفسها لم تكن تعاقب سلمى لسبب ديني في الملبس وحسب ، بل لصعقتها القيمية في ” فرد ” يخالف قيم القطيع :

   غير أن المكان ــ غير المسمى ــ يبقى إشكالية ، كونه يظل ريفا يستعير  قيم التمدن من القرى و المدن المجاورة  ، أو يحاول .  القرية ليست بها مدرسة حتى هذه اللحظة ، و لا كهرباء ، و لا كنيسة ــ في إشارة لغياب التعددية الدينية ــ و لا أماكن للهو . قيم التصنيع أتت كبنية فوقية ناتئة ، لم تنبع من قاع البنية التحتية ، فحدث الصدع . نحن أمام شخصيات نصف ريفية نصف متمدنة . لقاء الريف بالمدينة لا يتحقق : جومانا تنفر من عايدة ، رغم أنها قبطية مثلها . مصطفى يتزوج من قاهرية برجماتية ــ قيمة الصناعة الأكبر ــ تأنف من زيارة البلدة .. حتى عندما يصمم بيتا يفشل في جعله متساوقا مع البيئة التي تضمه ، ربما لو كان بيتا في القاهرة ما وقعات المشكلة .

يبدو سؤال ” العائلة ” في القلب من ذلك ، جوهرياً في “وراء الفردوس ” .. مثلما كان في “متاهة مريم ” و إن بتشكل آخر .العائلة كقبيلة ، ككيان قوي ، كتمثيل رمزي للسلطة في شكلها العميق القار، وليس ” الأسرة ” في معناها المديني الضيق و الهش . تبدو العائلة أقوى بكثير من حقيقتها بفعل وجودها الرمزي و تمثلها الغرائبي في بعض حناياه . الجد غائب ــ في متاهة مريم و وراء الفردوس ــ إنه الإله غير المرئي ، الحاضر طوال الوقت دون تمثل جسدي مرئي . بانتقال  العائلة من قيم الإقطاع إلى قيم التصنيع ، يتفتت البيت ، مركز السلطة الأحادي ، إلى عدة بيوت .تتفتت الأحادية الأبوية الألوهية  إلى تعددية أبوية بشرية ، لها بؤر ، يحتل كل واحد في الأخوة الثلاثة الذكور : سميح ، و جابر ، و رشيد ، واحدة منها .

    لنلاحظ أن عالم العائلة دائما يستعاد عبر وعي أحدث ، و تلعب الشفاهية التي تنقل سيرته من جيل لجيل دور البطولة . عالم من التكهنات بحقيقته ، تستعيده الذاكرة ، محرفاً بالضرورة و غير مكتمل . هو هنا أيضا عالم ما قبل الكتابة ، حتى أن ما يتركه الجد مكتوباً ضمن أوراقه ، نكتشف أنها رموز تستعصي على الفهم . سميح ــ أكبر الأبناء ــ يتعلم القراءة خصيصاً ليتمكن من فهم ما كتبه الأب ، غير أنه يفشل في النهاية .رغم ذلك يبدو قدر الكتابة محكوماً بالفشل ، بدليل رواية ” سلمى ” التي لا تكتمل أبداً . الشفاهية تتيح التحريف ، و إخفاء العورات ، و تضخيم مناطق القوة . تتيح تاريخاً أقرب للمقدس ، أكثر تماسكاً و نصوعاً من تحققه ، أما الكتابة فلا .

(5)

    في هذا السياق يجيء الحضور اللافت لعالم الحكايات الشعبية ، الشفاهية ، و القابلة للتحريف أيضاً حسب المغزي الذي يقصده منتجها .  إن الحكاية الشعبية ــ كخطاب ــ تتواشج مع عالم الرواية و تعمقه .الحكاية الشعبية من أقرب الأشياء التي تقرب الماثل من الخفي في المخيلة الجمعية ، بل  إنها تغدو ــ عند مجتمعات ما ــ أقرب للنصوص المقدسة .هي  تتحقق وفق منطق ” المعقولية ” و ليس ” المصداقية ” . في الحكاية الشعبية ثمة أشياء ملائمة تماما لسياق رواية مثل وراء الفردوس : انها نتاج الوعي الجمعي القابل للتحريف حسب كل راوي، و حسب موقعه الايديولوجي أو يقينه . هي على جانب آخر توائم السياقات غير المدينية أكثر ، وتؤاخي بين الموجودات من طبيعة و أشياء و بشر . هذا نفسه عالم ” وراء الفردوس ” . الكتابة تعارض الحكاية ، عندما تحكي ثريا حكاية ” كمونة ” لسلمى ، مبتورة ، و تكملها المؤلفة في هامش . . تكملها في الحاضر بفعل الكتابة بعد أن عاشت في الماضي على هذا النحو شفاهة .إنها  الكتابة التي تكمل ماضي سلمى الشفاهي ، أو تصححه و تضبطه إن شئنا الدقة ، مثلما تحاول هي نفسها أن تفعل .  بل إن المؤلفة ذاتها أعادت كتابة الحكاية ” بتصرف ” و من الذاكرة ، كما تشير في هامش آخر .. كانها بدورها تكتب الحكاية التي تخصها في سياق خدمة السرد ، وفق وجهة نظرها.. و كأنها محض محاولة من ضمن محاولات كثيرة محتملة .

(6)

    تتحقق شخوص ” وراء الفردوس ” في ضوء غرائبي ، غير أنه نابع بالأساس من داخلها . كل شخصية تحمل شذوذها الخاص ، عنفها الكامن ، و تناقضها الفادح .على جانب آخر تحضر العلاقات المتشابكة ، و المبنية في معمار شديد الإحكام .

   إن سلمى تتحقق روائياً في ظل  تناقض جوهري . هى ” من ذلك النوع  من الناس المؤمنين بأن كل فعل إنساني لابد له من مبرر منطقي. لم تتعلم أن المبررات الحقيقية من الصعب الإمساك بها ، حتى بالنسبة لصاحب الفعل نفسه ” . هكذا يجري توصيفها بدقة صفحة 122 ، رغم أنها ” عادت إلى بيت أبيها مدفوعة بحلم ! ” ، مثلما نعرف مبكراً جداً ، صفحة 10 .

    عالم سلمى الواقعي تديره في الحقيقة أحلامها العنيفة ، بينما عالمها المتخيل ــ المتمثل في كتابة رواية ــ لا يتحقق لأنها تبحث عن مبررات منطقية له ! .المفارقة فادحة في تلك الشخصية الروائية . إنها تقرأ الواقع بالوهم ، و تطمح في قراءة الوهم بمبررات الواقع و شروطه . إنه فصام ما . فصام تعانيه سلمى أيضاً في علاقتها بنفسها ، باعتبارها ” جميلة ” بالأساس .. جميلة التي سطت على اسمها الأصلي الذي كانت العائلة تنوى منحه لسلمى ، قبل أن يجردها أبوها منه ببساطة بناء على طلب موظفة السجل المدنى . ” جميلة صابر اللعنة التي سوف تسكنها من الآن إلى مالا نهاية  ، أناها الأخرى التي انفصلت عنهاى، و قطعت علاقتها بها من دون ذرة تردد ” . بشرى ــ أم جميلة ــ قبلت باسم “جميلة ” بعد أن استخدمه أسيادها ، ببساطة ، رغم أنها رفضت بعد ذلك استخدام ملابس سلمى المستخدمة لجسد ابنتها .   إنها مفارقة أخرى . 

 سلمى تتواصل مع العالم عبر أحلامها . بعد موت أبيها ” اعتادت أن تتواصل معه عبر الأحلام” .

    نظلة .. شخصية أخرى وثيقة الصلة بعالم الأحلام .إنها ” المفسرة ” ، القادرة على كشف مغاليق أعتى الأحلام .. رغم ذلك ــ أو ربما بسببه ــ تخفق في الواقع .تخرج من زيجة سريعة بجسد غير مخدوش .كان لابد ــ بشكل ما ــ أن تظل نظلة عذراء ، مخلصة لعالم الأحلام و ليس الواقع ، لتظل قادرة على الاحتفاظ بموهبتها .

    سميح ، بلا نسل . هل لذلك علاقة بمغادرته مبكراً ل ” البيت الكبير ” و استقلاله بحياته ؟ هل لأنه أدرك أ.نه بلا امتداد ، و بالتالي ليس بحاجة للانضواء تحت كيان البيت أو العائلة ؟ لأنه أيقن أن حياته ستنتهي بموته ؟ .. و أي اتساق مدهش بين افتقاده للامتداد ، بموازاة افتقاده  للنسب المكتمل للأسرة ؟ ذلك أنه ليس ابن ” رحمة ” ، ليس أخاً شقيقاً لجابر و رشيد .

    سميح يولع فجأة بتعلم القراءة و الكتابة ، ليتمكن من فك شفرات أوراق أبيه ، التي شعر أنها رسالة مجهولة تخصه وحده ..بينما يترك رشيد ” العلام ” طواعية رغم نبوغه ، مفضلاً الإنصات لنزقه .

   بعد سنوات طويلة ، ستفعل “هيام ” ابنة رشيد الكبرى الشيء نفسه ، ستترك الدراسة طواعية لتتزوج .ستكرر نزقه ، لكن في اتجاه آخر .

لنقترب من العلاقة المرسومة بدقة بين بشرى و ابنتها ، في علاقتيهما بجابر و ابنه هشام في سيمترية متقنة : بشرى تمارس الجنس المحرم مع جابر مرة واحدة ، لأنها ظنته شبحا .. بينما فعلت جميلة الشيء نفسه مع هشام لأنها أحبته . جابر و ابنه يضاجعان بشرى و ابنتها . في علاقة مبنية بهندسية فائقة ، لكن شتان . بشرى تقبل بالزواج دون أن تسأل عن الحب ، رغم أنها لا تخشى الفضيحة مثلا ، و ليست ثمة إشارة لتطلعها الطبقى مثلاً .. بينما ترفضه جميلة ــ التي فقدت عذريتها ، ما يجعل موقفها أصعب ، و المتطلعة في الوقت ذاته ــ  عندما تكتشف أن هشام لم يحبها . إنه التجلي المرسوم بعناية للمفارقة بين جيلين .

   ” بدر الهبلة” شخصية أخرى ملفتة رغم حضورها الثانوي . تظهر و تختفي سريعاً . إنها صوت الجنون في هذا العالم ، مرادف آخر للعالم الباطني ، و لذلك هي مرادف آخر ل ” سلمي ” . هذا ما يجعل من المتساوق تماماً أن تنتهي الرواية بسلمى و هي تردد اسمها في غيبوبتها ــ بعد أن تعرضت لحادث سيارة ــ و أن ” تنصت لصوت ارتطام جنزير قديم يكبل ساق بدر بدرجات سلم بيت العائلة وهي تصعده زاحفة ” .هذا الجنزير هو الذي كانت تجيء به بدر ــ التي يحبسها أبوها ويقيد جسدها في سرير  ــ ليحررها منه جابر في بيت العائلة . تستدعيه سلمى في نهاية الرواية ، التي بدأت بها و هي  تنزل درجات سلم آخر . بدر أيضا كانت الوحيدة القادرة على معاملة ” جابر ” ــ العملي البراجماتي ــ ببساطة و إباحية ، ليرد عليها ضاحكاً بنفس الطريقة .

   هناك  كرم ، ابن “عوف ” الصياد ، الذي اختفى أيضاً مبكراً ــ لكن بفعل الموت غرقاً ــ.. و تكون “بدر ” هي الموجودة لحظة البحث عن جسده عقب غرقه بلحظات ، كأنما تضلل الناس عن جسده ، كتوطئة لاختفائها هي القادم ! .

و هناك   لولا .. التي اختفت أيضا ــ بفعل الانتحار ــ بعد أن حملت سفاحاً .

إن حضور الشخصيات الغائبة يبدو فادحاً في هذه الرواية ، و كلها شاذة عن سياقاتها ، جميعها حالمة بمنطق ما : جنون بدر في عالم يفترض أنه عاقل ، إصرار كرم على مواصلة تعليمه في سياق أسرة لا تقرأ و لا تكتب ، إقامة لولا لعلاقة خارجة عن الأخلاق بالمنطق الاتفاقي .من يختلف ، يُعاقب ، يغيب .

    جابر كان ذكياً عندما حول ولعه ب ” بشرى ” لعلاقة اتفاقية ، حتى و إن ضحى بزوجته الأولى ” حكمت ” ، لذا ازدهرت أعماله . عاش طويلاً بينما مات ” رشيد ” ، المختلف ، الحالم بطريقته .

كذلك “رزق ” القبطي  ــ الحرِّيق في مصنع الطوب ــ نجا عندما  قرر في لحظة أن يعود لموطنه في الصعيد ، ليبحث عن زوج لابنته عايدة في بلدته . اختفى ” رزق ” في البلدة ، كعقاب على اختلافه الديني ، رغم أنه لم يختره ، لكنه عدل عن ذلك حين كبرت ابنته .

نجت “ثريا ” من مصير اختها بالزواج ، مثلما نجا أخوها مصطفى بالزواج من قاهرية

توازيات و تعارضات عديدة تلتم عبرها علائق الشخصيات الروائية و خطاباتها ، لتخلق في كل اختبار علاقة جديدة ، ووجهاً قابلاً للتأويل .

(7) .

  ربما لا يتجاوز  المدى  الزمني  بين مشهدي الافتتاح و الختام ــ اللذين تحتلهما سلمى ــ بضعة أسابيع . يترى في محدوديته الزمن الأسع ، الذي يبدأ قبل مجيء سلمى نفسها و بقية الشخصيات للحياة . يتحقق الزمن في مواضع عديدة ــ كما عند ” بروست ” في البحث عن الزمن المفقود ــ من خلال أشياء ، أو روائح ، أو حكايات قديمة تلقى شذراً.

    دائما ما يتحقق الماضي المفارق عبر لحظة حاضرة ماثلة ، يبدأ بها الفصل ، أو المشهد ،  لتبدأ معها عملية  الاسترجاع الزمني . . إن يوم الجمعة ــ الذي تعتبره رحمة يوم شوم ــ يستدعى شبيهه الذي مات فيه كرم ، و يستدعي معه عالما كاملا من حياة سلمى الطفلة و أقرانها ، وعددا من الشخوص التي تظهر للمرة الأولى مثل ” بدر الهبلة ” و أبوها الحاج ابراهيم ، في الفصل الثالث من الرواية . كذلك شجرة البونسيانا في الفصل الخامس  التي تستدعي حضور الجد و الجدة رحمة ليتم استعراض تاريخهما كله . و عربة النقل المهملة في الفصل السابع تستدعي قدرا كبيرة من حياة العم سميح . كذلك المطعم النيلي في الفصل الأخير. إنه الحضور الذي يستدعي الغياب ، و ينتهي باستحضاره ليصير وجوده أكثر حضوراً و كثافة من الماثل نفسه .

    إن مشاهد وأحداث   ” وراء الفردوس ” تبدو مثل مزق التمت على مهل ، و بدقة، بما يجعل من كل قطعة فيها كيانا لا يمكن الاستغناء عنه في سياق الحبكة الكلية  المرسومة بعناية ، و بما يزيح الزائد عن الحاجة في إطار الحكاية مهما كانت أهميته في ذاته . ليست هناك قطعة مكتملة ، فكل منها  تحمل من الثقوب و الفجوات قدر ما تحمل من المناطق المتماسكة و المرتقة . غير أنها معاً تشكل اللبنات و المشاهد الجوهرية و المحورية في النص .  إنه عالم التأمت بقاياه بدأب ، لتنتج صورة مشدودة بعيداً عن أصلها الذي قد يكون عامراً بالترهلات . ثمة العديد من القفزات الزمنية ، و وقائع يسبق وجودها في زمن السرد وقائع و أحداثاً أخرى رغم أنها تالية لها في التعاقب الواقعي المفترض .الرواية لم تلتزم التتالي الخطي ، استبعدت الزمن في أفقيته ، خالقةً فلسفة أخرى للتجاور بين العلاقات . العلاقات هنا مكانية ــ بالمعنى الشعري ــ الذي يعيد تشكيل الدلالة وفق قانون العلاقات بين الأحداث و الشخصيات ، من توازيات و تقابلات و تعارضات ، و ليس وفق قانون التصاعد الزمني . هذه الخلخلة الزمنية للتماسك الأصلي للحكاية ، و لبنيتها الكرونولوجية التعاقبية  تعيدنا لسؤال السارد أو الراوي .كان يمكن للسارد أن يكتفي بمشهد البداية ـ الحاضر ـ ليشتغل على الاسترجاع مرة واحدة  ، خاصة و أنه يملك الصلاحيات التي تؤهله لذلك .. غير أنه فضل ” محاكاة ” الوعي المركزي في الرواية ــ وعي سلمي ــ كأنه يتحرك عبره ، يحاكيه لكن بحرفية أكبر ، ممارساً سلطته في قراءته و الاشتغال عليه بفنية. ثمة ” إطار ”  ، حكاية كبرى ، تتخلق عبرها حكايات أصغر . سلمى تكتب كي لا تموت ــ في تناص ما مع ألف ليلة و ليلة ــ و قبل تعرضها للحادث الذي كاد يودي بحياتها ، مباشرة ، تمنح ما كتبت ل”جميلة ” .. كأنها القاريء الوحيد الذي تطمح في أن يطلع على ما فعلت .

،،،

انتهت رواية سلمى عند “جميلة ” . لم تدفع بها لناشر . لم تقرأها لطبيبتها النفسية التي اقترحت عليها فكرة الكتابة برمتها . لم تفكر في إرسالها لزوجها ” ظيا ” الذي فارقها ، و ربما كان أحوج لقراءة ما يفسر له إحباطه حيال علاقته بها . ذهبت لقارئة وحيدة ، كأنها كتبت من أجلها فقط .

إنه فضاء عامر بالأسئلة ، يتحقق في نهاية ” وراء الفردوس ” . أسلمت سلمى ما كتبت لمستحقه ، قبل أن تتعرض لحادث كان يمكن أن يودي بحياتها . كأن الرواية تحولت ل “وصية ” ما .اكتمال الكتابة جعل الموت قريباً ، كأن الحياة  في شفاهتها وجدت ــ فقط ــ لتُكتب.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم