نوف السعيدي
كانت سوسن تنتظر استعداد الجميع، حين لفت انتباهها المؤشر في منتصف الكتاب، على طاولة الصالة. إخوتها الأكبر (سلمى، وسليم) في الغرفة الأخرى يتجادلون حول أمر ما، أمها في المطبخ تحضر المأكولات الخفيفة، فيما تجلس أختها الرضيعة ساكنة على مقعدها، تتابع بآلية حركة أمها، دون أن ترى وجهها، فهو دائما إما باتجاه المغسلة أو الطباخة، أو النافذة – في اللحظات القليلة التي تُشغل بأفكار عابرة، أفكار بلا معنى، حول المستقبل القريب، القريب جدا، بضع لحظات من الآن، أنتم تعرفون ما أعني ذلك النوع من الأفكار الذي يساعدك على تغييب الحاضر، ليمر الوقت أهون. فتشريح الطماطم بعد كل شيء لا يمكنه أن يكون موضوع تأمل، يمكنه أن يكون موضع لذة في بعض الحالات لا أنكر ذلك، لكن فقط إن كنت طاهيا ممتازا، وكانت شرائحك مثالية -.
لابد أنها تعد شطائر اللحم. تناولوا قبل بضعة أسابيع شطائر لحم مقطع لقطع صغيرة، وممزوج بصلصة ما، لا نريد المجازفة بالتحدث عن مكوناتها. اكتسب الزوجان عادة تجريب الأطباق في الخارج، ونسخها في البيت مع بعض التعديلات. ففي كل طبق – دائما – شيء ناقص أو زائد.
كانت سلمى تلقي على أخيها قصيدة هجاء. تجري العادة بأن تتجادل معه، ولأنها أبطأ بديهة منه، لا يسعفها الرد، لكنها تدخل إلى غرفتها تكتب قصيدة هجاء وتعود لإلقائها على مسمعه. إنه يتركها تكمل للنهاية. حين ترفع عينيها عن الورقة، تدرك أنها إما أن ترى وجها ساخرا أو مستشيطا، قلبها يصلي من أجل الغضب. احتاجت لأن تخلفه يهدر وراءها، وتعود إلى غرفتها حتى تدرك أنه كان يفتعل الغضب.
ينتابها الغثيان. تجري إلى الحمام وتستفرغ. يؤسفها أن تستفرغ غداءها دون وجود أحد في الجوار ليلاحظ ذلك. إنه والكحة المتواصلة من الأمور المفضلة لديها لأنها استثمار جيد، فهي تجلب تعاطفا لا بأس به مقابل أقل قدر ممكن من الألم. على عكس الأمراض الحقيقية. وهو أمر يشاركها فيه التوأم على نحو أكثر تطرفا. ففيما يجد الآباء عادة صعوبة في إقناع أبنائهم بأخذ التطعيمات والعلاجات عبر الإبر، يتحمس كلاهما له بنفس القدر. فالإبر تعني أنهم مرضى لدرجة تستدعي اهتماما قد يصل إلى النوم في السرير الكبير بين والديهم.
كانت تتسلى وتسلي أصدقاءها بمثل هذه القصص عن الصغار. فكرت مرة بماذا سيحدث لو وُجدت الرغبة في الاهتمام، ولم يكن المرض في المتناول. لم يعد الأمر مضحكا.
خمسة أطفال، تبدأ أسماؤهم بحرف السين، اعتقد الوالدان أنه سيكون أمرا لطيفا، خصوصا مع التوأم، اللذين يرتديان ملابس متطابقة رغم اختلاف الجنس. كان للأم نفسها – والتي كانت سريعة النمو في طفولتها – أخت – بطيئة النمو – تكبرها بعام، وكانتا تبدوان كتوأمين، وترتديان ملابس متطابقة أيضا، لبضع سنوات على الأقل إلى أن اتسع الفارق، وأصبحت الصغرى بحاجة لملابس من هم أكبر من عمرها، والكبرى بحاجة لملابس من هم أصغر من عمرها. تزوجت الصغرى أولا، وأنجبت أولا، “لكن لماذا؟” هذا هو الإحساس المشترك الذي يجمعهما رغم الاختلاف التام في طريقة عيشهما. تقول الخالة حين تسألها سلمى لماذا لم تنجب: “لا أريد حين يوضع الطعام أن أكون مضطرة لإطعام شخص آخر قبل إطعام نفسي، سأكرهه، وبماذا سينفع هذا أي أحد في العالم؟”.
خمسة أطفال، هذا كثير بعض الشيء. الأطفال أنفسهم يشعرون بذلك أحيانا، خصوصا الابن الكبير الذي كثيرا ما يقول موجها كلامه لوالدته إنها كانت يجب أن تتوقف بعد الأول. أنها لا تبدي الموافقة، ولا المعارضة أيضا، ولسبب ما لا أحد يجد في ذلك إهانة.
والدها ينتظر في السيارة. فكرت سوسن بالانضمام إليه، إن له هذه العادة في الانتظار داخل السيارة حين تحين اللحظة المتفق عليها للانطلاق، ليس كنوع من الاستعداد بل لتسجيل موقف. انتظاره يقول إنكم أيها القوم متأخرون. هو يعلم أنه عمليا سيُعجّل انطلاقتهم لو دخل البيت وقدم المساعدة، وإنه فوق ذلك سيكون مرتاحا أكثر بدل إنهاك أعصابه، لكنه – رغم كل هذا – مصر على إعلان امتعاضه. وهو إذا ما تأخروا دقيقتين مثلا تمنى أن يتأخروا ربع ساعة أخرى، لأن هاتين الدقيقتين هما ثقل غريب إذا ما قضاهما منتظرا، لكنه لا يستطيع اختلاق شجار لأجلها دون أن يبدو سخيفا، لذلك يفضل تحمل ربع أو نصف ساعة أخرى ليكون من حقه تمرير ما اختزنه من إنهاك في لومهم، بدل التغاضي نهائيا عن المسألة.
ارتدت فوق ملابس السباحة روبا ذا غطاء بأذني ثعلب، ووضعت ملابسها الإضافية في الحقيبة المعلقة على ظهرها. اختارت – عندما ذهبوا للسوق – واحدة بأذني أرنب، لكن شراءها سيعني أن على أخيها أن يكون أرنبا، وهو أمر لم تجده الأم مريحا. فتحتْ الصفحة التي وضع عندها المؤشر. تحوي الصفحة صورة عجل في قفص ضيق، بالكاد يتسع له. في التعليق أسفلها، كتب أن أطول مسافة سيمشيها هذا العجل هو الطريق إلى المذبحة إذ تُحبس العجول الصغيرة في حظائر ضيقة لا تسمح بالحركة، حتى لا تتقوى عضلاتها، وبالتالي تكون هشة وذات عصارة عندما تقدم للأكل. أنهت الجملة وعادت للنظر إلى وجه العجل. فيما سمعتهم ينادونها للركوب.
انطلقت السيارة أخيرا، وبدأ والدها في محاضرته حول الالتزام بالوقت، وكيف أنهم لن يجدوا وقتا كافيها للاستمتاع بالبحر في ضوء النهار. واصل حديثه لبضع دقائق أخرى، فيما كانت تتمنى بينها وبين نفسها أن تكون أمها قد أعدت شطائر الجبن، بجانب شطائر اللحم. نظرت إلى الأمام باحثة عن وجه أمها، لكنها لم تره، إذ كان مصوبا باتجاه النافذة.
………………
*اللوحة للفنان العماني أنور سونيا