ملاكي الحارس

موقع الكتابة الثقافي writers 51
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ياسين هويسلر*

كل يوم

كل يوم نفس الشيء. أستيقظ في الصباح، أذهب إلي المدرسة، أعود، أتناول الطعام، أقوم بواجب المدرسة، أختفي في غرفة نومي، ثم أخيرا أستلقي في فراشي أفكر. أفكر في كل يوم يمر، كل شهر، كل عام.

كل يوم مشاعري هي هي لا تتغير. ممتلئة بالحسد والقسوة، بسبب الناس الذين يشقون طريقهم بسهولة بفضل ذكائهم أو جمالهم. بالكآبة، لأنني مهما فعلت، مهما جاهدت، لن أتمكن أبدا من مضارعة عظمتهم وتفوقهم. بالعزلة والانفصال، لأنني مهما حاولت لن أتواءم مع الآخرين. بالتوتر، لأن الكل ينظر إلي ، منتقدًا دائما، ساخرًا دائما. وبالإرهاق، لأنني سئمت كل ذلك. سئمت الناس، سئمت البلد، سئمت العالم.

كل يوم ترافقني صاحبتي الأثيرة. موردريد. موردريد تحميني من الأذى، تعرف ما هو خير لي، تقف في ظهري، تحتضنني حين أشعر بالحزن، تواسيني، تمر بيدها علي، تأخذني في كنفها، تبتلعني في ظلمتها الممتلئة بالسلام، وتقول لي إن كل شيء سيصبح علي ما يرام.

.

موردريد

ظهرت موردريد للمرة الأولى حين كنت في الثالثة عشر من عمري. في البداية أخافني مظهرها الغائم الغامض، الذي يشع سحرًا ينذر بأنه لن يغادرك. كنت، مقارنةً بها، هذا الحمل الهش الجريح، وهي فهد شرس، ضخم. لم أكن، وقتئذ، متأكدة تماما من سبب وجودها. حاولت كثيرًا ولكنها لم تشأ أن تذهب إلى حالها. كنت أبكي في الليل عاجزة عن فهم مرادها مني. حتى أنني لجأت إلى والديّ، نعم لجأت إليهما لأني كنت في حاجة إليهما وكان من المفترض أن أجدهما بجانبي يسريان عني حين أبحث لديهما عن الطمأنينة، ولكنهما لم يفعلا. فقط قالا لي إنها محض خيالات.

“هل يمكنني مساعدتك؟” بادرتها بالسؤال للمرة الأولى، وأنا أقوم بتمشيط شعري.

“لا أظن ذلك، ولكني أنا أستطيع”، أجابت بنبرة لعوب. كنت أرى انعكاس صورتها في المرآة.

“تستطيعين ماذا؟” سألت إذ لم أفهم ما تقصده.

“أن أساعدك”، أجابت بابتسامة عريضة سرت لها رجفة في بدني.

“لا أحتاج مساعدة منك، فلتذهبي من هنا ولتبحثي عن شخص غيري”. قلت وأنا أضع المشط على المكتب وأواجه صورتها في المرآة. ظننت أني أغضبتها إذ وجدت نظرتها التي كانت تشع بالرضا تنقلب إلي تحديقة مميتة، وإذ تنبهت للموقف الذي وضعت نفسي فيه رأيتها في المرآة تقف، طويلة مثل مارد، في مواجهة صورتي. أخذ قلبي يدق بسرعة لاهثة. جف حلقي وشرعت أتصبب عرقًا. بيد أن ما توقعته من انقضاضة وحشية تنهال علي لحمي تمزيقا انتهى إلى حضن دافيء مطمئن، إذ مالت على ظهري وطوّقَت عنقي بذراعيها وأسندت رأسها إلي رأسي. ها أنا أخيرًا أحصل علي ما ظللت طويلا أتوق إليه بكل جوارحي. “ما اسمك؟” سألتها وانا أقاوم ثقل جفوني. “موردريد”، أجابتني بصوت مفعم بالنعومة بينما كانت عيناي تغمضان تحت وقع نبرتها الأمومية.

 

مرآتي يا مرآتي

لم أكترث قط كيف يراني الآخرون. في الحقيقة كانت فكرة ان أغير من مظهري كي أحظى بقبول الآخرين أو إعجابهم، غريبة عني تماما. من أول الأشياء التي علمتني موردريد إياها بعد أن قبلتها في حياتي أن أتخفّى، أن أرتدي ابتسامة مصطنعة، ضحكة مصطنعة، وجهًا مصطنعا.

بدأ ذلك ذات اثنين. كانت السنة الثانية من دراستي الثانوية.

“هل ستذهبين هكذا؟” قالت بصوت مندهش بينما كنت على وشك أن أغادر إلى المدرسة.

“نعم.. ما الخطأ في ذلك؟“ سألت وحاجباي يرتفعان.

“حبيبتي، تعالي هنا” أجابت وهي تأخذ يدي وتسحبني نحو غرفة الحمام. أمسكت بكتفي وجعلتني أحدق في صورتي.

“ألا ترين؟”.

“أرى ماذا؟”.

“وجهك”.

“ نعم، نعم أراه، ماذا به؟” .

تناهى إلي سمعي صوت ضحكة تهكم قصيرة.

“حسنا، لابد أن أذهب إلي المدرسة، فهلا سمحتِ …”.

“وجهك. انه مرعب”.

“ماذا؟ ماذا قلتِ؟”. احمرّ وجهي خجلاً. لم يهينني أحد بهذه الصراحة من قبل. وضعت أصابعها الرشيقة على ذقني ورفعت رأسي إلي أعلى مرغمة إياي على النظر في المرآة مرة أخرى.

“ولكن لا تحملي هما، يمكننا أن نغير ذلك كله. سأعلمك أشياء، ولو استمعت إليّ سأجعلك سعيدة. والآن فلنبدأ بهذا”. قالت وهي تشير إشارة مبهمة نحو وجهي.

“حسنا، اخبريني. اخبريني ما بال وجهي؟”.

“بشرتك شاحبة، شفتاكِ جافتان ومتغضنتان، أسنانك في لون بول الحصان، عيناك مرهقتان، حاجباك متيبسان، ووجهك مبرقش بالحبوب والدمامل. أما شعرك فلا أعرف من أين أبدأ”. هتفت بنبرة هازئة.

“ حسنًا يمكنك أن تتوقفي الآن”. قلت محمرة الوجه والدموع تملأ عينيّ.

“كلا، نحن بالكاد قد بدأنا. مازال أمامنا جسدك المريع”، قالت وهي تقبض علي رسغي.

“قلت لك أن تتوقفي! فلتتوقفي!”، صحت وأنا أجثو على الأرض وأخفي وجهي في راحتيّ.

عندما أزحت يديّ عن عينيّ وفتحتهما كانت موردريد تقف فوق رأسي وفي يدها حافظة أدوات التجميل الخاصة بوالدتي. وضعت الحافظة إلي جوار الحوض وجذبتني لأنهض واقفة.

“أمامنا عمل كثير ولكننا سنجتاز ذلك معًا، اتفقنا؟”. أومأت بالموافقة ودموعي مازالت تتساقط ووجهي مازال متقلصا، كما لو انني طفلة وعدتها أمها بقطعة حلوى إن توقفت عن البكاء.

 

كنا أصدقاء

كانت كيتلين صاحبتي الأثيرة طوال العامين الأولين من المدرسة الثانوية. كنا نحن الاثنتان حديثتي العهد بالمدرسة وكانت كلتانا تسير في الطرقات هائمة على وجهها كما لو أنها داخل متاهة. كان الجرس قد رن وكنا الوحيدتين اللتين مازالتا خارج الفصول.

“وانت أيضا؟” سألَت ضاحكة.

“نعم”، أجبت بتنهيدة.

“التعليمات المكتوبة هنا تقول إن عليّ أن أتواجد في غرفة رقم ١٠٤، فصل السيد جيكوفسكي، ولكن ليس لدي أدني فكرة عن مكانه”. قالت وهي تمد يدها بالورقة المدون عليها جدولها الدراسي.

“وأنا كذلك”، قلت وأنا أضع جدولي أمام عينيها.

“معني ذلك أننا أنا وانتِ فاشلتان، أجابت. وظللنا واقفتين نضحك معا دون أن نلق بالا لكوننا تائهتين، فقد أدركت كل منا أنها وجدت الأخرى وأن كل منا ستصبح للأخرى الصديقة الأثيرة.

وصرنا كذلك بالفعل. كنا نتناول طعامنا معا، نجلس في الفصل متجاورتين، نذاكر معا، ونخرج معا ونتحدث عن الصبيان. كانت علاقتنا أثمن ما أملك، ومع ذلك نجحت في أن أفقدها.

جاء أوان توقفت فيه كيتلين. توقفت عن التسكع معي، توقفت عن التحدث معي، توقفت عن الاتصال بي، توقفت عن تناول طعامها معي.

لم أفهم ما الذي ارتكبته حتى تستاء مني، ولم تواتني الفرصة لأواجهها بهذا الشأن، فقد كنت كلما صادفتها في المدرسة -الأمر نادر الحدوث في حد ذاته- أجدها وفي صحبتها بنات أخريات، تضحك، وحين تراني، ترسل تجاهي تلك النظرة الجامدة المسممة، وكأنني انتهكت الحدود بيننا.

بيد أن موردريد كانت تخفف عني. شرحت لي أن كيتلين لا تحبني لأنني لست جميلة أو جذابة مثلها وأن كيتلين أدركت أن بوسعها اكتساب عدد أكبر من الصداقات لو أبعدتني من جانبها. لا مكان لي بين أصحابها، وهذا أمر محزن حقا بيد أن عليّ أن أقبله. أخبرتني موردريد أن كيتلين تشعر معي بالملل وأن صداقتنا لا تعني لها ما تعنيه لي. وما تقوله مورديد هو الحقيقة لأن موردريد لا تكذب أبدا. صداقتي أنا وكيتلين كذبة، كذبة من طرف واحد، وكان الغدر نصيبي منها.

 

أحضان وقبلات

المطر يهطل في الخارج والغيوم القاتمة تغطي زرقة السماء. قدر قليل من أشعة الشمس قد نجح في اختراق جدار الغيوم السميك وألقى ببعض الضوء على الأرض. السيارات تطلق آلات التنبيه في الخارج، وصوت طرطشة المياه تحت أقدام الأطفال التي تتقافز في برك الأمطار وهي تضحك انتزعني من النوم. أنصت إلي صوت المطر الرتيب الذي أحبه. كان علي أن أذهب إلي المدرسة ولكنني لم أكن أرغب في ذلك. اعتدلت جالسة في فراشي وفردت ذراعيّ وملت برأسي يمينا ويسارا لأطقطق عنقي. كانت عيناي نصف مغمضتين. عندما حاولت النهوض تعلقت موردريد بذراعي وجذبتني مرة أخري تحت الأغطية وهي تلف ذراعيها حول خصري.

“ينبغي أن أذهب”.

“أعرف، ابقي هنيهة فقط”.

“حسنا”.

 

سيدة الظلام

 

خمسة أيام وأنا لا أغادر البيت. تلاشت أي رغبة لي في الخروج. لم أكن أريد أن أتعرض لانتقادات موردريد من جديد، لم يكن لي أصدقاء، مرهقة الجسد ومجهدة الذهن، والداي قلما يتواجدان في البيت، فلزمت البيت قابعة بين ذراعي موردريد. تركتها تبتلعني في ظلامها متلهية عن آلامي الموجعة.

“ستعتنين بي، أليس كذلك؟”

“دائما”.

موردريد كانت بمثابة أم لي، بل كانت ملاكي الحارس. كنت أثق فيها وأعرف أنها ستقوم بحمايتي، لأنها تحبني. إنها الوحيدة التي تحبني في هذا العالم الكئيب. الوحيدة. لا أتذكر متى قابلتها للمرة الأولي. أكان ذلك منذ عام؟ أو ربما اثنين؟ هل كانت هنا عمري كله وأنا لم أكن أعي ذلك؟ لم أعد أعرف.

 

اللاشيء

 

قررت أن أقتل نفسي. ظللت أفكر في ذلك طول العام المنصرم، وأنا أرقب كل يوم يمر، ودرجاتي في المدرسة تزداد سوءا، وأنا أفقد الإحساس أكثر فأكثر، وأنا أدرك أن وجودي لا يهم أحدا. حتي أنه لم يعد يهمني.

موررديد شجعتني على ذلك. أن أنهي كل شيء.

ثمة منعطف في شارع بليفرز يتعين عنده توخي الحذر أثناء عبور الطريق، إذ ليس من الممكن أن تلمح السيارات القادمة من الاتجاه الآخر. وهكذا يوم الأربعاء رتبت غرفة نومي، وتركت رسالة لوالديّ الغائبين، وغادرت المنزل، وأوصدت الباب، وأخذت نفسا طويلاً من نسمات الصباح الباكر. كنت لمرة واحدة في حياتي واثقة من قراري وراضية عنه. كنت أعرف أن هذه هي الخطوة الصائبة وكذلك كانت موردريد تعرف. قطعت شارع بيكر سائرة علي قدمي، وانعطفت يسارا وعبرت جسر هامرفيلد، تاركة خلفي بحيرة كينتون ثم تمثال سانت جورج، وأخيرًا ها أنا أقف في شارع بليفرز. أمسكت موردريد بيدي وأومأت برأسها. كنت مستعدة. عرفت ذلك لأنني لم أعد أشعر بالخوف. أخذت نفسا عميقا وأعرت أذني إلي صوت السيارات. سمعت واحدة تقترب. نفس عميق آخر. خطوة للأمام. خطوة أخرى. خطوة ثالثة. و…

“ماذا تظنين نفسك فاعلة، بحق السماء؟!”. صوت فتاة تصيح من خلفي، وفجأة يد تسحبني إلى الرصيف. كانت كيتلين.

“هل فقدتِ عقلك تماما؟”.

“ولِم تكترثين؟ فقط دعيني لشأني يا كيتلين”.

“ماذا تقصدين؟ لقد كنتِ علي وشك الموت الآن وفي هذا المكان”.

“نعم. أشكرك على توضيح ما هو بديهي. والآن انصرفي”.

“لا أفهم.. لماذا كنت تريدين … ؟”

“أريد ماذا؟ أن أقتل نفسي؟ حقا؟ ربما -لو لم تكوني قد لاحظتِ بعد- لأن حياتي كريهة. نعم كريهة، ولأضف إليك معلومة، لقد كنتِ من أفضل ما في حياتي. كانت صداقتنا ثمينة جدا بالنسبة إليّ، الشيء الوحيد المهم، وأنتِ انتزعتِها مني. تمامًا! ولمجرد أني لم أكن أليق بقدرك، أو لست جميلة بما يكفي، أو لست أثير الإعجاب بما يكفي، أليس كذلك؟”.

“لورين، ليس هذا السبب في افتراقنا”، قالت وهي تخفض عينيها.

“حقًا كيتلين؟ لماذا إذن يا كيتلين، لماذا؟” شعرت بغصة في حلقي وسالت الدموع على وجهي.

“أنتِ تغيرتِ. هل فهمتِ؟ صرتِ شخصا لا أعرفه. لم تعودي لورين التي صادقتها في العام الأول من التحاقنا بنفس المدرسة. كانت بيننا صلة حميمة أنا وأنتِ، ثم.. انتهت فجأة. أعتقد ان ذلك بدأ في العام الثاني. شرعتِ تضعين مكياج ثقيل لدرجة أني لم أعد أتعرف على شكلك. وحينما كنا نتحادث كنت اشعر ب.. بالكذب، كما لو أنك لا تقولين الحقيقة الكاملة، لا تقولين كيف تشعرين بالفعل. فظللت أحاول الاتصال بك، أو أبعث برسائل هاتفية، أو أمر ببيتك، بيد أنني لم أشعر بأنك تبالين بالمرة. كنتِ بعيدة تمامًا، وآلمني ذلك جدا، آلمني أنه لم يعد بوسعي أن أصل إليكِ، آلمني أن أشعر أنني وحدي الذي أبذل الجهد في حين كنت أنت تواصلين انزلاقك من بين يديّ. وهكذا توقفت ذات مرة، تماما كما فعلتِ أنتِ”.

شرعت لورين تبكي الآن هي الأخرى. “لقد كنتِ أقرب الناس إليّ، وأنا أقربهم إليكِ. تعرفين؟” قالت وهي تبكي وتسعل.

“أعرف”، أقررت وانا أنتحب.

فجأة أحسست بيد باردة تزحف علي ظهري، مثيرة رجفة في بدني. كانت موردريد.

“انظري إليّ، حبيبتي”، قالت وهي تمر بيدها علي وجنتي في حين كانت ظلمتها تلتف حول جسدي.

تطلعت في عينيها ذات النظرة الفارغة.

“أنت مثيرة للشفقة،” قالت في غضب. “هل حقا سوف تدعينها تتلاعب بك مرة أخرى بعد كل ما فعلته؟ ألم تتعلمي شيئا؟ الزمن الذي قضيتِه معي لم يعلمك شيئا؟”

“إنها لا تكذب.. ماتقوله حقيقي ولكني لم أستطع أن أعي ذلك. أنا.. نعم أنا التي تغيرت، منذ.. منذ أن بدأتِ تظهرين. هي فعلا حاولت أن تساعدني، أتذكر الآن. إنها غلطتك أنت، أليس كذلك؟ أليس كذلك ياموردريد؟ إنها غلطتك. كلا، غلطتنا معًا. غلطتك لأنك ظهرتي أصلا، وغلطتي لأني تركتك تتلاعبين بي بهذا الشكل”.

“إنها تكرهك، أيتها المخلوقة المثيرة للاشمئزاز! تكرهك! كل شيء عرفتِه قبل أن أظهر لم يكن سوى كذبة!”صرخت في أذني. ولم يعد بوسعي أن أتحمل المزيد.

“توقفي! اتركيني وشأني! انصرفي! أرجوكِ! لم أعد أريدك هنا! ابعدي عني!” صرختُ وأنا أقبض بكلتا يديّ على منابت شعري.

“لورين، هل أنت علي ما يرام؟” سألت كيتلين في قلق وهي تهرع إلي جواري.

“أرأيتي؟ تريد أن تتلاعب بكِ، هذا كل ما تريد أن تفعله!” واصلت موردريد صريخها وهي تمسك برقبتي وتضغط عليها أكثر فأكثر. لم أعد أتمكن من التنفس. أخذت أشهق بحثًا عن الهواء بلا جدوى.

“لورين!” صاحت كيتلين وهي تمسك بكتفي وتهزني.

فاق الأمر الاحتمال ولا بد من أن ترحل مورديد، لابد. شعرت بالغضب يغلي بداخلي ويصعد إلي السطح. لم يعد بوسعي التحكم في يديّ. تولت غرائزي الزمام وأصبح جسدي طوع عواطفي الخارجة عن السيطرة. احتضنت جسد مورديد بقوة، بقوة جعلت ذراعيها الممسكتين بي ترتخيان. رفعتها إلى أعلى صوب السماء. شعرت بها تحاول المقاومة. قلصت ذراعيّ ثم قذفتها بكل ما لدي من غضب على قارعة الطريق في اللحظة التي كانت سيارة تمر، وتحمل إلي أذني صوت بوق وعظام تتكسر، صوت مُرضٍ إذ عرفت في تلك اللحظة أنني أصبحت حرة. عرفت أن مودريد ذهبت، وأخذت أبتسم في رضاء تام. التفتّ بجسدي صوب كيتلين لأعانقها، بيد أن ما كان في انتظاري لم يكن ملمس بشرة كيتلين الدافئة، وانما، بدلا من ذلك، أحسست بحضن مألوف. حضن بارد ومظلم، وناعم ومريح في الوقت نفسه. رفعت رأسي متطلعة إلي وجه كيتلين.

سقط قلبي بين ضلوعي.

“أهلا حبيبتي”، قالت موردريد بابتسامة.

“ولكن.. ولكن…”. قلت متلعثمة وأنا أحول نظري إلى الشارع. ما رأيته كان مشهدا مروعا. جسد كيتلين، بلا حياة، عينين مفتوحتين علي وسعهما، دم أحمر قاني يحيط بجسدها، أطراف منخلعة، عظام منسحقة، كدمات وجروح منفتحة.

سقط فكي من الذهول وشعرت بروحي تنسل خارجة من جسدي. سمعت صوت تصفيق من خلفي.

“أحسنتِ، أحسنتِ بالفعل. كنت أعرف أنك تثقين بي، لأنني -ولتتذكري ذلك دائمًا- أعرف ما هو خير لكِ،” قالت.

أغمضت عينيّ وجثوت أرضًا تاركة إياها تلفني في غلالاتها الساحرة. وأدركت في تللك اللحظة أن موردريد لن تغادرني أبدًا.. أبدا.

__________________________________________

*كاتب من مصر.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون