نفايات بشرية

صبري حجاجي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صبري حجاجي
يستيقظ السيد “إكس “صباحا بمزاج سيء،يقف أمام الحنفية التي تحتوي أزرارا عديدة :ماء حليب قهوة سوداء، عصائر إلخ..
يطلب قهوة سوداء مرة يجلس أمام حاسوبه و يشغل صوت الموسيقى، ينبعث صوت فيروز مبددا وحشة المكان: “يا طير يا طاير على طراف الدني، لو فيك تحكي للحبايب شو بينا يا طير..”
يرن صوت قادم من الحاسوب منبها “السيد إكس” أن وقت العمل قد حان، يفتح الشاشة و يبدأ في العمل.
يشتغل “السيد إكس” كالملايين من البشر الذين ظلوا على قيد الحياة بعد موجة الأوبئة المتكررة التي شهدتها الإنسانية خلال هذا القرن “مهندس برمجيات و إعلامية ” و يعمل على تطوير برامج تسمح بتوفير كل ما يحتاجه الناس دون أن يضطروا إلى الخروج من ديارهم.

نسيت أن أخبركم أن “السيد إكس” رجل ثلاثيني يعيش لوحده في شقة ضيقة في الطابق الثاني و لديه قطة بيضاء تؤنس وحدته و شرفة جميلة مليئة بالنباتات.
رن منبه هاتفه، أنها الساعة العاشرة صباحا، موعد مرور شاحنة النفايات، أطل من النافذة، رأى الرجل الآلي ينتظر تحت تحت شرفة بيته، أنزل بواسطة المكان المخصص لذلك كيس القمامة فحمله الرجل الآلي وأشار لزميله الذي يقود الشاحنة أن يتقدم. كل شيء صار مضبوطا في البلد منذ أن تقلص عدد السكان إلى الثلث، اختفت مشاكل البطالة و التلوث بعد موجة الوباء المتكررة بشكل دوري.

قام الرجل الآلي بتعويض الإنسان في كل الإشغال اليدوية التي تتطلب الخروج…
سعت الحكومة جاهدة طيلة السنوات الماضية إلى الحفاظ على كل الأشخاص من ذوي الكفاءة المهارات العالية في مجال البرمجيات والتكنولوجيا حتى يقوموا بتأمين صناعة “الروبوتات”، أما البقية فقد تركتهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم
قامت الحكومة بالاستغناء عن خدمات رجال الشرطة بعد أن ارتكبوا أعمال سلب و نهب و قتل حين اشتدت الجائحة مستغلين امتلاكهم لأسلحة نارية و قامت بتعويضهم بتركيز رجال شرطة آليين مهمتهم قنص و إطلاق النار على كل شخص يخرج من بيته دون ترخيص إلكتروني.
مات الكثيرون و هم يحاولون الخروج للبحث عن ما يأكلونه ومات آخرون جوعا داخل ديارهم وهم يشاهدون من شرفات منازلهم جثث الذين قام الآليون بقنصهم…
الحكومة عبر رجالها الآليين كانت تكتفي في البداية بتوصيل الأكل للجميع ومن ثم فقط للذين يملكون القدرة و الذكاء على تقديم شيء مفيد للمجتمع أما الآخرون فلا حاجة لها بهم…

صار العالم كله موبوءا باستثناء مكان واحد، جزيرة في أقاصي المحيط الأطلسي لم يستطع الفيروس أن يقتل أهلها، حين تفطن سادة العالم إلى ذلك قاموا بإبادة السكان الأصليين للجزيرة وجعلوا منها مقرا لهم، لم يتوصل العلماء إلى اليوم إلى سبب مناعة الجزيرة من الفيروسات القاتلة التي تكاثرت في القرن الأخير.
أطلق على الجزيرة اسم “الجزيرة الوردية”، كانت أشبه بمنتجع كبير يسكنه الرؤساء وكبار الأثرياء الذين يديرون العالم الخارجي من وراء حجاب اعتمادا على التكنولوجيات الحديثة، شكلوا حكومة عالمية لإدارة الأزمة وواصلوا حياة البذخ و المجون المعتادة.

حين تقلص عدد السكان كثيرا ولم يبق سوى الثلث تقريبا قامت الحكومة بتوصيل المنازل بحنفيات تنزل كل ما يحتاجه الجسم من السوائل و صار بإمكان الجميع اقتناء ما يريدونه عن بعد، يكفي أن تختار ما تريد وسيقوم “الرجال الآليون ” بتوصيله معقما إلى بيتك..
رن صوت الحاسوب مرة أخرى، إنها الحادية عشرة صباحا، يصرخ صوت منبعث من الشاشة : لديك اجتماع عمل !
يجري مسرعا نحو خزانة ملابسه التي تحتوي عشرات القمصان البيضاء التي تقوم الحكومة بتوزيعها على موظفيها، يرتديها على عجل و يجلس مرة أخرى كي يفتح الكاميرا.. يبدو منظره مضحكا و هو بتبان داخلي و قميص و لكنه كآلاف الموظفين الذين يشتغلون داخل منازلهم منذ سنوات.

الواحدة بعد منتصف النهار انتهى وقت العمل لهدا اليوم، يفتح السيد أكس البراد، ليأكل بعضا من الطعام المعلب الجاهز، لا رغبة لديه بالأكل ولكن كان لا بد أن يأكل شيئا يسد به رمقه.
أغمض عينيه لوهلة، تخيل وجه حبيبته القديمة جالسة أمامه، وهما يأكلان في مطعم شعبي و يضحكان كطفلين صغيرين
تنهد تنهيدة عميقة ولعن الحكومة ورجالها الآليين الذين قاموا بإطلاق النار عليها لأنها خرجت دون ترخيص الكتروني
انحدرت دمعة حارة من عينيه، ذهب إلى المغسلة قام بسكب الماء البارد على رأسه ومن ثم قام بسكب كأس من الويسكي و نادي قطته وظل يداعبها حتى أخذه النوم.

استيقظ على أصوات تأوهات قادمة من الشقة المحاذية له. تذكر أن جارته التي تقطن لوحدها تفعل ذلك دائما و تمارس الجنس الافتراضي مع حبيبها الذي لا تستطيع رؤيته بسبب الحجر الشامل المتواصل منذ سنوات طويلة.
شعر بأن عضوه بدأ بالتمدد والانتصاب، مضى زمن طويل منذ آخر مرة مارس فيها الجنس، ربما خمس سنوات أو أكثر حين سمحت الحكومة لبعض موظفيها بلقاء شخص واحد لأن الأوضاع الصحية تحسنت قليلا قبل أن تنتكس مرة أخرى و بشكل حاد..
لا رغبة لديه في الاستمناء أو مشاهدة أفلام البورنو الرخيصة التي صارت تثير قرفه،صار الأمر مملا.. لا شيء يعادل ملامسة جسد بشري تتدفق فيه الدماء الحارة.. فتح “آلة الجري” وبدأ بالركض حتى أصابه الإنهاك.

استلقى على الأريكة وفتح الفايسبوك،لا شيء جديد نفس المعارك القديمة منذ عشرينات القرن الماضي : بعضهم يصلي كي يرفع الله عنا البلاء و يسب الكفار و الملحدين الذين يعاقبنا الله بسببهم، في حين يقوم “اللادينيون” بالسخرية من المتدينين قائلين : ها قد مضت ثمانون سنة على أول موجة للوباء و أنتم تتضرعون للسماء ولكنها لم تستجب لكم..
مجموعات فايسبوكية أخرى لنشر النقاط والميمز والصور الشبه عارية… المشهد هو ذاته تقريبا منذ ثمانين سنة، لا شيء تغير..
الشيء الوحيد الذي تغير هو حجم التباعد الاجتماعي بسبب قدرة الفيروس الرهيبة على العدوى و الفتك، لا يسمح لأحد برؤية الآخرين، الكل يعيش وحيدا داخل بيته..

توقف كل شيء تقريبا حتى الأموات تأخذهم الحكومة عبر رجالها الآليين لدفنهم أو حرق جثثهم..
حفلات الزواج وأعياد الميلاد والأعياد الدينية انتهت تقريبا.. غابت كل مظاهر الفرح في العالم كله باستثناء الجزيرة الوردية التي ظلت لغزا محيرا.
لم يعد هناك مواليد جدد يبثون المرح و البهجة لدى الناس، و حتى فكرة العائلة انتهت تقريبا، الكل يعيش داخل أقفاص مجهزة بكل ما يلزم..
الحكومة تتحكم في “إنجاب الأطفال” حسب ما تحتاجه هي كي تحافظ على النسل البشري، تحتفظ بسوائل منوية مختلفة و بويضات أنثوية تقوم بتلقيحها اصطناعيا حين تريد أن تقوم بتعديل النمو الديمغرافي، ومن ثم وضعها داخل أرحام النساء حتى يحلبن و يلدن مواليد حسب الطلب تقوم الحكومة فيما بعد بتربيتهم على مبادئ السمع و الطاعة و الولاء لها

29 ديسمبر 2100 :
مرت شاحنة البلدية تحت منزل السيد إكس في موعدها المعتاد لكنها لم تجد شيئا تحمله، في اليوم الموالي مرت الشاحنة لكنها لم تجد شيئا أيضا..
ليلة رأس السنة، تلقت الشرطة الالكترونية إشعارا من أعوان النظافة الإلكترونيين مفاده أن “السيد إكس” لم يقم بإخراج فضلاته منذ ثمان و أربعين ساعة.
قاموا باقتحام الشقة، وجدوا “السيد إكس” مشنوقا بربطة عنقه، كانت جثته تتدلى من السقف وقد فاحت رائحتها في الأرجاء، قاموا بتغليفه في كيس بلاستيكي كبير و وضعوه داخل شاحنة النفايات.
في الليل كانت الألعاب النارية تزين سماء الجزيرة الوردية، كان سادة العالم و أثريائه يشربون النبيذ ويرقصون احتفالا باستقبال العام الجديد، كانت رائحة الشواء تفوح في كل مكان.
في مصب النفايات كانت رائحة الشواء أيضا تملأ المكان ولكنها كانت رائحة احتراق جثة “السيد إكس” مع النفايات تفوح في الأرجاء.
..
19/10/2020

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون