الرجل الذي كره رائحته

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

كثيرون لا يعرفونه، والذين يعرفونه يقولون إنه من النوع الذي لا ننجح أبدا في رسم صورة واقعية عنه، فهو شخص متحول، متعدد الأقنعة ويلبس لكل حال لبوسها، في كل مرة يغير وجهه، يغير ملامحه، يغير ملابسه، حتى صوته يتغير، أحيانا يبدو مظهره أنيقا، حليقا ووسيما، رياضيا وجذابا، وأحيانا يبدو مترهلا سمينا وبشعا.
أما اسمه الحقيقي فلا أحد يعرفه، الناس ينادونه (الدرك)، هو اسم غريب وبدون معنى، ولكن الذين يعرفونه عن قرب يقولون إن الأمر يتعلق بالنصف الأول من اسم شهرته، وأن أصدقاءه القريبون جدا لا يجدون حرجا في المناداة عليه باسمه الجهنمي الكامل (الدرك الأسفل).
يقال إنه أعزب أبدي، لا زوجة، لا أبناء، لا عائلة، وأنه عاش وحيدا فريدا مثل لغز، ويقال أيضا إنه تزوج في الماضي مرات عديدة، وله أبناء كثيرون منتشرون في كل مكان ولكن لا أحد يعرفهم، وأن أبناءه أيضا تزوجوا وتكاثروا، تكاثروا إلى درجة أنه هو نفسه لا يعرفهم ولا يستطيع أن يعدهم، وأنه لسبب ما لا يحبهم، وعندما يتحدث عنهم يستعمل تعبيرا قاسيا (زريعة الحرام) في إشارة إلى أنه لا يعترف بهم.

هو عادة يخفي مشاعره السلبية، يدفنها بعيدا في أعماقه، ولكنها أحيانا كثيرة تختمر، تنمو، تكبر، تفيض، تطفو على السطح، وعندما تخرج للعلن يبدو هو شخصا مريضا حقودا وبشعا، وتبدو هي تركيبة رهيبة من العقد والحقارة والقسوة المجانية.
ومع ذلك فهو شخص منسجم ومتصالح تماما مع ذاته، لا يهتم كثيرا بمسألة الخير والشر، ولا يهمه أن يتألم الآخرون، أن يتعذبوا، أن يموتوا حتى، ففي لحظات الصفاء يعترف أمام نفسه وأمام الآخرين أنه يكره الناس، يكره الجميع، يكره الفقراء، يحتقرهم، ينظر إليهم دائما من الأسفل، ينظر إلى أحذيتهم المطاطية، ثم يرفع بصره صعودا، يتقزز، يشمئز، يتمنى لو يسحقهم بحذائه كما لو كانوا صراصير قذرة، أما الأغنياء فيحسدهم ويحقد عليهم.
يبدو الأمر طبيعيا ومفهوما تماما، فقد لازمه الفقر لسنوات طويلة جدا، فقر مزمن وعنيد يلتصق بجلده مثل العلق، مثل الذباب، مثل اللعنة.
أصدقاء طفولته، يقولون إن الفقر ليس هو السبب الوحيد لحالته، ولكنه كان تربة خصبة نمت فيها بذور الشر، ترعرعت، أينعت، أزهرت وانغرست عميقا بداخله.

يمر الزمن، وتدريجيا يصاب الرجل بنوع من التشوه والمسخ الرهيب، تسكنه مشاعر بغيضة يمتزج فيها الحقد والغل والحسد، كان ذلك المسخ بطيئا، طويلا ومريرا، في البداية اسودت أولا ملابسه، شبت فيها الحرائق، ثم بعدها اشتعلت النيران في جسده، ثم انتقلت شيئا فشيئا إلى كيانه، فتفحمت روحه من الداخل، نيران تستعر، تتأجج، تضعف أحيانا، تخبو وتهدأ أحيانا أخرى، ولكنها لا تنطفئ أبدا، حتى الكلمات كانت تخرج من فمه مصحوبة بسحابة دخان شديدة السواد.
ويوما بعد يوم، كانت كتلة السواد تكبر بداخله.
يقال إنه اكتشف حالته بالصدفة ذات مساء.
قبل أن يأوي إلى فراشه، وقف أمام المرآة ينظر، رأى نفسه – كما يحدث في الأحلام – يطل على بئر مهجورة، بئر سحيقة وبلا قرار، ألقى نظرة فراعه ما رأى، راعه حجم الخراب بداخله، خراب كبير، نار وجمر ملتهب، دخان أسود، مياه آسنة، ورماد كثير..
..
تقول الحكاية.
إنه بعد سنوات انتهت رحلته مع الفقر أخيرا، ونجح في الحصول على وظيفة في شركة كبيرة يملكها شخص مشبوه يسمى (رجمان)، في البداية اشتغل لفائدته وكيلا مكلفا بالأعمال والصفقات القذرة، ثم مع مرور الوقت أصبحا صديقين، ثم أصبحا شريكين، ومن يومها بدأت أحواله المادية تتغير.
تاجر في البداية برصيده الفقير من الكرامة، البعض يقول إن ثروته نمت بسبب تجارة الرماد، بالنسبة للكثيرين، يبدو الأمر غريبا ومستعصيا، فلا أحد يعرف لم أصبح الرماد غاليا ونفيسا؟ ولا أحد يعرف من أين اكتسب فجأة هذه القيمة الغامضة؟
مرت سنوات أخرى.
فتح الرجل محلا لبيع المتلاشيات والخردة، ثم أصبح مشهورا، أصبح واحدا من كبار تجار البلد، يتاجر في العقار، والذهب، والبشر، وفي الدين، والسياسة، والنسب، والشرف، والأخلاق، وفي أعراض الناس، وفي كل الأشياء القابلة للتجارة…
يقال – والله أعلم – إنه تعلم أصول الحرفة من مرابين قدامى وأصحاب خبرة، يسري الجشع في دمائهم منذ الأزل، فكان يشتري عندما تضيق أحوال البلاد والعباد، ويبيع عندما تزداد ضيقا واختناقا.
ثم ازدهرت تجارته، توسعت أكثر، اقتنى جرائد ومجلات ومواقع إخبارية، اشترى أيضا خبراء ورجال إعلام، ضمهم إلى ممتلكاته وكلفهم بتلميع صورته، أصبح شخصية عمومية ورئيسا شرفيا في كثير من الأحزاب والمنتديات، وعضوا فاعلا في الجمعيات الخيرية ووجها من وجوه العمل الإحساني والمبادرات التي تحارب الفقر والهشاشة وتروم بناء التنمية البشرية، ولأنه أصبح غنيا بشكل فاحش، فقد كان يحيط نفسه بكل مظاهر الجاه والسلطة والنفوذ والكثير من البهرجة للتأكيد على مكانته الاجتماعية المتميزة.
انقسم الناس بصدده إلى طوائف وفرق، الأغنياء يعتبرونه نموذجا يحتذى، يتمنون أن ينالوا حظا من ثروته القارونية، بعضهم يتمنى لو تذوب تلك الثروة، لو تنصهر، لو تجري وديانا وتصب في خزائنهم، أما الفقراء فأمرهم مختلف، بعضهم يقتسمون معه نفس الأصول الطبقية، ونفس الجينات، ونفس الأعطاب الداخلية التي لا تقبل الترميم، لذلك يحسدونه، يحقدون عليه ويتمنون موته.
أما هو، فيشعر أحيانا بالسعادة، يغمره إحساس مريح، يتخيل أن الله يحبه، يعطف عليه، يحيطه برعايته، لذلك خصه بكل هذ المال وهذه الثروة، وأحيانا يعود إلى ذاته، إلى دواخله، يشعر بالحزن، يكتئب، يفكر أن الله لا يمكن أن يكون شريكا في ثروة حرام وقذرة.

يختفي لأسابيع، أحيانا لشهور، ثم يظهر، يظهر فجأة وكأنه يعود من سفر بعيد وطويل، يتجول، يجوب المدينة طولا وعرضا، يحضر المناسبات الاجتماعية كلها، أفراح، أحزان، مآتم، مآسي، يحرص على صورته، يرممها، يريد أن يبدو رجلا كريما ومضيافا، ينظم الحفلات والولائم، يستدعى إليها الأصدقاء والفقراء والمتزلفين وذوي الحاجات…
موائد باذخة وفي منتهى الكرم.
منذ سنوات قرر أن يذهب إلى الحج، أقام وليمة فخمة بالمناسبة دعا إليها رهطا من معارفه وأصدقاءه الخلص، جلس يتأملهم، ينظر إليهم وهم يأكلون ويشربون، التفت إلى الفقيه بجانبه، اقترب منه، خاطبه بصوت خفيض وهامس.
– أسي الفقيه، لقد نويت الحج هذا العام، وكنت أود أن أسألك…
– …؟؟
ينصت له الفقيه، يستمع دون أن يتوقف عن مضغ الطعام.
– أنت تعرف أن أموالي ليست كلها خالصة، فهل يجوز أن أحج بها؟
أطرق الفقيه للحظة، ظل صامتا، بدا وكأنه يفكر أو يهيئ جوابا مناسبا، أنهى لقمته، بلعها، وراح ينتقي شرائح فاكهة مقطوعة، فاكهة لذيذة وملونة يأكلها لأول مرة في حياته.
– ثروتك ستكون خالصة إن شاء الله…
ينظر الفقيه إلى المائدة، يتأمل أصناف الطعام، يرفع كأس العصير إلى شفتيه، يفرغها في جوفه، ويتمم كلامه.
– أنت رجل كريم، تحب العلماء والفقهاء وحملة كتاب الله وتدعوهم إلى طعامك، فقط أمهلني يوما أو يومين، سأنظر في كتبي، وإن شاء الله سأجد حلا للمسألة.

منذ مدة، انتشرت في المدينة إشاعة غريبة تتحدث عن رائحة كريهة وغامضة، رائحة تنبعث من موائده، تنبعث من ملابسه، تنبعث بالخصوص من كفيه، وتختلط بكل مظاهر البذخ والثراء والغنى الفاحش، رائحة قذرة، منفرة، خانقة تحبس الأنفاس، يقال إنه هو نفسه لم يعد يطيق تلك الرائحة، فقد أفسدت عليه حياته وحولته إلى شخص مريض، مهووس ومنبوذ.

في المرة الأخيرة رآه الناس يخرج من المسجد الكبير بعد صلاة العصر، يصافح الناس، يصافحونه، بعضهم يتفاداه، البعض ينحني أمامه، يتمسح له تزلفا، والبعض الآخر يلقي التحية بخفة ويبتعد، أما هو فيسحب كفه وينظر إليهم خلسة، يرصد ردة فعلهم، يقرأهم ويقيس درجة التقزز والقرف التي ترتسم على وجوههم.
ثم يمشي في خطوات سريعة، يبتعد، يركب سيارته الفاخرة، يمد يده في حركات عصبية، يضغط على الأزرار، ينزل الزجاج، ثم يضغط عليها ثانية فتنفتح النوافذ عن آخرها، يعب الهواء، يتنفس بعمق، يلتفت يمينا ويسارا، وعندما يطمئن أنه وحيد، يرفع كفيه إلى وجهه، يرفعهما إلى أنفه، يتشممهما، ترتسم على وجهه الخطوط الأولى لتعبير غريب، تعبير قاس مؤلم وفظيع.
يدير المحرك ثم يمضي.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

ناجية

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

ثلاث قصص

آية الباز
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ظُلمــة