الربطة الزغبية

عزيز ستراوي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 عزيز ستراوي

والآن بعد أن شفيت، ونهضت على قدمي جاءت لحظة الحسم.
أقف أمام المراة والموسى في يدي. بداخلي أسمع صرخة ساخطة مدوية: – هيا اجهز عليها وتخلص منها! وجدت نفسي أعيد تشخيص دور روبرت دينيرو في فيلم “تاكسي درايفر” حينما كان يقف أمام المرآة يختبر قدرته على القتل مصوبا فوهة المسدس إلى عدو مفترض.

وأنا أيضا كلي فورة ملتهبة من الغضب. المرآة أمامي لا تكذب. عضلات وجهي مشدودة وعيناي كالجمرتين. – ماذا تنتظر أجهز عليها وتخلص منها ! نعم سأفعل وقراري لارجعة فيه. ثقوا بي. لست مجرما ولاسفاحا، ولكن ثمة ألف سبب وسبب يدفعني للتنكيل بها، واليكم قصتي بالكامل:
لا أنكر أنني أحببتها. اعتقدت في البداية أن ارتباطي بها سيجعلني أتخلص من رعونة الشباب، وأتحول في أعين الناس إلى رجل محترم، وقور. لكن هذه المشؤومة لما دخلت حياتي ضربتني الجوائح من كل حذب وصوب.

تنكرت لي أسرتي لأني رفضت الزواج بنسيمة والإشراف على حظائر الدجاج التي في حوزة أبيها، وأثناء وقوفي ورفاقي الأساتذة للاحتجاح نطالب بحقنا في الترسيم والترقية خرجت من المظاهرة وكأني حزمة من المتلاشيات مهدودا أجرجر ساقي المعطوبة الى البيت. لزمت الفراش مدة طويلة.

في هذه الأثناء مات طائر الحسون الذي كنت أستمتع بتغريده، واختفت “نعوم” قطتي السيامية الجميلة، وعن آخرها تيبست أزهار الجرانيوم التي كانت مفخرة شرفتي. لملمت أوجاعي في صمت وقلت ستفرج، لكن هيهات! تكسرت جرة العسل فوق رأسي: أقصد نفدت كل مذخراتي المالية، وحينها غرقت غرقا في وحل السلفات. حزنت وابتأست، فتلبستني حالة اكتئاب سوداوية عصفت بحياتي، وأطفات آخر شمعة أمل كنت أخبئها بين ضلوعي وجوانحي.

اللعينة استغلت الوضع، خرجت عن طوعي. تطاولت علي وتجبرت، ولم تعد تستحس. فضحتني،وعكرت ماء وجهي لما بدأت تتبرج وتكشف محاسنها أمام اصدقائي،وتتحرش بهم عندما يأتون للسلام علي،وتفقد حالتي الصحية.كنت مسلوب الإرادة وقد استحال علي ردعها. وجدتني أشبه بفزاعة معطوبة لا طائل منها تستبيحها الطيور تتتقافز فوقها وتطرح عليها خراءها.

أحنيت راسي صاغرا، وحملت همومي وأعطابي. وقصدت منزل أسرتي طلبا للحماية. لما رآني أبناء الحي بصحبتها وأنا أنزل من التاكسي أكابد من اجل الوقوف على قدمي لم يصدقوا. ظلوا يبحلقون في وكاني بقايا كائن بشري منقرض عثر عليه في سرداب مطمور في رحم الأرض، أو في غابة مجهولة عذراء أهملتها الخرائط.في عيونهم استياء و شفقة،لكن كثيرا من التشفي لا أدري أسبابه الحقيقية. والحقيقة أن رغدة هي من انتشلني من هذا النفق.

رغدة بنت الجيران و ممرضتي أيضا. كانت تترد على بيتنا،فأسلمها جسدي لتحقنه.تلك كانت أسعداللحظات التي أترقبها بشوق. واه ! كم تسحرني ابتسامتها عندما تولج الشوكة أو تسحبها بهدوء من تحت جلدي. لايكفي ان أقول بلغة بابلو نيرودا إن الابتسامة على شفتيها الشهيتين تمتد كجناحي فراشة، بل حين تبتسم رغدة يتفجر من مبسمها نبع من الفراشات. فراشات زاهية الألوان ترف حولي وتبدد جو غرفتي الكئيب. لكن أجمل شوكة غرستها رغدة في جسدي وروحي هي شوكة الحب! إني احب رغدة ورغدة تحبني. معها شعرت لأول مرة برجولتي الحقيقية. وأذكر ذات خلوة بينما كنت لأنا وهي وشيطان الحب ثالثنا نستحلي أويقات الاسترخاء والمكاشفة متوحدين تماما كذينك العاشقين في لوحة “القبلة “لغوستاف كليمت.

أسرت إلي بأنها لاتحبها ولاتتحمل وجودها في ليلة فرحنا، فيراها المدعوون وتلتقطها الصور. قالت لي: إنها لاتليق بك، ولا تليق لك، واذا لم تتخلص منها ستسقط من عيني. كنت مغفلا فتجاهلت كلامها، وبدورها تجاهلتني. امتنعت عن لقائي ومكالمتي، لكن بعد الاستعطاف والتذلل قبلت مقابلتي بمقهى” فيفالدي”، ولكي تعاقبني تعمدت أن تتركني أتقلب وأتحرق بهدوء على مشواة الانتظار مترقبا إطلالتها في كل حين، ولا أعتقد أن شاعرنا “محمود درويش” عانى ولو الشيء القليل في” ثلاثية انتظاره” مثلما عانيته في انتظار رغدة.

قضيت أزيد من ساعة تفترسني الهواجس والشكوك والمخاوف ولم تأت. أخيرا قلت وأنا أخترم برصاص اليأس: رغدة ضاعت مني ياناس! ولكنها أتت. جلست قبالتي محصنة بالصمت تحدق في. لا تحية ولا ابتسامة ولافراشات ملونة. صمتها يجلدني وفنجان قهوتها ظل جامدا في مكانه. تمسكنت وأنا أطلب منها أن تشرب قهوتها، وياليتني لم أفعل! من الفنجان ثارت زوبعتها. أشهرت شوكة غضبها في وجهي وهي تسلط علي من عينيها الجميلتين نظرات نارية: – اسمع إما أنا أو هي. فماذا تقول؟

وماذا بوسعي ان أقول لها حينئذ؟ فأنا بطبعي إنسان وديع ومسالم ولكن من أجل عيون رغدة أنا قادر على أن أريق دماء أبناء حينا عن بكرة أبيهم. وسوف ترون. سترون الآن ما سأفعله بهذه الربطة الزغبية . في الحقيقة إنني حائر. لست أدري هل أستغفلها وأخنقها بيدي هاته، وأنحرها كما خروف العيد أم أغرقها في رغوة الماء حتى تنهار ويغمى عليها تماما ثم أتلذذ وأنا أوجه لها بالموسي طعنات سريعة متوالية إلى أن تخر على الارض.

– جبان رعديد ماذا تنتظر ! لا.لا لست خائفا منها،بل أنا خائف على نفسي. تعوزني الحيلة والتجربة والدقة في التنفيذ. من الصعب منازلة هذه الأنثى المتوحشة المراوغة اللعوب. أخاف أن تزيغ شفرة الموسي فتخطئها ،وتصيب رقبتي،وعيبي. إنني لا أتحمل رؤية الدماء. قطرة واحدة من الدم سائلة على الأرض أو على الجلد بحمرتها ولزوجتها تهيجني وتثيرأعصابي، ولا أذكر أنني في يوم ما تجرأت وذبحت دجاجة. لكن ماذا أقول لرغدة وبأي وجه سأواجهها؟ كيف أكتم صوتها الغاضب في داخلي.ما ينفك يتحرش بي في كل لحظة ويستفزني..
نعم إنه هو. هو وحده ولاأحدا غيره. هو من سيخرجني من هذه الورطة.
سألجأ إليه ليجتث بيده المدربة هذه النبتة المتوحشة الكانيبالية التي تنغرس في لحمي وتشرب من دمي. وذلك ماحصل. لعنت الشيطان وألقيت بسلاحيْ،وقصدت “عزوز” حلاق حينا وسلمته لحيتي.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون