رقصة

سارة عبد النبي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سارة عبد النبي

 تولد الرغبة مغلفة بشجن المساء، معتقة كالخمر، في هوة مظلمة تفور، داخل قلب أفنى عمره في الصمت. تعلن عن نفسها بصوت مطرب مغمور، يقتص من سوء الحظ، بسحرغناءه الشجي الذي لا ينقطع.. يحتضن الرجل رغبته وينام باكيًا..

 في الصحبة كانت تخزله الكلمات، تعانده حين يطلبها، فنالته صفعات السخرية، وعدم القبول. وجلد الذات لازمه كظله.. هجرها انتقامًا، ونسي كيف يكون الخطاب، كيف تكون إجابة السؤال، عذب الكلام بين العاشقين.. حتى عندما كان يرد التحية، يخرج صوته باهتًا مرتبكًا، كأنه احتضر في حنجرته قبل أن يصل للسانه، فأكتفى بابتسامة حزينة وإيماءة من رأسه..

صار وحيدًا، غريبًا حتى في رفقة الأهل والخلان. عرف الرغبة مؤلمة حزينة، تباغته وهو يستمع بحماس لنكتة جيدة، في منتصف الضحك يتوقف شادرًا. تفتك به، وهو يضع آخر لقمة طعام في فمه، فيمضغهما معًا بإستسلام تعيس، مخلفة طعم اعتاد مذاقه، كالصبرممتزج بملح الدموع، دموع المنفي بلا وطن..

  أراد أن يتكلم بصدق لمرة واحدة عما في قلبه، مع أحد يفهمه، يسأله عن أحواله، أحزانه. الهمهمة المتكاسلة ليلًا بين وجهين متقابلين في الظلام. أربعة جفون، يغلبها خدر النوم. جسدان يتشاركان الضياع، فسحة أمان يشتاق إليها. وما أقسى الشوق لشيء لم يجربه، لم يتذوقه، كالضحك من القلب معها، قول أشعار الغزل على مسامعها, ولكنه نسي الكلمات، ضيعت ذاكرته الحروف.. يتأمل حزينًا ليله الخالي من الونس وصوت النفس، الخالي من عينيها، تلك اللعنة، منقار طائر ضخم ينبش خبيئة صدره، يبعثرها أمامه بنعومة وتأني..

لا تتركه رغبته أيضًا في الصباح، حين يستيقظ في فضاء خالي من حياة، يتذكرها. المنبه يقوم بالمهمة كل فجرجديد يطلع عليه، ولكنه قطعة حديد، لا تسري فيها دماء أناملها الحارة, شقاوتها ولينها ولطفها.  حركة الأنامل على كتفه كي يستيقظ من سباته.. أنامل حنونة على ظهره تصب قلبه من الجانب الآخر، على جبينه ترقص الأنامل، داخل شعره تسترسل وتعبث.. فيض عذب من مشاعر مهملة، أراد أن يجربها معها، لتوقظ عمره الضائع، تطارد زمنه المتبقي الذي ينحسر بسرعة وافرة..

أحيانًا يحاول نسيان ضعفه تجاهها، في عيون طفلة صغيرة، يحاول رسم المرح، تتألق في قلبه غفلة الطفولة اللذيذة من جديد…

 أو يجلس في زاوية شارع يطعم قط صغير، كلب ضال، من بقايا طعامه، لو صادفه أحد، ربما يقول رجل وديع، لو وجدوا جثته متهشمه تحت شباكه في اليوم التالي، نبتة ذابلة متفسخة يحرسها الظل، يقولون مسكين أوفى وعده, قتله لين قلبه، قتلته وداعته. وليس مغدورًا بقلب طمعان ويأس كامن في الضلوع، خليطه المؤسف.

ولكن كان شعوره بالأنانية يعذبه، لأنه يبحث عن سكينة لجسده المضطرب، وهدهده لروحه القلقة. لا من أجل سرور تحظي به طفلة يشاركها اللعب بدمية أسفنجية سخيفة، أو يصيح معها كالمخبول دون داعي، توت توت، احترس قطار بشري من عربتين سيمر.. واحدة منهم زائفة تمامًا بمنطق وعيه، بمنطق خيال اللاعبين.. أو حتى من أجل عيون قط، تصفعه نظراته في الطريق كل يوم،  ينتفض من برد الشتاء، تتلوى أحشائه من الجوع، على سلالم البيت يتخبط فوق قدميه، تتشبث مخالبه بساقيه، باحثًا عن مكان دفيء في جسده، لم تصبه بعد عفونة الاحساس..

فصنع حيلة من الخيال والرقص، من كثر ما عاشرت أذنيه الألحان، أسكرته، ضيعته.. وصارت بيتًا وصحبة وغواية أنثى..

يغلق عليه غرفة خالية، لا يفتح بابها مهما دوت الكفوف، يقف عاريا، متخففًا من كل ما أثقله، أفكاره عنها, رغبته في الفوز بقلبها.. يغمض عينيه، يفتح ذراعيه للسماء البعيدة، يبتهل بنحيب.. قلب يقفز على قدمين، ينفجر من شدة الشوق، تذوب عظامه في اللحن، ينشطر لأجزاء من نشوة الطرب…. اهلكني أيه الرقص، امنحني بعض الذرى السعيدة وأنا أدور. أوهمني بالقبول، بالكمال والجمال، والحب، وجموح لا يخبو. اسحق زمني الشاحب إثر خطواتي، وعد إلي بآخر، وابعث شذاه الحلو  في مخيلتي الآن، اطمس عذابي، عيناها التي تقهرني، بشرتها السمراء المغرية، وأحلام الوصال الواهمة، كأن لم تكن أبدًا..

.. يصير في رقصته طيرًا شغوفًا من طيور البحر، يلاعب النسمات بجناحيه القويين، بخفة يقطع آلاف الأميال دون أن يخفق مرة واحدة، حول المحيطات والمواني وسفن المسافرين، يدور، يختبىء منها في حقائبهم الأمنة، الدافئة بمحبة مودعيهم الطازجة. أو يذوب كقطعة ثلج تنفث أبخرتها وتتلاشى دون أثر تجده، سوى قطرات من ماء يجف، أو يجمع كل الأشياء التي يمقتها في ذاته، التي جعلت طرقهم لن تتقاطع، وينجذب بها لجوف الأرض، لينبت من جديد، عشب رطب على وجنتيها.. تصبه الحمى عندما تمتص خلاياه عجزه وغضبه وقلة حيلته.. ويجعله رقصة عصيبة على موسيقى صاخبة، يسقط بعدها صريعًا، يستيقظ على وشوشة الجنيات، غناء حوريات البحر، بعدها بسنوات يموت مفتونًا بغيرها..  

  أثناء رقصته، أحيانًا لا يحتمل العالم سحره، يضيق في وجهه كخرم إبرة، لكنه يخدعه، يناوشه ويمر، كخيط دخان معتم، بهدوء يمر، ومن الجهة الأخرى يبرز ضوء, براق شاهق، لبراح أوسع، يضيعه العالم فيه. تضيعه عيناها، تلك اللعنة..    

 

       

 

  

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون