الأعمال الكاملة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قصة : رامي عبد الرازق *

( 1 )     

لطالما تمنيت أن أتفرغ حتى أتمكن من قراءة كل الأعمال الكاملة لكل الكتاب الذين أحبهم !

إنها أمنية غالية وحقيقية رغم أنها قد تبدو في نظر العاديين مجرد صخرة بلا قيمة .. إنها أقصى أمانيَ القليلة..أنتظرها بشغف كما ينتظر الوتر أصابع مدربة كي تعزف عليه ( أن غاية كل وتر في هذه الحياة أن تدق فوقه أصابع عازف ما ولكن ليست غاية كل الأصابع أن تدق أوتارا أو تعزف )هذا ما تعلمته من قراءة الأعمال الكاملة..كيف أصيغ جملا ثم آتي بنقيضها أو مرادفها أو أقلبها فيصير العمق هامشا والقلب متنا والمتن نصا.

( 2 )

كنت أتصفح بالصدفة قصة “بالأمس حملت بك” لبهاء طاهر ورحت أعدد الكتب التي قرأتها له واضعا قائمة خيالية بالمتبقي من أعماله الكاملة مباهيا ملائكة الروايات بعدد الأعمال الكاملة التي قرأتها لهذا الكاتب أو ذاك عندما قرأت أسطرا متناثرة من القصة وإذ بي أجدها مفتوحة الساقين – وعذرا للتعبير – أمامي وكأن ملائكتها قد أخذت الإذن العلوي بالافتضاح  وكشف السر ورفع الحجب وفض الختم..شعرت فجأة أن كل ما كان خافيا على حين قرأتها للمرة الأولى – والأخيرة- صار الآن ينساب في ذاكرتي كأنما ولدت به ونشأت في حضرته.

توقفت ..هالني خاطر حار..أحرقني وألهب الخلايا القليلة التي اعتمد عليها في البحث  والتفكير..ترى هل علي أن أعود لقراءة كل الأعمال التي قرأتها من قبل فربما تتكشف أستارها وتسقط بيني وبينها حجب اللغة والإشارة فيدل الرمز وتشير الأداة وتصل العبارة إلى أقصى اتساع لها ؟؟ اللعنة !

هذا معناه أن أتوقف عن سعيي وراء الانتهاء من عمل وراء أخر مستوعبا هذا ومغمضا الذهن عما غمض من ذاك ؟!

أليس هناك وسيلة يبلغ بها المرء منتهى الوصول عند القراءة الأولى لأي عمل ؟! أيجب أن نقطع شوطا طويلا من اللهاث ثم نتوقف ذات ليلة منهكين وندرك أن لحظة العودة الكئيبة قد أزفت وأن علينا طائعين أو مكرهين أن نبدأ من جديد وبلا توقف نسعى بالنظر الحار فوق نفس الأسطر ونفض على عجالة أو بتأن الصفحات التي عانينا معها من قبل !! نعيد استرجاع رايات الفهم التي تركناها لتصدأ فنجلوها ونرفعها عند كل موضع أبى في زمن القراءة الأولى أن تنغرز بين أعضائه ؟! ومتى يمكن إذن للمرء أن يعلن ذات يوم أنه انتهى من قراءة كل الأعمال الكاملة لكل الذين قدموها له وهو المكره على العودة عند نقطة ما لا يعلم متى يحين اجلها ؟؟

( 3 )

أصابني المرض وصرت أهذي بأصوات تخرج من أعضائي مباشرة دون تطور حضاري  (هل تعرفون أن أصوات الأعضاء البشرية هي أكثر الأصوات رعبا في التاريخ و أن أول ما يتدرب عليه الأطباء هو اعتياد تلك الإيقاعات الرهيبة لصوت العضو البشري الحي في حركته)

 أعضائي تشكو كل بصوته وكل بلغته وكل بمقدار طاقته وتأثيره علي .

ترى ماذا علي أن أفعل ؟؟ وماذا فعل الذين ولجوا في تلك النقطة من قبلي وعادوا أدراجهم مثل نبته تعرض صورتها على شاشة عبر جهاز على وضعية الرجوع بالزمن إلى الوراء (تتقلص الأوراق ثم تنسحب إلى البراعم التي تتضاءل وتنخفس تدريجيا في الساق ثم تصير تقصر شيئا فشيئا مقتربة من الأرض ببطء مرعب ثم فجأة تدفن نفسها سريعا تحت كتل من الطين الصغيرة التي تهبط بدورها بعد أن كانت قد ارتفعت قليلا في كبرياء عن بقية التربة من حولها ثم لا نعود نرى شيئا بينما هسيس متواضع يخفت تاركا شفقة غير أدمية تتلوى في القلب ) أه .. يال اللعنة ! ماذا فعل الشيوخ والكبار ؟ماذا فعل الذين تمكنوا من قراءة الأعمال الكاملة تاركين تلك النقطة تتلولب في الفراغ دون أن يجتازوها ؟ أم ترى عاد الكل عند التقائها تاركين أعمال كثيرة لم تقرأ ؟

( 4 )

بحثت عن شيخي فلم أجده !

تركت له رسائل كثيرة بعضها مكتوب وبعضها صوتي و أخر مصور .

هالني الحال الذي صرت عليه عند رؤيتي لبعض الصور التي تركتها !!

قلت رب ضارة نافعة..علني أحث شيخي بهذا الشبح الذي صرته على أن يبعث في طلبي بمجرد استلام أي من رسائلي .

جلست مكتئبا مثل قط أصم في بيت تملئه البسبسات .. حائرا بين المضي في القراءة لحين رجوع الشيخ أو التوقف تماما والاستعداد للرجوع إلى الكتاب الأول !!

( 5 )

تأخر الشيخ ولم يعد .. تأخر الشيخ ولم …

( 6 )

بصمات قليلة هي التي قادتني إلى هنا ..كان الباب مغلقا لكنه مفتوح..يكفى أن تدفعه بيديك كي يصدر أمرا بالدخول .

آثار الشيخ في كل مكان..كثيرة لدرجة مذهلة لكنها بقليل من التمعن تبدو متخذة شكلا هندسيا أقرب للمثلث..قاعدة كبيرة تتناقص تدريجيا بزاوية 45 درجة في اتجاه واحد بشكل هرمي تقل تدريجيا كلما استغرقنا نحو الداخل لتشكل قمة في عمق البيت .

بصمات قليلة هنا وآثار أقدام وأصابع ورموش وأظافر وشعر من مناطق مختلفة من الجسم  وبثور جلدية وطبقات رقيقة من بشرة تبدو نتاج كشط لمسام .

توقفت عند البصمة الأخيرة وشعرت باختناق خفيف وكأني مرتفع داخل قمة هوائية قليلة التهوية كثيرة الضغط .. لم أدر ماذا علي أن أفعل بعدها ؟!! فكرت !

قررت التقدم خطوة أخرى بعد القمة ( الخطوة الأخيرة بعد القمة هي أولى الخطوات إلى أسفل ) ….

لم أشعر بدوي السقوط !! ولجت !

كانت الدائرة تبتلعني ببطء …….

وجدتني اسبح متأنيا..حاد البصر رغم الإغماضة الإجبارية التي كبست عيني.. صدري شرح متفتح وتيترات ملونة بأسماء ملائكة وقديسين تدخل عليه في إيقاع جميل وتيارات هوائية من كل جهات الأرض تعبره .

آذني شيخي كثيرا عندما حرم علي ولوج تلك الدائرة بدعوى ملئ الزاد وحلول الأوان  وهبوب الموعد .

نظرت فإذا به هناك جالسا يقرأ .. هبطت في خمول خلفه فاستدار .

طالت لحيته كثيرا وخرجت منها أعواد الريحان والمسك ملتفة حول الشعيرات البيضاء الممسدة .

ابتسم ولم يعلق فقلت له : تأخرت علي فجئت أبحث عنك !

ابتسم ولم يعقب فقلت : زارني من لم اكن انتظر..وقد علمتني أن أسوأ زائر هو من يأتي بغير انتظار يشعل الشوق إلى زيارته .

فقال : لا بل من لا يأتي بعد طول انتظار أشعل الشوق إلى زيارته .

فقلت : و كيف بزائر لا يأتي ؟

فقال : عندما يزورك اليأس من قدومه فقد زارك بأسوأ حال .

قلت : لست هنا لتلقي الدرس ولكن للسؤال !

قال : أسأل !

قلت : كيف لي أن أنهي قراءة الأعمال الكاملة لكل الكتاب الذين أحبهم وقد شعرت بالرغبة في العودة لقراءة كل ما استعصى علي من قبل ؟؟

فقال مبتسما كمن ينظر للنعيم الخالص : ومن منا لم يفعل ؟؟ أو تظن أننا جميعا انهينا قراءة الأعمال الكاملة لكل الذين أحببناهم ؟

قلت :  أجل ! لطالما شعرت أنك وآخرين قد انهيتوا قراءة تلك الأعمال وربما لعدة مرات !!

قال :  و يحك ! ومن فعل ؟!

قلت :  لست ادرى !

قال :  قد صدقت الرؤيا يا بني ..أنه التجلي الخالص واليقين الغير ممزوج بشائبة فهنيئا لك به.

قلت له غاضبا مثل طفل أدرك أن عليه أن يتقدم في العمر كي يموت : لا ! حتما هناك وسيلة لاجتياز الأمر دون الحاجة للعودة من جديد ..ل !!

قال : إن لم تهنأ سقطت وكنت من الغابرين .

فقلت :  وإن عدت فكيف لي أن أصل إلى ما حققت ؟؟ولماذا لا يحدث التجلي أو تصدق الرؤيا بالتقدم والاجتياز نحو الأمام وليس بالعودة والنكوص ؟!

قال :  تلك كانت .. وستظل …

قلت :  لا ! حتما هناك وسيلة فأرشدني !!

قال و الريح في عينيه : تلك كانت .. وستظل .

استدار ..وعاد ليقرأ ..

تشبثت بموضعي و قلت : حتما هناك وسيلة !!

صار الموضع الذي اقف فيه يهبط شيئا فشيئا كأنما زبد حار يسيح ليتحول إلى طبقة من السمن ثقيل الرائحة وعادت القوة الطاردة تمسك بي وتمنحني خروجا غير هين نحو الوراء

( 7 )

عدت للموقع الأول وأمسكت ذات الكتاب”بالأمس حلمت بك”فقد علمني شيخي أن الروايات ذات الحبكات الغير تقليدية والمبنية على تسلسل وليس على تصاعد يكون الحل الدرامي دوما للعقدة الأخيرة هو بالعودة إلى جذور الحبكة الأولى والبحث بداخلها عن نهاية الرواية .

أمسكت بالقصة وبدأت في قراءتها بتخنث وميوعة متجاهلا حالة الفهم الخارقة التي تلمع في ذهني ومتعللا بتراكم الخبرات واستيعاب اللغة وهضم الأساليب المختلفة ..ولكن شيئا فشيئا  وعبر غطاء من الألق كانت لذة لامعة تتصاعد في ايروتيكية رهيبة والضوء يخرج من الكتاب ليغمر الوقت والحال من حولي وزادت رغبتي في المتابعة وشعرت بأني قادر على القراءة حتى وأنا مغمض العينين من شدة الهزة..بل شعرت أن الكتاب يسقط مبتعدا ببطء مخملي كأنما وسادة من الفراغ تحمله وباتت الأسطر تخرج منه محملة بشتى المعاني  والصفات حتى تلك التي لم تكن موجودة في لغة القصص من قبل..وصار بعضها يقترب كي ينطبع برفق على بدني ثم يشف ضوءه ويتسرب إلى الهيولي الروحي الرقيق الذي احمله بداخلي.

هل هو التجلي الذي وصفه شيخي في خلوته ؟؟

هل هي الرحابة الحق والمنتهى الأكيد ؟؟

واصلت القراءة بلا انقطاع …..

كانت الكتب تخرج من رفوف المكتبة لتنفجر صفحاتها مشعة بوهج غريب يتجه نحوي دون إرادة مني أو منه .

تراجعت تلك الفقاعات الشيطانية التي تشكلت من قبل في بهو الشعور والتي كانت طواحين هواء عملاقة تدفعها باتجاه قراءة الأعمال الكاملة..وراحت تنفجر في صمت كبقع من الدم يراقبها مجهر ملون بلا اكتراث .

ولم يعد أمامي سوى مواصلة العودة لقراءة كل ما فات مثل بوصلة تعلم جيدا أن أباها الذي في السماوات هو دوما الشمال .

( 8 )

قد تبدو تلك نهاية سعيدة لكن صدقوني .. فيما بعد كنت دوما أصحو على خاطر يهوم في أعماقي مثل روح تبحث عن سجادة برزخها لتعبر باتجاه العالم الأخر  :

( ترى ماذا  سيحدث لو أتممت قراءة كل الأعمال الكاملة ذات يوم ؟؟ )  

ـــــــــــــــــــ

* روائي وناقد سينمائي مصري 

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب