الولد الذي يكره المدرسة ويحب السينما

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

منذ أسابيع، لم يعد (الصديق) يذهب إلى المدرسة بسبب قسوة المعلمين، فقد تحولت حصص الصباح إلى عقوبة يومية، وتحولت أيام الدراسة إلى جحيم حقيقي، أصبحت المدرسة مكانا يسكنه الخوف والقسوة والعنف الرهيب، وبالمقابل أصبح الشارع فضاء رحبا للحرية والانفلات ومتعة اللعب.

يقضي (الصديق) يومه في التسكع، يجوب المدينة، يتيه، يعيد اكتشافها وكأنما يراها لأول مرة، ولكنه يحرص دوما على العودة إلى البيت في موعده المعلوم.

يوم الجمعة، إنه يوم مشهود، نهار مشمس، جميل ودافئ، يرتفع صوت المآذن، يتعالى، يخترق سماء المدينة، يسافر، يتلاشى، ثم يعود رجعا بعيدا.

غير بعيد عن منزل العائلة يضع (الصديق) محفظته بجانب الطريق، يفتحها، يخرج العدة بعناية، مسامير حديدية، خيوط حريرية رفيعة وقوية، يقطع الطريق عرضا، يقيس المسافة ذهابا وإيابا، خطوة، خطوتين، ثلاثة، يتحرك بخفة، يشتغل بمهارة، يدق المسامير على طرفي الطريق، يشد الخيط بإحكام، وينتظر…

يجلس هناك عند مدخل الحي ينتظر قدوم (الحاجة هنية)، يفترض أنها ستأتي، ربما تأخرت لبعض الوقت عن موعدها ولكنها حتما ستأتي، إنه يوم الجمعة ولابد أن تأتي، هو يعرف ذلك بحكم التجربة، فهي من العائلة وتزور البيت كل جمعة في لقاء عائلي حميمي مفعم بالعواطف، لقاء بطعم الكسكس والتوابل والمرق واللحم الوفير.

تسكن (الحاجة هنية) في الجهة الأخرى من المدينة، ولكنها تواظب على الزيارات والمجاملات العائلية بشكل منتظم، هي سيدة متقدمة في السن، وتعاني إلى جانب عماها، الكثير من العلات الصحية، ولكنها نجحت دوما في أن تقدم عن نفسها صورة مشرقة، فهي إنسانة طيبة، كريمة، عاطفية، متفائلة، أنيقة وتحب الحياة، وفوق هذا تحتفظ بتفاصيل جمال لا تخطئه العين، جمال صامد، يقاوم الزمن ويرفض الإنمحاء، تتبرج بعناية، ترتدي دوما فساتين مطرزة، ألوان قوية وصاخبة، خواتم، أساور فضية، وشربيل أنيق لقدميها الصغيرتين.

لا يفهم (الصديق) الكثير من أمور الحياة، بمقاييس الزمن هو طفل صغير ينظر للعالم بعين قلبه، العالم في نظره تسيره العواطف، العواطف فقط، الحب والكراهية، الناس في نظره صنفان، الذين يحب بعضهم بعضا، والذين يكره بعضهم بعضا، ويتبادلون الحقد، نظرات الاحتقار، الإهانات والكلمات الجارحة، وهذه الأشياء الأخرى التي تشكل توابل لقسوة مجانية ومدمرة.

هو أيضا يحب البعض، ويشعر بحبهم، أحيانا يحبهم دون أن ينتظر حبا مقابلا من جهتهم، وطبعا يكره البعض الآخر، أو على الأقل لا يحبهم، فهو يقرأ القسوة والكراهية في عيونهم الشريرة…

اكتشف (الصديق) كلمة الحب بشكل مبكر في قصص الكتب والسينما، فالكبار عادة يتجنبون استعمالها، وعندما يفعلون ذلك يحرصون على تغليفها بالكثير من الترهات فتبدو سخيفة، باردة ومملة، من الناحية العاطفية فتح ذلك الاكتشاف جرحا نرجسيا بداخله، جرح رجه بعنف وانغرس عميقا في كيانه.

تبدو (الحاجة هنية) سيدة مختلفة بالفعل، الناس يحبون ويكرهون، أما هي فتحب فقط، لا تعرف كيف تكره، تحبه هو بالتحديد، وتحب أيضا والدته وتحيطها بالكثير من مشاعر الأمومة، وبالمقابل تعاملها والدته بالكثير من التقدير والاحترام، ارتباط حقيقي، قوي وغريب، يشعر معه (الصديق) كما لو أن الحياة منحته فجأة أما ثانية، واحدة في البيت، وأخرى تأتي من مكان ما وتزوره مرة كل أسبوع.

كان (الصديق) قد بدأ يشعر بالملل وثقل الانتظار، فقد قدر أن (الحاجة هنية) تأخرت هذه المرة أكثر من المعتاد، ولكنها عندما ظهرت فجأة هناك عند مدخل الحي، أنقدته من هواجسه وراح يستعد لاستقبالها، مع كل خطوة كانت تقترب من الخيط فتنتابه مشاعر غير مريحة، مزيج من الخوف والحرج وتأنيب الذات، يخاف ألا تنجح الخطة، ويخاف أن تنجح أكثر من اللازم فتصاب (الحاجة هنية) بالأذى…

تقترب العجوز، تقترب أكثر، يغمض عينيه خائفا ومشفقا، يفتحهما، ويهب جريا، كانت (الحاجة هنية) قد تعثرت بالخيط الرفيع وراحت تقاوم جاهدة لتنهض وتستقيم.

– الله الله، أنا هنا مي الحاجة، أنا هنا، لا بأس عليك…

راح (الصديق) يستكمل مسرحيته، يمد يده، يساعد العجوز على النهوض، ينفض عنها التراب، ويرد لها عكازتها التي سقطت على بعد خطوات.

في البيت، اجتمعت العائلة، تحلق الجميع حول المائدة وراحوا يستمتعون بوجبة كسكس مغربي لذيذ لا يقاوم، البعض يمدح مهارة الأيدي التي صنعته ويدعو لها بالصحة وطول العمر، أما (الحاجة هنية) فمالت جهة (الصديق)، تدس قطعا نقدية في كفه الصغيرة، وتهمس له.

– أنت ولد طيب ومطيع، هذه النقود لك، لتشتري الحلوى وتذهب للسينما…

لاذت بالصمت للحظة، مررت كفها على رأسه بحنان، وبحركة رفيقة قرصت أذنه، وأضافت.

– سأعود يوم الجمعة المقبل، أرجو أن تكون هناك لتساعدني، فشقاوات الأولاد ومقالبهم لا تنتهي…

للحظة أحس (الصديق) وكأن نبرة ما ماكرة تسكن كلمات (الحاجة هنية)، استيقظت هواجسه وراح يسأل نفسه.

– أتكون فطنت للعبتي؟ ماذا لو حدث ذلك؟

ولكنه نسي الأمر بسرعة، وراح يتخيل نفسه في السينما، يدخن، ويستمتع بقصة الفيلم الهندي !!

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون