غربة الذات والحنين إلى المشتهى.. قراءة في “ما يبقى من الوزن الزائد” للشاعرة هبة عصام

ما يبقى من الوزن الزائد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاتم عبدالهادى

ربما حنين يسع العالم يطل من شرفة الشاعرة هبة عصام في ديوانها: “ما يبقى من الوزن الزائد”، ولعلنا نتساءل بداية، عن هذا العنوان المفارق، الغريب، المدهش، عن هذا المتبقّى من الوزن الزائد، ثم أى وزن هذا الذى تتحدث عنه، وأى زيادة تقصدها؟.

إننا أمام مستغلق، نريد فك شيفراته، عن طبيعة ذلك الوزن الزائد الذى تريد التخلص منه، هل هو العالم الذى حمّل بهموم، وأوجاع، وتريد خلاصاً للذات منه عبر انزياحات العصر، وأهواله الصغيرة؟ أم هو أمر يشغل الذات، فترنو إلى خلاص تتشهّاه، عبر هذه الديمومة التخييلية، والدائرة التى أدخلنا فيها العنوان المخاتل. إنها تريد – إذن الخلاص -، وصف ما يتبقى من وزن زائد لها، للمجتمع، لحمولات للذات عبّرت عنها، لتحيلنا إلى الجسد/ الذات/ العالم ببطء شديد، وكأنها – منذ البداية – تشد القارئ ليلاحقها لمعرفة هذا الذى تتحدث عنه.

لقد قسمت ديوانها إلى قسمين كبيرين: “كنوم يفتح عينيه”، والثاني بعنوان “بورتريهات”، وعبر القسمين تجولت بنا عبر فضاءات الذات، لتعيد تشكيل المونولوج النفسى لذاتها، التى تضجّ بالوجع وبالحنين، إلى مشتهى، لا يجىء، فتحاول الصراخ،

لتنبئنا عن الوزن الزائد، تقول:

اليوم يزيد وزنى

كيلو جراماً آخر من سوء الظن

وأرش القسوة فوق رءوس المارة

اليوم أيضاً أبدو كوحش برىّ،

وغداً.. سألون زجاج المنزل

كى لا يلمح العابرون

هشاشة الجدران (الديوان : ص7).

إنها القسوة الظاهرية إذن، الوزن السيموطيقى الزائد بدواله ومدلولاته الرامزة، فهذا الوزن وزن حسى، معنوى، وليس ماديا، إنه وزن لسوء الظن الزائد والذى يحيل الإنسان إلى وحش كاسر، برىّ، لا يعرف الشفقة، أو الرحمة، حيث الدماء ستسيل على الجدران بما يستدعيها أن تلون الجدران – عبر المفارقة – لا لتخفى القسوة والدماء، وإنما كى تخفى كذلك هشاشة الجدران/ انكسارها، رغم تمظهرات القوة التى أبدتها، فهى جدران الذات المهترئة، حول منزل العالم، الذات، المجتمع، الحياة، ولعل كلمة “هشاشة ” قد عبّرت بصدق عن الدوال، وأرشدتنا إلى من سرق المشار إليه في النص!!.

إنها/ هبة عصام، ترسم بريشة الجمال شيفونيّة معنى الحياة، تحاول التشبث بالقوة، لكنها تنهارأمام الذات، فتقاوم،بطلاء الجدران، كى تقول للعالم: أنا هنا، رغم كل الأهوال التى تجدها، والقسوة التى سوف ترشّها بقسوة، فوق رءوس المارة والآخرين.

إنها تريد الدفء، لا الانتقام، وتنشد الحنين الذى لايجىء، والذى وصفته بذئب ينام بنصف عين مفتوحة، كما أنه صوفى بائس مثلها، لايأتى اليها، ولا يشعر بحالها:

“الحنين صوفى تائه، وجد طريقه حين واربت الباب…”

ثم تكرر بعد ذلك:

“الحنين صوفى بائس، يأكلنى قطعة قطعة، كى يسترد عافيته”(الديوان : ص 11).

إنه الحنين، الاشتهاء للدفء، يهرب منها، يتوه كلما حاولت التّذكار، فهو يقضّ مضجعها، بل يستلبها، يهجم عليها كذئب جائع، ويقطّعها إرباً، لا من أجل الانتقام، بل من أجل ديمومة وجوده، هو/ الآخر، عبر دائرة الهارمونيطيقا، وعبر التشكيل اللغوى المتنامى، لهارمونى الشعريّة المنثال على القلب، دون رتوش، ودون رمزية، أو سوريالية تخفيه كذلك.

إنها تغبّش بالصورة الممتدة وجه الحياة، وتضفى على الشاعرية ألقاً، عبر التصوير، الذى يحيلنا إلى لوحة حالمة، عبر صور شعرية باذخة، تأخذنا إلى المثيولوجيا الخاصة، والأهوال الصغيرة للذات، داخل شرنقة الروح، والجسد الصارخ في وجه الحياة، تقول :

“أظافرى الهاربة إلى الشمس، تحمل الحنّاء القديمة، ونشوة من خربش الهواء “.(الديوان ص : 15 ).

أنها الأظفار، تهرب إلى الشمس التى تقف مستعدة لتغمرها بالحناء المخلوطة بنشوة العاشق، لمن خربش الهواء داخلها، واستلبها عبر الماضى، لذا كان الحنين صوفياً تائهاً، غاب بعيداً خلف شمس الحياة، التى تحاول أن تستعيد عندها الذكرى، عبر صوفية خاصة بها، عبر الحنين المزركش، بفتنة النشوة المنداحة من عطر الذى غاب، ذلك الصوفى/ العاشق/ البدوى الأخير، البرىّ الغريب، التائه، الذى يستلب روحها عبر نشوة السيموطيقا الرامزة، والتصوير الرشيق، واللطيف،السامق أيضاً.

إنها العاشقة المنكسرة، تحاول تجميل الذات عبر الغرفة الكونية، غرفة ذاتها المتطلعة، والصارخة في العالم والوجود، تنادى غائباً ذهب، وراحلاً، لا يجىء، وتعبر بالآهة/ اللغة، مكنون الروح، لتوقفنا أمام ذواتنا التى تقف لتشاهد صمتها، وتسمع هيوليتها الزاعقة.

إنها الشاعر التى تعبر بالصورة جسر الحياة، وتخشّ عبر موسيقاها الخاصة،ا لى غرف قلوبنا، تستنطق البهاء الكامن هناك، عبر الجمال المموسق، واللغة السلسالة، الصافية،الرائقة، تقول :

” سأبعثر رماد الكلام الذى مات بغتة،

ولم أستطع دفنه

وعلى جذع شجرة

سأربط شالك الحريرى

وأشنق أغنية لنا” (الديوان ص : 20).

إنها إذن صامتة خرساء، مات الكلام في فمها، وتبعثر الرماد، لذا أرادت الخلاص، التطهّر من ربقة العالم، تصلب ذاتها، وتشنق بشال حبّه أغنية لهما، لتظل تتابع الغناء، وتفنى في الذات، وتندمج فيها، ولعمرى فهى صوفية، سيميائية، معادل كونى فريد، تتبدّى للناظر لشرفة روحها الشفافة، وتصاويرها المتماوجة الباذخة.

لذا رأينا متواليات للألم، تشهق روحها، ويتجدد، فلا تجدى حقن، ولاينفع أطباء، تداوى ذكرى الحنين السيميولوجى الزاعق في الروح.

لذا رأيناها، تسمى  القسم الثانى من الديوان : “بورتريهات”، لتعيد تجديد ورسم مشاهد الألم الشهىّ، الوجع المنمّق والموشى بزركشات، تخمش القلب برفق، وتخشّ إلى بؤبؤه في هدوء.

انها في كل الأحوال، تحاول أن تكون قوية، –  كما تقول – : “قوية كالموت” – فأى قوة في الضعف، في الوهن، في الفناء الزاعق عبر بريّة السكون والعتمة الممتدة؟.

إنها فلسفة الذات إذن، لنظل نتساءل عبر أيقونة الذات، تسألنا،كذلك / تصرخ، تقول:

“من يدفع الفاتورة عند الله

أن تستيقظ وردة على مشنقة

أن يجر النعوش لطفاء طيبون

أن تختنق زجاجة عطر ملفوفة في هدية؟

المحبة ضعيفة كالحياة”. (الديوان ص : 31 ).

إنها فلسفة الذات، تصوف ذاتى، وحكمة شاعرة، تريد رسم بورتريهات للعالم،عبر الحنين، عبر المشتهى الذى لا يجىء، عبر العابر الذى فرّ كصوفى يائس، فنراها تستدعى ايزيس، وبينلوبى زوجة أوديسيوس، لتحدث مثاقفة، وتوحّد وتواشج، عبر مسيرة الألم التاريخى الذى يمتد لذاتها الواهنة، لذا تنهى قصائدها الأخيرة، الساخرة، الحزينة، بقصائد الابيجراما، لتحيلنا إلى وهن نفسها، وتقطّعه، قصره لتدلل إلى البقية الباقية من الحياة، الوزن الزائد عليها، فالابيجراما، قصائد قصيرة معبّرة، واهنة، رقيقة، وكأنها تضع نهاية للحنين المشتهى، الوجع الذى أصابها بالوهن الممتد، بالانطفاء، بالموت، فلا تملك إلا بورتريهات قصيرة، وذكرى تسردها، عبر ذاتها التى تهريقها بسخاء، على سجادة الحياة، كصوفية بدوية تقف وراء نخلة، غرفة، ذاتها، لتعيد سرد تفاصيل الوهن، والضعف، والانكسارالكونى الهائل، عبر أهوالها الزاعقة، الصغيرة/ الكبيرة، لفقد المشتهى، الغائب، الراحل، الحب، والحنين الذى فرّ مع الصوفىّ اليائس، منذ سنوات غابرة. لذا لا غرو أن نراها حائرة تنادى، وتخاطب الذات والكون والحياة، تقول:

“بين الباب المغلق على هواء راكد/ ومرآة تقشّر وجهها كلما مسته التجاعيد/ يقبع الكون الذى ادخرته في دولابها /الحياة التى غلفتها  ليوم لم يجئ/ ليست على مقاسها الآن..” (الديوان ص : 81).

إنها الشاعرة التى تنزف الوجع على بياض الصفحات، وتهريق الذات جدولاً للعابرين، ليشربوا معها مرار الوحدة، الفقد، لوعة الحنين، الاشتياق، والاغتراب عن الذات،عبر الكون، والعالم، والحياة.

هبة عصام، في هذا الديوان، شاعرة صادحة، تسرد العالم عبر قصيدة مشتهاة، تنزف الألم، وتصرخ في برارى الذات والعالم، باحثة عن الحب، والحنين.

 

 

 

مقالات من نفس القسم