ناسكٌ وراهبةٌ وأرضٌ مشتركة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 54
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسام قنديل

الناسك

هل هناك قدسية خفية في الحانات حيث يعاقر أرباب الخمر ممن هم مثلي محبوبتهم الأولى..؟

سؤال يبدو هزليًا، لكن إن فكرنا فيه قليلًا سنجد الكثير مما هو مشترك بين أثر الخمر وحالات التجلي والكشف التي يتغنى بها المغرقون في عوالم القرب ممن يتعبدون له.. أليس كذلك..؟

غشاوة على العقل، العين ترى أبعد من الملموس، اللسان ينطلق بالكثير مما لا يمكن قوله في عوالمنا الواقعية، حالة النشوة والبعد عن كل ما يُنغّص الحياة بلا قيد أو شرط، مع غياب كامل لكل أنواع الذكريات، وخلق حاضر جديد ولو لبعض الوقت.

قد تؤذي الخمر المعدة بنفس القدر الذي قد يمسخ به الدينُ العقلَ عند عدم التعقل في خوض تفاصيله.. لذلك سأكون حريصًا على صحة معدتي ولن أصل إلى كامل اللذة التي تُرجى من الخمر.. سأتركُ بعض الفراغ للذة أخرى تتعلق بتلك الحسناء باهرة الجمال التي تتكئ على البار، وتوزع نظراتٍ مستهزئة على الجميع وهي تتناول كأسها الأول الذي لم تنته منه مع وصولى إلى الكأس العاشر الذي قررت أن يكون الأخير وحدي.. أحتاج بعض المجهود لأنهض، ودافعٌ كجميلتنا لأتجه إلى البار وأجلس إلى جوارها مبتسمًا بسماجة، وقائلًا بسماجة أكثر:

  • أهلًا.. لماذا تشربين وحدك..؟ المكان هنا لا يقبل الوحدة..!

الراهبة

أحب تلك النظرات الجائعة التي تتكاثر من حولي.. أكاد أتغذى عليها وأهضمها بسرعة ثم أخرج فضلاتها نظرات احتقار تتوزع على الجميع بالتساوي.. الحانة وسط رائع لوجبة شهية من النظرات المتلصصة، وخلاص مذهل لكم احتقار أَحمله للعالم، وأٌخرجه على عينةٍ منتقاةٍ من حثالته.. بالإضافة أن الخمر التي تُقدّم هنا رائعة بحق..  

انتقيت ثوبًا مميزًا لزيارتي الاسبوعية، لا أحبُ الكشف السافر، لكنني أعشق الكشف المتدرج الذي يُغري الناظر بالمجهول الذي لا يراه. نوع من إضافة التوابل إلى الوجبة التي أتناولها ليس أكثر.. توابل من نوعية فتحة الصدر التي تتوقف عند نقطة حرجة وتشي بثمرة مكتملة النضج، والتنورة الطويلة الضيقة التي تتوسطها فتحة تعتلي الركبة ببضعة سنتيمترات..

إشاراتي تشي بكثير من الخيالات التي تذهب بعقول أعتى الرجال بلا استثناء، وثمار جنة تتوارى خلف أوراق شجر كثيفة تَظهر بعض تفاصيلها مع كل هبة ريح، وهبات ريحي كان حركات مدروسة و لفتات هادئة وصلت بالبعض إلى حدود الإغماء كما أرى..

النظرات المُحتَقِرةُ تتصاعد إلى ما هو أقسى عندما يتجاوز أمثال هذا الرجل الذي ظل يحدق بي قرابة الربع ساعة وهو يحتسى خمره. الرجل حمل كأسه فجأة وكأنما ينتزع نفسه من توتره وخجله الخفي الذي لاحظته فيه عينيه واقترب.. جزء من ذلك الرجل وسيم الملامح يرفض وجوده هنا، لكن سلوكه تقليدي.. سلوك تعودت عليه وحفظت رد فعله.. وهو متسق مع تشبيهي الأول عن فقرة إخراج الفضلات التي أستمتع بها بقدر متساو مع كل نشاطاتي هنا.. إخراج عنيف بعد وجبة مبالغ في دسامة سخافتها..

الناسك

خمسمائة وسبعة عشر جنيهًا وخمسة وستون قرشًا.. كان أول مرتب تقاضيته منذ سبعة عشر عامًا في عملي الأول ولعامين كاملين. أذكر وقوفي في طابور تلقى المرتبات في المبنى الملحق بالمبنى الرئيسي للشركة الحكومية التي عملت بها لثلاث سنوات. مجموعة من العمال، وبستاني حديقة يعمل هناك منذ ثلاثين عامًا، ولم أره في في الحديقة ولو لمرة واحدة حتى توفي في نهاية عامي الأول هناك، يبتسم لي بحماسة مبالغ فيها ويشير بحماسة أكثر أننا هنا لـ “نقفش” أي ننال مرتباتنا..

ما الجديد في الأمر..؟

الجديد أنني عرضت الآن على تلك الفاتنة مرتب شهر كامل – منذ خمسة عشر عامًا – لقضاء ليلة واحدة فقط معي..

أعيش وحيدًا منذ انفصالي عن زوجتي السابقة الثانية أو الثالثة لا أذكر لأنهما تداخلا في فترتيهما واجتمعا على ذمتي لبعض الوقت، حتى اكتشفت الثانية وجود الثالثة ثم اكتشف الثالثة أن لها سابقة، و اكتشفا في ذات الوقت تقريبًا وجود ثلاث علاقات أخرى متزامنة مع وجودهما، فحدث الانفصال الذي لا أذكر تحديدًا من نالته منهن أولًا. المهم أن لدي يوم في الأسبوع أتخلص فيه من ضغط العمل والذكريات المسمومة باستضافة أمثال تلك الجميلة، وهو للصدفة يوافق اليوم.

نظراتها لا تشي بأي شئ، رغم أن نظرات من يمتهنَّ هذا العمل يسهل قرائتها.. ذلك الإغواء الرخيص المبتذل الذي يحملنه في العادة يعبر عن نفسه بكل قوة.. نظرات فاتنتنا لم تحو إغواءً من أي نوع.. احتقار ربما، اشمئزاز أو قد يكون خوف مبتدئين، أو ربما لا تمنهن هذه المهنة من الأصل.. استمتاعٌ خفيٌ لاحظته في ملامحها أيضًا، استمتاع زاد بشك هستيري عندما صرخت وقت أن مِلتُ على أذنها وعرضت الخمسمائة جنيه مقابل ليلتنا:

  • عندما نَهضتَ من هناك ماشيًا خلف نداء عضو – أيها الحقير – اخترت الشخص الخطأ، جلوسي هنا لمشاهدة أمثالك من الحيوانات التي تهرول خلف غرائزها، لا يعني أنني أحد أدوات إرضاء تلك الغرائز.. عد إلى مكانك ولا تحاول تعقيد الأمور على نفسك و إلا لانتهى الأمر بك بلا شئ تلبي ندائه..

هو الرفض إذا..!

لماذا يستخدمن تلك الجمل الطويلة للرد على عرض بسيط..؟ يكفي أن تقول لي لا، فهي ليست بحاجة لتثبت رهبانيتها لأننا أصلًا في حانة..

الراهبة

توقعت الجملة بشكل أقل مباشرة. لم يحيني، لم يبتسم، لم يدعُني لشراب.. قرابة الساعة في التأمل المتواصل لجسدي انتهت بعرض أن أرافقه مقابل خمسامئة جنيه في الليلة.. ربما  خاض حوارًا ما معي في ذهنه تحت تأثير الخمر الذي تفوح رائحته من فمه خيل له أنني مستعدة.. عامة لقد نال ما يستحق.

الناسك

لا أحد يحكم على إنسان من موقف واحد.. و ليس بينى وبينها إلا موقف واحد فقط، أحتاج إلى مجموعة مواقف تتيح لي حكمًا موضوعيًا على صاحبة الأهداب الحادة كالسيوف.. هذه الفتاة هي التحدي الأكبر لتلك الليلة التي عبث فيها جمالها وعطرها الشبيه بما تطلقه الذبابة لجذب الذكور ببقايا العقل الذي أحمل، وتكتلات الهرمونات التي حلت الآن مكان بقايا العقل المذكورة.

لا يمكن الحكم على شخص إلا بمجموعة من المواقف، و يكون الحكم أكثر موضوعية لو كان الحكم بناءً على موقف واحد متكرر والموقف سيكون عرضًا آخر بضعف السعر.

الراهبة..

و رد فعل آخر لا يقل قسوة على السابق، مع كأس من الخمر في وجه ذلك الحيوان الثاثر.. سأضيف ثمن تلك الكأس إلى تكلفة متعتي عند التنكيل بأمثاله..

الناسك

أنا أكره دبي، أكره مبانيها الشاهقة، وطبيعتها البلاستيكية القاسية التي تصيب القلب بالانقباض، وذلك اللغز الذي تعرضت له في العام الماضي عندما كنت أمارس هواية الصيد الليلي فقابلت تلك الحسناء الأوزبكية التي أخبرتني أنها تتقاضى ألفا درهم إماراتي في الساعة الواحدة..

بشكل مباشر بدون لف أو دوران، ودون إضاعة لحظة واحدة، لاطفتها فعرضت ساعة معها مقابل ما يقرب من عشرة ألآف جنية، ورفضت طبعًا.. فقط لأنني لم أكن أملك ذلك المبلغ آنذاك..

اللغز الذي يؤرقني حتى الآن هو: ماذا كانت ستقدم مقابل كل ذلك المبلغ..؟

الهرمونات تعشق المجهول، وعندما يتعلق الأمر برجال مثلي وهبوا أعضاءهم للتجارب وهرومانتهم للتقبات البركانية مع تجارب متعددة، فالمجهول هو التحدي الأكبر. المجهول قد يغطي على جمال الوجه مقابل الرغبة في استكشاف جسد غامض لا تفهمه، قد تغطي رائحة عطر وتمايل مدروس يظهر وعودًا بما لم تره عين فيما وراء الحجب على تعقل أي شخص اختار أن يكون مثلي.. سأعرض عليها العشرة ألآف و لنر هل سترفض راهبتنا المصونة التي أتت لتتعبد في حانة نصف مرتبي الذي كنت أتقاضاه منذ عشر سنوات..

يُختبر إخلاص الرجل عندما يملك كل شئ.. حكمة بلهاء قرأتها يومًا على صفحات التواصل مرفقة بصورة رئيس أمريكي سابق وزوجته.. أنا أملك كل شئ، و لست مضطرًا لأُخلص لأي شخص.. في هذه الحالة إما أن أهب حياتي للبذل غير المشروط أو للعشق الممتزج باللذة..

أنا منحتها مناصفة  لكلاهما..

الراهبة

يكفي هذا القدر من الوقت والإثارة على البار.. لازال هناك ساعة في جدول يومي أستطيع الاستمتاع بمزيد من الاستراخاء، أو الإثارة إن قرر صاحبنا مواصلة مفاوضاته معي لقضاء ليلة معه في مكان ما.. المرة القادمة أخطط لركلة تُنهي القضية عند حد ذلك المبلغ التافه الذي يتحدث عنه..

الناسك

كان كوب الخمر الذي تلقيته في وجهى نهاية مرحلة “الحرث” و هي المرحلة الأولى في عرفي للتفاوض على مشهد بورنو متأجج.. “الوضوح” أولا.. فإن فشل، انتقلت لمرحلة الأرض المشتركة..

نحن نملك بالفعل أرضًا جغرافية مشتركة وهي تلك الحانة، وأخرى مزاجية وهي الخمر، ونحتاج للحركة إلى مستوى آخر من الأرض المشتركة في طريقنا إلى الفراش المشترك.. أنا أملك في رأسي عرضًا يصلح كأرض مشتركة نبدأ منها. عرضٌ الحصول على المجهول وجعل الخبر الذي يساوي مالًا مجاني.. عرض سألقيه لمرة واحدة..

انتقلَت إلى طاولة عوضًا عن البار، وهذا أفضل.. سأتركها لبضع دقائق أٌشغل نفسي فيها بالإعجاب باتساقي الغير مسبوق مع نفسي في حالة السكر وحالة اليقظة.. في كلتا الحالتين أنا الباحث أبدًا عن أرض مشتركة تصلح للانطلاق للخطوة التالية أيًا كان الموقف و الاختلاف مع الطرف الآخر.. فاشل بامتياز أحيانًا ولكن في معظم الأحيان ناجح أيضًا بامتياز..

هل يصلح الحب كأرض مشتركة..؟

لا أعتقد أن تلك المرأة تؤمن بهذا الهراء – مثلي تمامًا – فمن تتلوى بتلك الطريقة لا تعرف إلا حبًا بطريقة واحدة فقط.. بالإضافة أن ما هو ميت لا محالة لا يصلح أبدًا كأرض مشتركة..

عرفت هذا بالطريقة الصعبة عبر ثلاث زيجات فاشلة، وعشرات العلاقات التي وصلت لمختلف المستويات، ولم يكتب الاستمرار لأي ممن ذكر فيها الحب، بل على العكس تمامًا.. كان الحب قاتلها في معظم الأحيان.

من جاء و قد قدّر له الموت، يحمل الموت كطاعون لا يكتفي بقتل حامله، بل ينشره بلا هوادة..  و في الحديث عن الحبِ مهما كان قويًا أو صادقًا.. الحبُ يقتله التجاهل، اللامبالاة، التبلد، التصنع، الهلع، التهربُ منه، الخوفُ منه، الخوفُ فيه، القلقُ عليه، حصره في شهوة أو في مصلحة.. الغدر، الكذب، الصدق، الفقر، الغنى، المرض، العجز، الموت.. قد يقتله المجتمع، الأهل، العمل، الطموح، الطمع، البخل، البلاهة، الغباء، الذكاء، البعد، القرب، الخيانة، الإخلاص، التملك.. بل وأحيانًا يقتله الزواج أو الطلاق أو الفراق أو الشقاق أو النفاق أو سوء الأخلاق أو حُسن الأخلاق..

بالتأكيد.. الحب ميتٌ لا محالة، و “الميت لا محالة” لا يُعوّل عليه.. والهالكُ يُكفَرُ به، والكفر يَستوجبُ إيجاد البديل الأكثر منطقية، وكل من أدرك تلك الحقيقة له بديله الذي يمنحه القدرة على مواصلة الحياة..

و أحد بدائلي أمامي الآن على طاولة بار..

فلسفة رائعة و يبدو أنني لفتت انتباهها، لأنها سمحت لي بالجلوس وأن أتحدث معها عن الحب الذي يموت يقينًا دون أن تغرس كعبها الحاد بين فخذيّ. الوقت مناسب لعرضي الذي لا يمكن رفضه.. عشرة ألآف جنيه في ليلة واحدة فقط. عرضٌ جعلها تحدّق في وجهي غير مصدقة في البداية، ثم تتراجع بظهرها على المقعد بابتسامة ساخرة متسائلة بصوت أكثر سخرية:

  • لا يعرض مثل هذا العرض إلا فاقد رجولة يريد ما هو مخالف للطبيعة، أو مجنون..

الأرض المشتركة تلوح في الأفق.. ضحكتُ رغم دعابتها السمجة و تلميحها بأنني مهوس بنوع مختلف من الجنس، أو فاقد رجولة، أو مجنون، ثم رددت بهدوء:

  • أنا كثير من الأشياء و الصفات ليس من بينها أنني فاقد الرجولة.. هو مجهول أعدك به كما تملكين أنت الكثير من المجاهيل التي أرغب في اكتشافها..

الأرض المشتركة تزداد صلابة، ابتسامتها تتسع، وتجمع أغراضها المبعثرة على الطاولة في حقيبتها دون أن ترفع عينيها عن وجهي ثم تومئ برأسها أن “هيّا بنا”..

لم أنهض، ولم تختف ابتسامتي، بل اتسعت و أنا أتامل إثباتًا عمليًا على مذهب الأرض الثابتة المشتركة التي أبحث دومًا عنها..

تعاظم إعجابي بذاتي و فكري حتى ندت عني ضحكة منتشية تبعتها بعبارتي:

  • جميل.. بعد أثبتنا أنك عاهرة كمبدأ.. الآن يمكننا التفاوض على السعر..

 

مقالات من نفس القسم