نخبُ سيدوري

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 61
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ميثم سلمان

أشعلَ صاحب سيجارةً بقداحته الصغيرة وهو مازال منطرحا في فراشه متناسياً أن شخصاً آخر ينام إلى جنبه. نفث دخان سجارته كأنه يزفر حسرة مريرة وهو يحدق في سقف الغرفة التي أنقشع ظلامها قليلا بفعل ضوء الشمس المتخلل عبر الفتحة مابين ستارتي النافذة. سمعَ تأفف زوجته (سناء) وهي تتقلب في الفراش.

“آسف”، أعتذرَ منها وهو ينسل بجسده النحيل والطويل من الفراش بتثاقلٍ متجهاً إلى المطبخ ليعد قهوته. غالباً ما يشرب قهوته وهو متربعاً فوق الأريكة  في غرفة الجلوس. يستغرق معظم النهار محدقا بالمارة بعينين عسليتين وغائرتين يبدو عليهما الانكسار والقنوط، كأنه سجينٌ ينظر الى خارج الحبس من نافدةٍ وحيدة بلحيته غير المشذبة، وشواربه المصفرة بفعل دخان السجائر المنفوث من أنفهِ الدقيق. إضافة لشعره العكش الذي أخذ الشيب يغزو جوانبه مما جعله يبدو أكبر كثيرا من العمر الحقيقي لرجل أربعيني.

يكاد يكون هذا كل ما يقوم به  صاحب منذ مجيئه قبل عام مع زوجته (سناء) إلى كندا كلاجئين. يجلس على الأريكة قرب النافذة مراقباً الناس من بعيد بصمت وحزن كأنه مشلول مثقل صدره بالهموم. عجلة أيامه مثل ناعورٍ يغرف من نهر الوجع. وجع مزمن يجهل مصدره. يجتر أعوام القهر بلا انقطاع. كل صورة تظهر له على لوحة الذاكرة تجر معها أياماً مريرة. وعنده ليست فقط الأعوام التي قضاها في المعتقل السياسي سابقاً هي وحدها أعوام القهر، بل كل سنين عمره. قضى في السجن خمس سنين بتهمة التهجم على النظام خسر فيها كل أمل في الحياة وليس فقط حلمه بأن يكمل دراسته الجامعية في كلية الأداب/ قسم اللغة العربية. ليستمر سخط صاحب وتذمره من الواقع  ومن النظام الحاكم حتى بعد خروجهِ من السجن عام 2003 وهروبه من العراق وقدومه إلى كندا عام 2009.  

لم تستطع سناء معاودة النوم فتأتي إلى غرفة الجلوس والشرر يتطاير من عينيها. تقول لصاحب بحزم هذه المرة، “إذا ما تتغير وتبطل هذا الطبع ،طلكَني. آني طلعت روحي من هاي العيشة. شنو آني مستفيدة من عندك؟ لا أطفال، لا شغل، لا سالفة حلوه، لا عيشة مثل الأوادم. ونص راتب الحكومة انت تخلصة على جكايرك. طلكَني، بعد ما أتحمل أكثر”.

يسحب صاحب نفسا عميقا من سجارته ويقول لها بهدوء: “أنتِ تعرفيين جيدا كم أحاول جاهدا لإرضائك! لكن هذه الأمور خارجة عن أرادتي. أرجوك تحمليني أكثر. أنتِ الإنسانة الوحيدة التي بقيت لي في هذه الغابة”.

ـ حتى هاي طريقتك بالكلام هم آني مليت من عندها. كافي تحاجيني بالفصحى. نص حجيك ما أفتهمه. احجي مثل الناس يارجل. أذا أنت فعلا رجل!

ـ بلا تجريح رجاءً. أدرك تماماً أنكِ لا تحبين كلامي باللغة الفصحى ولهذا أنا لا أتحدث معك إلا لماماً.

“غابة. لماماً. مو أكَلك أنت ميئوس منك. أنت صاير سويج رسمي،” قذفت سناء هذه العبارة بوجه صاحب وهي تخرج من البيت. فتح عينيه على وسعهما ولم ينطق بكلمة. شعر أنه يختنق حيث أتت تلك الشتيمة مثل طعنة قاسية في وجدان صاحب. لم يكن ليصدق يوماً أن زوجته التي عاش معها أربع سنين لا تشكك  في قدراته العقلية فقط بل في رجولته أيضا. فهذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها سناء تنعته بكلمة (سويج) التي تعني مجنون باللهجة العراقية رغم أنها تدرك ما لهذه الكلمة من تأثير قاس على صاحب. فقد كان ينعته بهذه الصفة أشخاص يمقتهم حد الموت لطالما سخروا منه عندما يسمعونه يحدثهم باللغة العربية الفصحى. يهزأون ويتهامسون فيما بينهم بعبارة واضحة، “هذا واحد سويج”.

تخرج سناء من البيت متوجه إلى المدرسة التي تواضب على الذهاب إليها منذ أشهر لتعلم اللغة الإنكليزية. تجد في ذلك متنفسا لها من ضغوطات حياة زوجية تآكلها البرود لفقدانها إلى عصب الحياة؛ الحب.

يصرخ صاحب كذئب جريح ثم يستلقي على الأرض ويتكور مثل حشرة. يتنفس بصعوبة ويشعر بانقباض حاد في صدره. بعدها يهم بالذهاب خارج البيت. أرتدى معطفه الثقيل فوق بجامة النوم ووضع حذاءه الشتوي على عجل. نزلَ من الطابق الثاني متجها خارج العمارة التي لم يغادرها إلا نادرا.

 أخذ يمشي على غير هدى لا يعرف أين يتجه. تعاظم في داخلهِ شعور اللاجدوى والوحشة القاتلة التي تناسلت بعد مجيئه إلى كندا. حينها طفت للسطح فكرة طالما طردها من ذهنه كلما راودته. لكن هذه اللحظة تجلت تلك الفكرة بكل وضوح لايرى سواها وكأنها ضوء ساطع يعمي بصره؛ فكرة الإنتحار. هذه الفكرة التي كانت تطرأ في باله كلما أشتدت حالة الإحباط واللاجدوى لديه لكنه كان يرجيء لحظةَ التنفيذ ربما بسبب قناعة دفينة من أن بذرةَ الحياة أقوى من بذرةِ الموت داخل الإنسان. فرغم كل ما عاناه  من قهر إلا أنه كان يصر على بث طاقة جديدة في مجاراته. كان صاحب يحسب أن هذا القهر سينقطع بمجرد سقوط النظام البعثي لكنه نشط مجددا بلون مختلف لتتأكد له حقيقة مرة بأن الموت متعدد والعراق واحد.

 كان صاحب دوام التذمر من كل مظاهر العنف والخراب التي صدم بها بعد خروجه من السجن بعد الإجتياح الأمريكي للعراق حيث كان يعلن عن تذمره هذا أينما حل. مرة صرح في المقهى عن رأيه الرافض لهيمنة المليشيات المسلحة في بعض مناطق بغداد. وفوجئ بعد عدة أيام بتلقيه مظروفا أصفر وجده صاحب على عتبة الباب، مكتوبا عليه بخط أزرق، “إلى صاحب”. فتحه على عجل ووجد فيه طلقة مسدس. عرف صاحب مغزى هذه الرسالة فقرر مغادرة العراق فورا مع زوجته. وصل إلى سوريا منتصف عام 2006 وإلحاح من سناء قدم طلبا إلى مكتب الأمم المتحدة للحصول على حق اللجوء الإنساني في أحدى دول اللجوء. بعد سنتين ونصف تمت الموافقة على سفره إلى كندا.

رغم ماوفرت له كندا من حرية للتعبير وفرصة جيدة لبداية حياة جديدة لكن صاحب صار يصارع معاناة جديدة؛ كالتأقلم مع شتاء قاس لا يحتمله جسده الواهن وشعور قوي باللاإنتماء وإستحالة تحقيق حلم طفولته بتدريس اللغة العربية في بلد يتحدث لغة آخرى. ومما يزيد طين أوجاعه بله هو أنه لا يستطيع التحدث باللغة العربية التي يعشقها سوى إلى شخص واحد فقط، سناء. أحاديث عابرة لا تتعدى حدود أمور البيت اليومية. أحيانا يتجنب الحديث معها كي لا يضطر لشرح ما يريد قوله. حيث يكره إستخدام أي مفردة عامية وإن أضطر يوما لذلك تراه يندم ويقرع نفسه كثيرا كمن أرتكب خطيئة كبرى. هذه الحالة ضاعفت من عزلته وانكفائه. تمر أحيانا عليه عدة أيام لا ينطق بكلمة واحدة عدا ما يهمس به من كلمات مع نفسه. أكثر من مرة تنتبه سناء لهمسات صاحب مع نفسه. تتنصت إليه بوجل سعيا لفهم ما يود قوله لكنها لا تفقه مقصده أبدا مما يزيد من قناعاتها بجنون زوجها. سمعته مرة يقول مع نفسه مثلا، ” منقبة في ساحل عراة. عارية في مسجد. هكذا أنا وسط الآخرين”.

ومرة أخرى يقول، “متى تضاجع رطوبة الفرح يباس أيامي؟”.

عندما تسمع سناء زوجها يتحدث مع نفسه بمثل هذه العبارات الغامضة ترتل بصوت خفيض، “اللهم أني أعوذ بك من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. اللهم أني أعوذ بك من شر الوسواس الخناس….”.  ثم تحرق بعض بذور الحرمل فوق الفحم وتقوم بتبخير البيت وهي تعيد قراءة سورة الإخلاص مرارا. لا يحب صاحب رائحة البخور لكنه لا يريد الخوض في جدل عقيم مع سناء. كل ما يقوم به حينها هو فتح النافذة  قليلا لإستنشاق هواء نقي.

فيما يتجول صاحب في المدينة صارت رغبة إنهاء حياته هي كل ما يشغله. قرر أن يتجه صوب نهر المدينة حيث كانت خطته أن ينتحرغرقا. لكن قبل إنجاز هذه المهمة عليه أن يكتب رسالة وداع لزوجته. دخل إلي محطة بنزين قريبة وتوجه فورا إلى الموظف الذي كان حينها منشغلاً بمحاسبة أحد الزبائن. طلب منه بلغة أنكليزية ركيكة جدا مستعينا بيديه أن يعطيه ورقة وقلما. مما زاد في صعوبة الأمر أن الموظف كان من أصل باكستاني ومستوى لغته الأنكليزية ليس بإفضل من لغة صاحب. بعد جهد تمكن الموظف من فهم ما كان يرمي إليه صاحب.

جلس صاحب في ركن من أركان المحل وراح يكتب:

“زوجتي سناء، أقول زوجتي ولا أقول حبيبتي لأنني لم أحبكِ يوماً. كما أنني لم أكرهكِ أبداً. طوال الأعوام التي عشناها معا كنتُ أعطفُ عليك لأنكِ تورطتِ برجلٍ ضائع. رجلٌ حائرٌ لا يعرف إن كان مجنونا أم عاقلا ولا يجد حتى أي مبررا للعيش لحظة أخرى. كل يومِ يزداد عليّ ثقل هذه المهزلة التي تدُعى الحياة. فلم أعد أحتملها أكثر. لا مبرر للعيش لحظة أخرى في حياة خالية من اللذة. هذا الدرس علمته أمرأة الحانة (سيدوري) للبشرية منذ آلاف السنين. كانت أكثر فهما للحياة من كَلكَامش الساعي للخلود في حياة تعيسة. أنا لست مثل هذا الرجل. فلا أريد الإستمرار في خديعة نفسي لمجرد البقاء حيا وتجرع آلام هذه الحياة. كل ما يمكنني القيام به هو الأكل والتدخين والتغوط والنوم. حتى لحظة ممارسة الجنس التي نمارسها في أوقات متباعدة جداً لم تعد تجلب لي اللذة. ليست أكثر من عمليةٍ غريزيةٍ أمارسها بآلية محضة. بلا طعم  ولا إثارة. حاولتُ مرارا أن أعيش كما ينبغي فقط لأرضيّ أهلي وأرضيكِ لكنني فشلت. أعترفُ أنني لا أجيد لعبة الحياة. فهي صعبةٌ ومملة. فما داعي للمماطلةِ في لعبة أخسر فيها دوماً. لقد سأمتُ هذا الوجع فحسمتُ أمري بأن أنهيه إلى الأبد. كما تعرفين أنني نجوت من الموت مراراً ولي الحق الآن بإحضار الموت بنفسي. مارسي حياتك كما ترغبين وحاولي أن تتخلصي من ذكرياتنا المتعبة بأسرع وقت. لا تحزني عليّ وسامحيني على كل شيء. صاحب”

طوى صاحب الرسالة وكتب عنوان بيته عليها وسلمها للموظف الباكستاني. ثم حاول بصعوبة إيضاح طلبه للموظف. هذه المرة كان يريد من الموظف إرسال هذه الورقة على العنوان المكتوب عليها. كان الموظف يصغي بتعاطف وإمعان لكلمات صاحب كي يتمكن من فك رموز عباراته مراقبا حركة يدي صاحب. أنتهت المحادثة المتعثرة بأن يدس الموظف الورقة في جيبه قائلا: “No problem brother

هام صاحب على وجهه بين الناس والمحال التجارية والبضائع الغريبة عليه. تجول في وسط المدينة كسائح يستكشف مدينة يطأها أول مرة. أشتد البرد عليه خصوصا في قدميه وساقيه رغم أن الكنديين في ذاك اليوم النيساني وجدوا الطقس معتدلاً للخروج لممارسة رياضة المشي أو الركض في الهواء الطلق. فلم تكن درجة الحرارة قاسية جدا عليهم. كما أن أول علامات الربيع بدأت تظهر وهي ذوبان الثلج التدريجي وإمكانية مشاهدة جزءا من حدائق البيوت وحافات الطرق المغطاة بالحشيش. دخل إلى أول مجمع تجاري صادفه ليتدفئ قليلا. مجمع (الستي سنتر) المرتبط مع البنايات الأخرى بأنفاق تحت الأرض وجسور معلقة توفر فرصة التجوال في وسط المدينة والتنقل بين المجمعات التجارية والبنايات دون الاضطرار للخروج إلى الشارع. راح يمعن النظر في عيون النساء التي تعبر عن انطباعات متباينة أكثر مما يمكن أن تقوله عيون الرجال.

 أستلذ لمتعة التحديق في عيون النساء، وكأنه أكتشف لعبة جديدة. لعبة قراءة إنطباعات النساء عنه لحظة تلاقي نظراته مع نظراتهن. فالمرأة لديه مازالت حلما. وهذا حال من لم تمسا يداه جسد أمرأة قط لأكثر من ستة وثلاثين عاما حيث المرأة الأولى والوحيدة التي مسها في حياته كانت سناء. وهي لم تكن عشيقته بل كانت مجرد زوجة رضخ للزواج منها تحث ضغط أخوته بعد خروجه من السجن في محاولة منهم لخط حياة جديدة ومستقرة لصاحب. تزوجها مرغما وظلت في داخله حسرة أن يرتبط بإمرأة تنال أعجابه في البدء ثم يخوض معها قصة حب حقيقية تتخللها مغامرات عاشقين.

بعد خروجه من مجمع الستي سنتر حاول أن يعثر على الطريق المؤدي إلى النهر لكنه فشل. دخل ألى بار صغير وتوجه إلى فتاة كانت تقف خلف منضدة طويلة وتقدم الجعة لرجل مسن يجلس في طرف المنضدة. حيته بلطف وطلبت منه الجلوس لكنه ظل واقفا. سألها عن الطريق نحو أقرب جسر. بصعوبة تمكنت الفتاة من معرفة مغزى ما كان يستفسر منه صاحب. وهو بدوره لم يكن يعرف ما تعنيه الفتاة بعبارات الأرشاد. مما جعلها ترسم على ورقة مخططا تبسيطيا للطريق نحو النهر. رسمت له خريطة عبارة عن خطين كدلالة للشارع وعلامات تشير إلى مسار رحلته. تنتهي خطوط الشوارع بخطين عريضين للنهر ثم رسمت حرف أكس كبير وسط النهر. أخذ الورقة منها وهو يبتسم بفتور ناظرا إلى عينيها الواسعتين والهادئتين.

فيما يسير بهدوء خارجا من البار فكر مع نفسه إنه لو كانت هذه الفتاة تعي إنها أعطته خريطة تؤدي للموت لما ساعدته أصلا.

 كان متيقنا أنه سيموت إن ألقى بجسده إلى النهر كونه لا يعرف السباحة. طوال رحلته نحو النهر كان يعزز من قرار الإنتحار ويهزأ من أي ضرورة للبقاء على قيد الحياة. تقافزت أفكارٌ متضاربة على شاشة ذهنه. منها مثلا مقارنة سعيه نحو الموت ومقارنتها مع سعي كلكامش نحو الخلود. فكرَ: “ما جدوى أن نبقى للأبد في هذه الحياة؟ حقا أن سيدوري هي أول من علمنا درس الحياة.” ثم ردد بصوت خفيض كلمات سيدوري التي قالتها لكلكامش وهو في طريقه للحصول على عشبة الخلود:

 “كن فرحاً مبتهجاً نهار مساء

وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك

وارقص والعب مساء نهار

واجعل ثيابك نظيفة زاهية

واغسل رأسك واستحم في الماء

ودلل الزوجة التي بين أحضانك”

كان يتأمل كل كلمة يلفظها مؤكدا على مخارج الحروف كمن يكتشف معانينهن أول مرة.

…نصيحة سيدوري كانت عبارة عن أبجدية أولى لتعليم جوهر الحياة وتقديسها. فالحياة هي ليست في أن تعاش فحسب بل هي في كيفية أن تعاش. لا جدوى للخلود إن كنا نريد السعي لمجرد قهر الموت ولا مبرر لأستدعاء الموت إن كانت هناك لذة بالعيش.  فسيدوري لا تؤمن بالخلود ولا بالإنتحار… راودت هذه الأفكار صاحب وهو يقف على جسر “هاي لِفل” ناظرا إلى نهر ” نورث سسكاجوان” الذي يغطيه قطع متناثرة من الثلج. إنه حال نهر مدينة أدمنتون في شهر نيسان حيث الثلج الذي قتل نهر المدينة طوال أشهر الشتاء يبدأ بالذوبان.

في تلك الأثناء شاهد صاحب قاربا طويلا  فيه فتاتان شقراوان عاريتان سوى من قطعتي قماش ضئيلتين تغطيان منطقتي الوسط والصدر. واحدة كانت تجلس في طرف القارب منشغلة بالتجديف والأخرى تجلس في الطرف الآخر من القارب تتمايل بجسدها العلوي إستجابة لموسيقى تنبعث من جهاز استريو صغير موضوع وسط القارب. كانت تتراقص بهدوء وهي تمسك بيدها اليمنى قنينة خمر وباليد الآخرى سيجارة. أوقف هذا المنظر سيل أفكار صاحب وراح يمعن النظر فيه.

“ماهذا الإصرار العظيم على الحياة؟ أين اللذة بالخوض في نهر نصفه منجمد؟”، تساءل صاحب مع نفسه بصوت مسموع وهو يشاهد أحدى الفتاتين وهي تجاهد لدفع قطع الثلج بعيدا كي تصنع ممرا لقاربها.

هذا المشهد أثار صاحب لكن سرعان ما أختفى من أنظاره حيث مر القارب من تحت الجسر. أدار صاحب جسده فورا محاولا أن يعبر الى الجهة الثانية من الجسر كي يرى القارب مرة ثانية غير مبال لسيل السيارات التي كانت تمضي جنوباً في خطين متوازيين على الجسر بسرعة 50 كيلو متر بالساعة. وهو يسعى للعبور إلى الجهة الثانية اصطدم بحاجز عبارة عن سلكين حديدين رفيعين ، الأول بأرتفاع نصف متر عن الأرض والثاني يعلوه بنصف متر. دس جسده بخفة بين السلكين وقفز إلى منتصف الشارع حتى كادت أحدى السيارات أن تدهسه لكنها توقفت في آخر لحظة. مد سائق السيارة يده اليسرى مبرزاً أصبعه الوسط وهو يصيح نحو صاحب، ” Fuck you. Mother fucker.

لم يأبه صاحب لتلك الشتيمة ولم يستوقفه ذاك الحدث نهائيا فجل ما كان يسعى إليه حينها هو رؤية القارب مرة ثانية. عبر الشارع ووضع يديه على حافة الجسر المقابلة وراح ينظر إلى الأسفل منتظراً القارب كي يظهر من تحت الجسر. شاهد القارب وهو يبتعد عن نظره ببطء. حدق في وجه الفتاة التي تتراقص وكانت فتاة يانعة تنبض بالحياة وممشوقة القوام. رغم أنها كانت ترتدي نظارات شمسية داكنة اللون إلا أن صاحب كان يعتقد جازما إنها كانت ترمقه بنفس نظرات الإعجاب. هذا ما كان يظنه خصوصا وهو يرى الفتاة وهي تسحب بيدها اليسرى الخيط الذي يربط السوتيان محررة إياه من صدرها ثم تلوح به في الهواء عارضة نهديها لصاحب. صعق صاحب لهذا المنظر. بعدها رفعت الفتاة قنينة الخمر عاليا وكأنها تقول لصاحب، “Cheers!

كانت هذه الحركة المثيرة بمثابة شحنة قوية من الحياة مرت في جسده خلال لحظة. حينها وبلا وعي منه خلع صاحب معطفه الشتوي ولوح به في الهواء قبل أن يرميه إلى النهر صارخا بأعلى صوته: “نخب سيدوري”

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون