لمحت يدها

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسن صبرى

وقد جاءت..

قريبنا؛ الولد الصغير، يصعد من شقة جدته،  وعن ضيفتها يحكى بوعى مدهشٍ  يفوق أعوامه التسعة .. وصلت البارحة .. ستبيع كل ما تملك هنا: بيتاً قديماً ، وتريد أن تنهى الإجراءات خلال أسبوعٍ واحدٍ لا أكثر . وقال إنها سألته عنى  وتريد أن أنزل لأسلم عليها .

 

***

ولها معى ذكريات .

التقيتها أول مرة من عشر سنين . كان اكتشافاً مبهراً . . قريبة لأمى  عيناها ملونتان ، ذات حسن وفطنة ولطافة . والدها ليس مصرياً . كانت تلك زيارتها الأولى  منذ رجوعها لوطن أبيها من سبع عشرة سنة  . عراها حنينٌ لأيام طفولتها القاهرية ، و صباها السكندرية . أخذت إجازة قصيرة من عملها بالمطار هناك ، وتتوق لرؤية الأماكن والناس .

 لم نفترق طوال تلك الزيارة القديمة.. ركبنا المترو ومشينا في شوارع وسط البلد ، وبلغنا ميدان الأوبرا، فالعتبة، واشترت ملابس من الموسكي؛ شيئاً من رائحة مصر .

طفنا بالقاهرة القديمة وآثارها: المساجد ، والأسبلة و الوكالات . ومضينا إلى القلعة  وحي الحسين وخان الخليلي.. وأكلنا معاً فى المطاعم الشعبية ، وجلسنا على المقاهى .

وكانت حريصة على زيارة الأقارب فى القاهرة والمحافظات .

 

***

عرضت عليها الزواج .

كنت جاداً . . دهشت . . قالت : سأتمُّ 40 سنة بعد أسابيع . . وأنت ؟  25 ؟

قلت لها فارق العمر لا يهم . . قالت : ليس السن وحده .. فكرة الزواج نفسها.

وحدثتنى عن أكثر من مشروع زواج لم يكتمل . كانت تحلم ببيت سوف تبنيه،  وحديقة سوف تزرعها زهوراً ، وتتفرغ لهواية الرسم بعدما تخرج إلى المعاش.

 

***

اليوم الثانى … هل أنزل ؟

 

***

فى اليوم الثالث ، أخبرنى الولد أنه ذهب معها فى مشاويرها ، وأنها غيّرت نقوداً من مكتبٍ للصرافة . . وأكلا معاً دجاجاً مشوياً ، وحلوى ، وتناولا مشروباتٍ،  فى مكان فخم معظم قصاده من السائحين .. وذهبا للملاهى واشترت له هدايا .. قال إنها ستٌ طيبة وتصرف كثيراً .

 

***

 

أشتاق ضحكتها . .  حسبى منها ضحكة . تضحك.. تطلق عصافير تغرد فى بستان ليمون مزهر ، وقطيطة تلاحق ذيل رداء أحمر ، لأميرة حكاية أسطورية ، ينساب فوق بلاط من مرمر .

تضحك فأحبّ الدنيا .

 

***

ستصعد هى إلىّ . . وأراهن بودٍ كان بيننا وتناغم فكر .

 

***

ولى عليها عتابٌ قديمٌ . . وجديدٌ . . ويصدُّنى عنها حالة كالخصام .  تهرَّبت فى الماضى من إعطائى عنوانها أو رقم هاتفها قبل سفرها، وكذلك وأنا أودِّعها في مطار القاهرة . قالت يومها إن الحياة فى البلد الآخر مختلفة ، والناس هناك يرتابون بأشياء عادية .

لم أفهمها أو تقنعنى إجابتها ولكنى لم أناقشها .

 

***

خامس يومٍ . . الولد يقول إنها باعت البيت وقبضت الثمن.. أفكر بالنزول . . ولكن . . ليس الآن . . ربما غداً . . أو بعد غدٍ.

 

***

فى الليل ، من شباك حجرتي الخلفية ، أسمع صوتها  عبر النافذة السفلية .  ماذا بعد الخمسين ؟ متى أستطيع أن أعيش حياتى كما أريد ؟ ليس لى زوجٌ ولا ولدٌ.. أمى و أبى ماتا.. معاشى كبير وعندى فلوس فى البنك . . بنيت بيتا جميلاً . وزرعت أزهاراً . . أرسم . . شقيقى الوحيد سافر لدولةٍ جارةٍ . . أولاده رائعون وكانوا سلوتي.

 

***

أتراها ستضحك ؟

 

***

لم تصعد إليَّ . . ما أقصر ما يفصلنا وما أنأى . . عشرون درجة سلم .. كبعد الأرض عن النجوم .

 

***

فى الليل قالت : ستمطر الآن .

وكأنها استمطرت السماء فاستجابت . وامتدت يدها من الشباك تستقبل قطرات مطرٍ أمشيرية . . لحظة و انسحبت . . هالة نور . . ومضة نشوة . . فى الضوء الشاحب . . وتلاشت . . أغلقت شباكى واستلقيت فى فراشى ، أغالب وجداً وشجناً .

 

***

فى الصباح كان الولد حزيناً . . قال ” طنط هانية ” ركبت الطيَّارة فى الفجر وسافرت . . ولن ترجع .

وقال والدموع فى عينيه : كنت أريد أن أسافر معها ؛ لأنها وحيدة  وكبيرة فى السن  وشعرها أبيض . . وليس عندها أولاد .

 

***

رحلتْ ولها فى فى النفس وحشة . . لم تطلعْ ولم أنزلْ ولم أسمعْ ضحكتها .  وخسرت مع نفسى الرهان . . وفات الأوان .

من منا كان عليه أن يذهب للآخر ؟!

 

ـــــــــــــــــــ

حسن صبرى

قاص وروائى – مصر

ــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم