يَوْمٌ عادٍ

عبد الهادي المهادي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الهادي المهادي

 تعلّمتُ أن أقرأ في أي مكان وتحت أي ظروف، فلا أنتظر حتى تتيسّر أجواء مناسبة لأدشّن كتابا مهما كان موضوعه، بينما أعرف صديقا لا يستطيع القراءة حتى يُوفّـر أجواء رومانسية؛ موسيقى صامتة، قهوة… ولِمَ لا وَرْدٌ ونُوّار في كأس ماء مُعطّر..!

ذات صباح، وكان يوم جمعة، توجّهتُ إلى العمل باكرا، وصلتُ قبل موعد الدخول بساعة تقريبا، وهذا عينُ ما كنتُ أرجوه، كان الجو خريفيا حزينا ورائعا، وهو الفصل الذي يُمَثِّلُني (لأمرٍ ما، تزداد المرأة جمالا لحظة بكائها، هذا ما كنتُ أفكر فيه دائما عندما تكون زوجتي غارقة في دموعها، ولا تظنون ـ رحمكم الله ـ أني دائما أكون السبب! ولأمر ما كنتُ أيضا أربط بين الخريف وبكاء الأنثى) جلستُ في حديقة “راس المْصلى” القريبة من مسجد محمد الخامس بإيبيريا، بعد أن مسحتُ الكرسي الخشبي المُبلل بندى الصباح، كان يَعزُّ عليّ ذلك، فمسحت فقط مقدار ما يسعني، ثم غرقتُ سريعا في عالمي، تاركا العالم حولي يستيقظ “على خَطْرو”. ولكن حتى ولو اخترتَ أن تترك الخلق للخالق، كما يقول الدّراويش، فتأكد أنهم لن يتركوك وشأنك؛ فما هي سوى لحظات حتى أخرجني من بئر عزلتي نداءُ شابٍ يقول لي بصوت جهوري مستغربا:

ـ أصَحْبِييييي، نايْض على الصّْباح (وضغط على حرف الصاد بقوة) باشْ تْـقْـرا دِيكْ الكْـتابْ !

ـ وانْـتَـا نايْـضْ على الصّْباح (قـلّدتُه بدوري) باش تْـسْمـاعْ ديك الدّيسْكو ـ قلتُ له بعد أن تأملته مبتسما، لأنه كان يضع على أذنيه سمّاعتين، ويردّد أغنية، ويتمايل برأسه طربا، كنتُ متأكدا أنه يستمع للرّايْ.

تفحّصني جيدا، ويبدو أنه اكتشف فيّ ضحية سهلة ـ هذا ما خمّنته؛ كتابٌ، ونحافةُ جسم، ولباسٌ كلاسيكي، وشعرٌ مُسرّح، وحذاء مُلمّع.. كلّها علامات تُغري بالمحاولة !

قال لي بصوتٍ مُؤدبٍ هذه المرّة، وتفرّستُ فيه الخديعة، عرفتُ من حالته أنه يستدرجني:

ـ أجي أخاي أجي، كيظهر أنك ولدْ ااااالنّاس ! وأحنى رأسه يفتش في هاتفه وكأنه لا يفكر في شيء، ولا يخطط لشيء.

كان ينوي سرقتي، ظن المسكين أن جيوبي ممتلئة، ولم يتوقّع أبدا أني كنتُ ـ حينها ـ صفر اليدين؛ لقد كنت “مُعلّما” في آخر الشهر… لم تترك له “بْـلِـيَّـةْ” اقتناء الكتب وجَمْعها ما يُوَفَّر.

نهضتُ مسرعا لا ألوي على شيء، فقد كنتُ، ومنذ طفولتي، أميل إلى السلامة، فلم يسبق لي ـ مثلا ـ أن تعاركتُ مطلقا مع أحد. غادرتُ تحت إلحاح ندائه: صافي مْشيـتـي.. خَـفْـتـي وْلَّا… !!.

طَبعا خفت… ولا شك مطلقا في ذلك.

غريبٌ هذا المَخلوق؛ يستدعيني ليسرقني ! هذا ما حيّرني فعلا وأنا أسرّع من خطواتي. تساءلتُ مع نفسي: هل أبدو سهلا وساذجا إلى هذه الدرجة؟

بعد صلاة الجمعة، توجهتُ إلى المدرسة مباشرة، قلتُ: أذهب قبل مَقْدم التلاميذ أختلي بكتابٍ، أو أعدّ درسا، أو أصحّح أوراقا.

 بدأتُ في صعود الدّرج، ومعه بدأتُ ـ تحت تأثير الوحدة ـ في التّغَنّي.

كنتُ ما أزال أعيش الأجواء الروحية للمسجد:

ـ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه…

وأعجبني صوتي، فبدأتُ في تجويده، وبالغتُ في تحسين مخارجه، وتطويل المُدود، وتوسيع مساحة الوقف والانقطاعات، أحسست ـ بالفعل ـ أنني تفوّقتُ على “الفقيه البْرَّاقْ” ـ رحمه الله !

كان الصمتُ باهرا، والصّدى مؤنسا، ممّا أغراني بالتّمادي:

ـ قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قلتَ لصاحبكَ أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة فقد …

وفجأة، وجدتُ نفسي أمام حُجرة وكأن على رؤوسِ تلامذتِها الطير، حدّقوا فيّ ـ هم وأستاذهم ـ باندهاش، ثمّ انفجروا في إعصار من الضّحك.

هناك من سبقني إلى المدرسة وتفرّجَ عليّ وأنا خالي الذهن، مستريح النفس.

مَدحوا صوتي، وشجّعوني بمكر… ثم تابعتُ طريقي في حياء وصمت.

في المساء، خرجتُ في نزهة إلى منتزه الرميلات، جلستُ مُستمتعا رفقةَ أفرادِ أسرتي تحت أشجارِ الصّنوبر البهية، كانت بعض النّوارس التّائهة ما تزال تُحلّق فوقنا، بينما  استمر طائرٌ صغيرٌ – على غير العادة ـ يصفّرُ في حبور رغم الشمس الغاربة. كنتُ غارقا في جمالية المشهد وأنسه، وبيدي كتابٌ أُؤجّل نهايته، عندما أفزعني صوتٌ منكرٌ “يأمرنا” بصيغة كريهة – عبر مكبر الصوت – بضرورة مغادرة المكان، لأن وقت النُّزهة انتهى؛ هكذا قال ! كانت الساعة تؤشّر إلى بُعَيْدَ أذان المغرب بقليل؛ لقد ذُعرتِ النوارس فرحلت، وارتعب الطائر الغِرّيدُ فخنس.

   وقفتُ مبهوتا، وسؤال فاغرٌ فاه أمامي: منذ ساعتين وأنا جالسٌ هنا… والناس من حولي منذ ساعات يفترشون الأرض في فرح وسرور، والأطفال لا تسعهم أرضٌ ولا سماء سعادةً ونشاطا.. فهل “فيروس كورونا” ينشط فقط بعد نزول الظلام مثل مستر هايد ؟

   قاطع أحدهم تأملاتي مُزمجرا: آسي محمد، تْحَرْكْ من تْمْ.. واش مَـكَـتْـسْـماعْـش..؟!

نظرتُ إليه – باحتقار والحق يقال – دون أن أجيبَه، بينما كانت يدايَ مَشغولتين بجمع حوائجي، وهو ما أثار حنقه، وفتح فمه ليقول شيئا، ولكن “عين الهاتف” التي انفتحت أمامه فجأة جعلته يتراجع وينسحب هابطا نحو كوكبة من “المخازنية” يتسابق أفرادُها حول من يكون أكثر صُراخا في وجوه الناس..!

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون