أحمد رجب شلتوت
“مكان وسط الزحام.. تجربة ذاتية في عبور الصعاب”، عنوان طويل لكتاب الدكتور عمار على حسن الروائي والباحث في علم الاجتماع السياسي، وإذا كان الشطر الثاني من العنوان يشير إلى أن الكتاب يتضمن السيرة الذاتية لكاتبه، فإن شطره الأول يحيل إلى الفقرة الأولى من رواية “شمردل” للكاتب نفسه، وفيها يقول الراوي “تهرب أيها الشارع الوسيع من تحت قدمي، تغور وتلقي بي في قيعان بعيدة مفعمة بالأسى. كنت بالأمس تهمس لي بكل ما انطويت عليه من أسرار، وتقص على مئات الحكايات عن الكادحين، الذين مروا بك يوما، منهم من رحل ولن يرجع أبدا، ومنهم من يعارك من أجل أن يجد لنفسه مكانا في الزحام”، هذه الفقرة تبين أن المكان وسط الزحام يمثل هدفا يستحق العراك من أجله، أما عنوان الكتاب فيوضح أن الكاتب، وهو واحد من هؤلاء الكادحين قد انتصر في معركته مع الحياة، ووجد لنفسه مكانا، وفي ذلك بيان لهدفه من كتابة السيرة، وثمة تشابهات أخرى بين النصين لا حاجة بنا لذكرها، فليس الهدف هنا رصد التقاطعات بين الرواية الأولى للكاتب وبين سيرته الذاتية، وإنما الوقوف على أهدافه من كتابة السيرة، وهي كثيرة ومتعددة، منها الدوافع العاطفية التي يراها جورج ماي مرتبطة بشعور الكاتب بمرور الزمن وقوامه التلذذ بالتذكار، أو الجزع من المستقبل، أو استعادة الكاتب لتفاصيل حياته الماضية، وكأنه يعيش عمره مرتين بحسب تعبير ميخائيل نعيمة، مرة حقيقيا ومرة بالتذكر.
وكان الناقد الراحل عبدالمحسن طه بدر يرى في إرسال تجربة صاحب السيرة إلى المتلقي بما فيها من معاناة ونجاحات غريزة إنسانية قديمة، ربما ترجع إلى ما قبل الكتابة، وكان ينقلها عن طريق إشارات يؤديها أو نقوش يحفرها على جدران الكهوف.
وهناك أيضا دوافع خارجية تنمي تلك الحاسة الأوتوبيوجرافية عند الكاتب، وتتمثل في رغبته في نقل تجربته إلى الآخرين، وأيضا محاولة العثور على معنى للحياة المنقضية، وأيضا من الأسباب المحرضة على كتابة السيرة الذاتية أنها تمثل فرارا ـ إلى الماضي ـ من شبح الموت، ودفعا للمبدع لتأكيد الذات.
هنا أيضا تحيلنا سيرة الدكتور عمار إلى روايته الأولى شمردل، خاصة قول الراوي “كثيرا ما انتحب أبي، وراح يهذي هامسا: آه يا عكازي”، وكان انتحاب الأب لاستشعاره قرب موت الإبن المريض، هذا الموقف وسواه من مواجهات مع الموت تعددت في صفحات الكتاب. ربما لذلك جاءت السيرة مبكرة نوعا ما بحسب ما استشعر كاتبها، فذكر بأيام طه حسين التي كتبها العميد وهو في مطلع الأربعين من عمره. بينما كل من كتبوا سيرتهم كانوا قد جاوزوا الستين. وهذا ما يؤيده الدكتور محمد الباردي بقوله “الهاجس الأساسي الّذي يقف وراء كتابة السّيرة الذّاتيّة في الأدب العربي هو هاجس الإحساس بوطأة الزّمن وبداية رؤية شبح الموت، وهو هاجس قد يصرّح به الكتّاب وقد لا يفعلون ولكنّه يظلّ دائما باعثا على الكتابة والحكي والتأمّل.
فن الذاكرة
السيرة الذاتية هي كتابة الذات عن نفسها، وكما يراها جابر عصفور هي فن الذاكرة الأول، لأنها الفن الذي تجتلي فيه الأنا حياتها، صراحة وعلى نحو مباشر، مسترجعة هذه الحياة في امتدادها الدال”، لكن الذاكرة لا تستعيد التفصيلات كاملة، بل تجردها وتنتقي منها، لتشيد معرفة بالأحداث الماضية، معرفة كما يطرحها بول ريكور تشبه الإدراك والتخيل والفهم. فتصبح علاقة كاتب السيرة الذاتية بما تستحضره ذاكرته أشبه بعلاقة المؤرخ بالأحداث الماضية، لذلك نجد أن أغلب السير خصوصا التي كتبها أدباء تستحضر الطفولة، وتبدأ إما من لحظة الميلاد وإما من تاريخ غير محدد بدقة، لكن عمار على حسن، ينطلق من تاريخ محدد بدقة، وهو ليس يوم الميلاد الفعلي، بل يوم الميلاد الحقيقي، يقول في مفتتح سيرته ” ذات صباح بارد من شهر أكتوبر 1973 أدخلت نفسي المدرسة، ليخرجني أبي منها بعد خمس سنوات، فيعيدني أحد المدرسين إليها، برغبة مني، ولو أن عزيمته تراخت في إرجاعي، أو استسلمت أنا لضغط أبي، وكان ذا جبروت علينا، لتغير مسار حياتي تمامًا، فلم أزد عن أن أكون أجيرًا ينكسر ظهره في حقول الفلاحين تحت الشمس المستعرة، أو عامل تراحيل يجلس علي قارعة الطريق في مدينة متوحشة في انتظار من يشير إليه بطرف إصبعه، فيهب مسرعًا إليه، ليجد ما يضعه في قعر جيبه، ويملأ به بطنه، بينما ابتسامة خجلي تجرح شفتيه المقددتين من طول الانتظار والأسي، ولو حسن حالي لصرت تاجر حبوب يجول علي الزراعات بحمار يئن تحت ثقل المحاصيل التي يجمعها، ويذهب بها إلي السوق، متطلعًا في لهفة ورجاء إلي الداخلين”.
هنا لا يمكن لمخزون الذاكرة أن يمده بتفاصيل كثيرة ودقيقة، فتلجأ إلى التجريد، و يلجأ الكاتب إلى الانتقاء من بعض وقائعها فلا تصبح السيرة استعادة للحياة، بل هي إعادة صياغة لها قد لا تخلو من بصمة مخيلة المبدع، لكن عملية التذكر نفسها تصبح دالة على خصوصية الوعي الفردي للذات، وإلى وجهة النظر إلى الموقف نفسه، فالكاتب هنا يبدأ سيرته من لحظة إدخاله نفسه إلى المدرسة، وهي اللحظة التي يصفها بأنها ” كانت لحظة انتشالي من بؤسي وضعفي وضيقي إلي براح ستمنحه المدرسة لي في أيامي اللاحقة”، فكأن ميلاده الحقيقي تم يومها وبإرادته هو، تلك الإرادة التي أعانته على تخطي كل الصعاب التي واجهته عبر سني عمره اللاحقة.
محاكاة الدراما
للسيرة الذاتية كيانها الفني المستقل عن الرواية، فكلاهما فن أدبي مستقل رغم التواشج العميق بينهما وإفادة كل منهما من الآخر، وإفادة السيرة الذاتية من تقنيات الرواية حالت دون أن تصبح السيرة مجرد متن توثيقي يكاد يخلو من الفن، وقد أفاد عمار على حسن في سيرته من خبرته الطويلة المكتسبة عبر كتابة عشر روايات طوال سبقت صدور السيرة، لكنه لم يرد لنصه أن يكون رواية مثل سابقاتها، ولا حتى رواية سيرة ذاتية، بل أرادها سيرة خالصة تحوي خلاصة تجاربه الحياتية، وهي تجارب كثيرة لا تخلو من أبعاد درامية، لذلك أعتقد أنه استعار لسيرته إطارا دراميا يحتوي أحداثها، ويتشابه الإطار مع البناء التقليدي للدراما ثلاثية الفصول، وهكذا جاءالفصل الأول (طفل كبير) ليمثل استهلالا للحبكة، وفيه يستعيد حياته الأولى، فيرصد علاقته بأبيه، الذي ينتظر منه في المستقبل أن يكون عكازه وسنده، ويحكي عن دخوله المدرسة وما واجهه من صعوبات في التعلم استطاع أن يتغلب عليها، ومتذكرا لحظة تعلقه كقارىء بالقصة.
الفصل الثاني (صيد الحكايات) وفقا للبناء الدرامي المعتمد على مبدأ السبب والنتيجة، بدأه باسترجاع مكونات الإبداع عنده وأولها السير الشعبية التي كان يسمعها من أبيه، ثم تحدث عن القدوة، يقول عمار “في كل مرة أبدأ كتابة رواية جديدة يرد على ذهني شخصان، أبي في حقله، وسيدة الحافلة. الأب كان يرفع أول ضربة فأس في أرض قاحلة ممتدة أمامه، لكنه لا ييأس بل يواصل الضربات، …، ضربة وراء ضربة يتغير الحال من الفراغ إلى الامتلاء، أو على الأقل من اليباب إلى العمار. أما السيدة فهي تلك التي رأيتها ذات يوم في حافلة، …، تجلس على مقعد أمامي، وفي يدها إبرة تريكو وخيوط ذات ألوان أربعة، تدور بينها حتى تصنع عقدة، وتتبعها بأخرى، وهكذا حتى يصبح خطاً منسوجاً بإحكام”.
والفصل الثالث ( حفر في صخر) ويدور حول حدث أو فعل ينهي الحكاية، بحل الصراع الدرامي، فعل يؤدي إلى تخفيف التصاعد ويقود إلى النهاية، التي لا يأتي بعدها شيء، الحدث هو بحث الكاتب عن مكان ومكانة في القاهرة، التي يصفها بأنها ” قاسية هذه البلدة، التي لا يجد فيها مَن هو مثلي ما يقيم أوده”، يقول بإصرار “لن أتركك أيتها المدينة حتى تعترفي بأن لي مكاناً في شوارعك الغريبة عني”. ولا يغادره أساه رغم نجاحه، فتقترن لحظة نجاحه بوصيته، والوصية لم تكن إلا جملة تكتب على شاهد قبره “هنا يرقد صائد النهار”، ليسدل بها الستار عن نهاية يتوقعها من صنع بنفسه لحظة ميلاده، ومن خاض حروبا بامتداد حياته ممتشقا سلاحي: الإرادة والقلم.