باسم فرات في ديوان بلوغ النهر

بلوغ النهر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نجوى شمعون

ليس من نهر سوانا يعبر بنا من منفى إلى قلق المشهد. بلوغ النهر للشاعر باسم فرات موغل وباذخ بالمفردات والجماليات، مفعم بالحياة رغم ركودها كنهر. لا شك منذ البداية أن ُتسلب كلك هذا وقع الجياد الأصيلة وحدها من ينسل إليك ليخطفك ولست بمختطف ولا سائح أنت تجترح من بلوغ النهر كل آلام البشرية وأنين الضحايا وكل الجمال والبهاء، ماذا سنفعل لو أننا لم نبلغ النهر وهي كلمة مفتوحة منسابة لا حدود لها، مفتوحة على التأويل الشاسع ومكر اللغة بنا. ليست مجرد قراءة أو سياحة في حضارات عريقة تشي بكل ما حدث وما لم يكن يخطر على البال، يهزك المشهد الحي والمتربص بك في بلوغ النهر وأنت الحي هنا تتحول لجثة منفلتة على العالم أنت العذاب الذي يتنصل منك بعد حين، لا تنتظر ولا تهادن ولا تنوي على شيء سوى الولوج في النصوص كحل وحيد ، أنت العابر من فوهة النص إلى النهر منكسراً فيه، ولست بأشعة شمس ممداً على طرف النهر، ولست عشبة فمن نكون غير وشم الظل حين نبلغ النهر ونبتسم حين نصل لنهاية البداية.

حدقة الشاعر التي تجولت والتقطت التفاصيل وما خلفها، آثرت أن تعيرنا الانتباه لوجع ماضٍ في حال سبيله، تحييه من جديد وتبثّ فيه الروح، تكسو العظم باللحم، يعيد حضارات يقيمها على لوح الوصايا، ويبعث فيها الحياة من جديد كما لو كانت كائناً بشرياً يروى قصته وتاريخ موته، بيد أنه أي الشاعر عرف معنى الفجيعة والحرب والموت البطيء من رائحة الشواء في بلاده التي قتلت بقصد التلف، وهو يقتنص الفرح لابد من وجع يتسربل مع كل نص يشي بما حدث وما كان، وبصراع الموت لكل الوجوه التي عشقت حَيَواتها، لكنه الخراب الذي له مريدوه دمروا العراق بويلات جديدة أنهكته فلم يتجاوز أي منا كل هذا الخراب الفادح فينا فلا عجب أن ينحاز الشاعر للغرباء الذين عاشوا مثله ومثلنا هذا الألم الساكن في النهر الذي لفظ آخر جثة سقطت فيه

.

عن الغريب الذي صار واحداً منا هكذا يبدأ الشاعر قصيدته هل نحن أيضاً غرباء صرنا قريبين من النص ، في اليقظة نعلن الانتماء للنص، للمدن، ولزمن سبق وقوفنا هنا:

هأنذا.. قدمٌ في مِيكونَ وأخرى في الأمل

يرقدُ تاريخٌ في جعبتي

أنصتُ للموجِ بينما الريحُ تقفلُ أبوابَها خجلى

وفِيَنْجانُ خلفي

تحملُ غبارَها وابتساماتِ عابري الطريق والرَّغَباتْ

يا الله كم تصيبنا المفردات بالوجع ترمينا من هناك حتى هنا بسهامها التي لا تخطئ ولا تلين “هأنذا” قدم” في ميكون وأخرى في الأمل – بين هنا وهناك أزمنة تخط سيرتها على مهل نهر جارٍ يعيد اختبار مشاعرنا وقدرتنا على الاقتراب من النصوص الملغمة بالوجع وتتوشح بالأمل. وفي جعبته تاريخ يرقد يستفزه رغم هذا الكم الهائل من السكوت يختلط بضجيج الحزن والألم. الشاعر في حالة ترقب لحدث ما شيء ما ينتظر قدومه حين يقول :”أنصت” للموج بينما الريح تقفل أبوابها خجلى ..هل بعد أن ينصت يقول شيئاً للموج والريح تقفل أبوابها، كم من باب للريح التي أمدها بصفات كما غيرها، جعل منها كائناً يدرك ويتفهم ويصغى له.

تتوحش النصوص وتنفلت علينا تهدأ وتبتسم لعلنا نكمل سيرة النهر للنزول فيه أو المرور بالقرب من عشبة نبتت لتدلنا علينا /

في المساءِ تسكرُ معي

(ليتني ملأتُ قلبي بالنسيان وشاطرتُه الوهمَ)

مدنٌ وهي تُشيرُ إلى فتاةٍ

ثملةٍ ترقصُ

جدتُها

الناجيةُ الوحيدةُ

في الأسرةِ (هيروشيما ومدن أخرى) ( ص 51 )

ثملة ترقص أداة النسيان الوحيدة لذاكرة ملغمة بالأحزان والموت وجدتها الناجية الوحيدة هنا حدثت مجزرة لم ينجو منها أحد.

الرقص حين يكون الوحيد جريحاً تلتقط منه كل شيء، حزن يتساقط ويعود إليه حالما يصحو من ارتجاج الجسد والذاكرة، صخب الموسيقى، يلهيه عن الصور التي تتقافز كل لحظة بأيامه وهل يمتلئ القلب بالنسيان ليتني أستطيع.

 

أحتمي بالْمَطَرِ من البَلَلِ

وبالمناداةِ من ضَجيجِ الهدوءِ

أُنْصِتُ للقلوبِ وهيَ تَتَغامَزُ:

انظروا للغريبِ لقد صارَ واحدًا منا.

كطفل صغير يقفز تحت المطر، ويحتمي بالمطر، وبالمناداة لهدوء لا يصنع ضجيجاً لافتاً. استخدم الشاعر أحتمي /أنصت / هي أفعال هنا وهناك بنفس الوقع وأشد وأكثر عمقاً وشفافية، ليصرخ فيهم انظروا للغريب لقد صار واحداً منا، كم من غرباء صاروا أصحاب مكان، وينفلت منهم حنين مفاجئ..كم من غريب رمى ظله واستكان هناك ليقتنص الحنين دفعة واحدة.

ليس الشاعر بسائح هو من جعلنا سائحين في المدن التي تفرط دهشةً وولعاً ووجعاً على أنهار اللجة والغربة لا فكاك منها. الشاعر يرسم لوحاتٍ فنيةً ناطقة تتحرك فيها الحياة، وتلقي التحية لمن عبروا في المساء وحيدين وجماعات، ويدخل القارئ في المشهد المبحوح على فيض غزارته، يرخي كل شيء إلى دفء المكان وحرارة الوجوه حتى الأكواخ صار لها دور بارز تنبت الدهشة على وجوه كل عابر، والشاعر بدوره لا مناص له من الهروب من أحزانهم، أنها ترحل معه في سلال خاصة معدة سلفاً كما القصيدة.

يبدأ نصه بدهشتنا، فالغريب هو الشاعر الذي صار واحداً منهم، يعيش حيواتهم ويشتعل بأوجاعهم، ليست حياة الشاعر في بلده العراق وحدها التي تتوجع، هنالك بلاد سبقتها فهل تحررت من الألم، الشاعر لا يعيش وحده ولا ينقسم على ذاتها ذاته، يدمج العراق بكل شمس وبكل نهر أو تراب خطت قدماه فيه فيها، ولوج العابر الذي يقيم ثم تسرقه البلاد من نفسها، توسع جرحه الكربلائي وتجهش معه في الغناء، هكذا يتغير جسد الشاعر ليستدير كعباد الشمس، يندمج في تاريخ وحضارات أخرى، ينسلخ عن الذات ويعود لها بالحنين المذاب لوطنه المقهور، يتجاوز مناطق سلخت فيها الذاكرة، يعيد تنظيم كل شيء بدءاً بالتراب حتى قطرة الماء.

أمسكُ بالنسيمِ من يَدِهِ لأدُلَّهُ على الستائرِ،

النسيم الْمُتَلَفع بالبحرِ والنقاءِ، تاهَ في ألاعيبِ المدينةِ

النسيمُ يعتكفُ عند عَتَبَةِ الماضين قُدُمًا سائلاً بركاتِهِم

يَترُكُ الأسماكَ تَتَنَزّهُ في المُنحَدَراتِ.

ويحملُ في أرديتِهِ روائحَ المدينةِ،

أنفاسَها،

الفصولَ التي تَعَثرَتْ به،

التنهداتِ التي أُطلِقَتْ في الزوايا والأزقةِ ( أمـير الدرامـا ) (ص29).

ما أجمل الشاعر وهو يتعامل مع النسيم كطفل صغير تربى على الدلال والحب فيمسكه من يده ليدله على الستائر. يتزاحم هنا الحب والطفولة والحياة لعل الشاعر أراد أن يدخلنا إلى عوالم الصحو فيه، وليس أدل من “النسيم المتلفع بالبحر والنقاء، يكمل: تاه في ألاعيب المدينة. وهو أيضاً كلّ ملائكي وجميل في البساطة يا لها من مدن تشقى وتضيع الأنقياء في فتنتها والنسيم الجميل المهادن كذلك حين يغادر القرية صوب المدينة.

حينَ تَدخلُ.. عليكَ أنْ تَحذرَ الارتطامَ بالأنينِ

أو أن تُحرّكَ دَمعةَ طفلةٍ بارتِباكِكَ

اضغطْ على الزرِّ وأنصتْ لِحِكاياتٍ صامتةٍ

حكاياتٍ توغلتْ القسوةُ فيها والألَمُ

خلفَ الزجاجِ ثمةَ حِدادٌ زادَهُ الزمنُ نضارةً

ثَمّةَ بَقايا رَمادِ الضحايا،

أشباهُ ساعاتٍ تُشيرُ إلى الثامِنَةِ والربعِ صَباحًا

دُمًى عليها آثارُ أصابعَ احترقتْ

قلائدُ صَدِئةٌ، ما بقِيَ من طفولةٍ ابتلعَها الجحيمُ

 

في الأقفاصِ الزجاجيةِ قافلةُ أحلامٍ تَجمّدتْ

وكثيرٌ من حماقاتٍ وخيالاتِ رجال أثقلتْ أكتافَهُم النياشينُ.

على الحافاتِ نَسيَ الوقتُ نهاراتِهِ

وهو ينصُتُ للأراجيحِ التي تكدّسَتْ في الغيومِ (متحف السـلام في هـيروشـيما ) (ص31).

كم موجع وأنت تقتحم المتحف الحي بكل تفاصيله، موجعة هذه القصيدة انها تأوهات الضحايا /صحوة أرواحهم وهي تطلق صرخاتها /يحذرنا الشاعر وينبهنا أن نحذر من الارتطام بالأنين فالارتطام هنا صاخب ومدوي، الأنين صار جزءاً بجانب الجثة- الضحية لم يتكوم على نفسه وينتحب وينتحب، ينتحب فقط. له دور الوقوف بكبرياء وجلد، ينتظر العابرين به، كي يطلق صيحات الأنين عبر الزمن والمكان والوجوه، يخلد موقفاً ما للجلاد والضحية يشير بإصبعه نحو حدث رهيب، لا يمكن أن يكون دون لحم ودم، أو أن لا يعد كائناً نزقاً يحارب قرب الضحية، يخلد صوتها الذي ضاع عبر متاهات مختلفة، ويحذرنا من الارتباك كي لا نحرك دمعة لطفلة.. يا لهذا الارتباك الذي يحرك الدمعة لطفلة منحوتة بدقة النحات ورهافة قلوبنا التي قد تسقطها دمعة، وأي دمعة لطفلة في متحف شاهدة صامتة على المجزرة، تمثال يفسر كل ما حدث بصمت المغلوب على أمره، أين نحن في المكان الصحيح من ذواتنا كل هذا الصحو لنا، ولنا وحدنا نعبر في المسافة وننهب منها حيوات غيرنا، ماذا ستترك فينا يا شاعر بعد كل هذا الإحساس الناطق والمأهول بالحياة عكسنا تماماً.

المتحف الصامت الراكد في الدمع صار ينبض بالحياة، أدخلنا الشاعر في كافة تفاصيله الدقيقة توغلنا في الحكايات فاقتحمتنا ولا زالت عالقة فينا، حتى رماد الضحايا أخذ صوراً مختلفة ومتنوعة.

خلفَ كلِّ بابٍ

همسٌ يَجرُّكَ للماضي

فتسمعُ البحرَ تلتهمه حرائق السفن

بينما لا صهيلٌ يُربكُ الضفاف

 

وعلى المقاعدِ الوثيرةِ..

بقيّةٌ من قُبَلٍ ووداعٍ

أجراسُ الذكرياتِ..

وهي تفترشُ حقولَ الأرز

فتتساقط من يديك الريح (قلعة هيروشيما، ص 48-49).

دائماً هنالك قصص خلف الأبواب المقفلة بإحكام على أسرارها، و همس يجرك للماضي، ما أخفت صوت الهمس ورقته، حتى تكاد لا تسمع شيئاً، لكنه أي الهمس يجر الماضي كل هذا الماضي بكل ما فيه، يستدعيه بساطة الهمس عن أشياء نخاف الحديث البوح بها، فيصير الهمس مفتول العضلات، شبحاً يرعب الماضي ويأتي به،

تسمع أجراس الذكريات لا تتوقف عن الرنين في عزلتنا في منفانا، تقترب منا ولا تبتعد تطن وتئن وتفترش حقول الأرز ذكريات الألم والموت والمنفى، في اقتناص الأرواح البريئة هنا وهناك، ورغم ذلك تدب الحياة فيها، تمضي بها متشابكة حاضرها بخضرة الأرض التي تكتب سيرتها.

الذي فقد أباه

في السادسِ من آب 1945

وتشوهت أُمُّهُ،

الذي حَمَلَ عَوَقَهُ

ستينَ عامًا

ولا يزال،

قَدَّمَ وردةً لقاتليهِ،

واحتفى بالحياة. ( رجل من هيروشيما. ص 59)

هذه الحرب قنبلتها الموقوتة لأجيال،كل هذا الدمار والموت والفقد والتشوه بفعل القنبلة، لكنه يحتفي بالحياة يقف على تشوهاته، على سلخ جلده و نزيفه، الذي يسيل لأعوام، هيروشيما ليست قصة إنها انسلاخ الإنسان عن قيمه وأخلاقياته، من تجرأ وقتل الأبرياء وشردهم عن أجسادهم، لسنوات طويلة ولأجيال، انتكست بفعل الخراب، وقفوا جميعاً في وجه القاتل ليحتفوا بالحياة، رغم نزعها عنهم.. ماذا يمكن أن يقال للقتلة غير سنبلة تقف في وجه الريح، تخضب دمعها وتمارس سيرتها، كما لو أن شيئاً لم يحصل لها، ولم يقتلها عنوة ويسلبها جمال الروح والبدن. من قال إن هيروشيما ألقيت عليها قنبلة واحدة، القنبلة انشطرت لأعوام قادمة لا تستفيق منها الأجساد، ولا تعود الأرواح لسكنها، كما كانت تعود منقسمة على الحزن والفقد، لكنها تعود أكثر التصاقاً بالأرض والجسد وأكثر قوة من قاتليها.

أحملُ قِربتي وأمضي ..

الظمأُ سُرّةُ الوقتِ

الجنودُ على ضفةِ النهر

سأستدرجُهم إلى الحانة (قربة. ص 61)

هذا سره المشاع شاعرنا الجميل، وهو يحمل قربته والظمأ الذي لا يهادن الوقت ولا يلتفت للعطشى، هل يغويه النهر ليبلغه وهو أي الشاعر يرى الجنود على ضفة نهره في حال مكثوا هناك، سيستدرجهم إلى ما يحبوه في الحانة، لينزاح الجند عن مقصد الشاعر، والجنود ليسوا وحدهم دائماً هم المدججون بالسلاح، وشاعرنا يذهب بنا بعيداً ناحية الحب والسلام، والنهر الذي جاء إليه ليبلغه منتصراً على الخرافات والموت وعلى أنين الضحايا. إنه يهادن كل شيء ويفضحه للغبار، يكشف كل ما تقع يده عليه أو ما رمت به عيناه من صور وحكايا منسية في دهاليز الزمن، وليس برحالة أو سائح هو باذخ في الوصف والمفردات التي تميز بها وبفكرته التي جعلت منا جميعاً سائحين في جنته المكتظة بالقصص الحية لأنه ينغمس في حياة المجتمع انغماساً يدلل على إيمانه بأنه كوني الرؤى والمعتقد. ولم يكن بواصف أنه شاعر، وليس بشاعر أنه ساحر، أعد النصوص بسحره فأربك المتلقي لكل هذا الجمال الصارخ والمتقن في الديوان.

 

أنا الهاربُ إلى نَزَقي من نرجِسِيّةِ الحروبِ

الموقنُ أنَّ لا صُبحَ بضَغينَةٍ

وأنَّ الذبولَ يَرتَعِشُ أمامَ الأصيلْ. (هنا حماقات هناك…هناك تبختر هنا. ص 83)

يصف نفسه بالهارب الشاعر الذي عاشت بلاده العراق ويلات الحرب وها هي تتكرر معه في كل مكان يذهب إليه، يقرأ الفجيعة كما لو كانت مرسومة على كل شبر، هل قدر الشاعر الهرب من بلاد إلى أخرى. الخراب الذي طال كربلاء وبقية المدن العراقية، اختزله الشاعر في أعماقه هارباً إلى نزقه ورفضه للحروب التي غطت بلاده وتآكلتها حتى اللحظة حزن عميق، لا يهدأ ولا يزول لكنه رغم كل ما يحمله في نفسه من ذكريات وصور موجعة لديه أمل يربيه ويعيش عليه.

يتيمًا أقفُ أمامَ البحرِ

يرمي بوجهي عويلَهُ وظلامَهُ

كل آنٍ

حتى تخثّرَ الدمُ على سفوحي

والخضرةُ انبثقت بصحبةِ الأزلِ

يتيمًا

أقفُ أمامَ البحرِ

نهاراتٌ تهطلُ

وكم من فصولٍ تتنـزّهُ

في جسدي

على جبيني

حقولُ القطنِ تتباهى

والطيورُ تلوذُ بي

بُعَيْـدَ كلِّ خسارةٍ لها مع الأمواجِ

تلتفّ حولَ عُنُقي الغيومُ

قلادةً للوقتِ

وشاهدةً على معاركَ مهجورةٍ

أمطاري خارجةٌ على القانونِ

وشلالاتي نزيفٌ يهدرُ . (جبل تَرَناكي. ص 85-86).

البحر مخيف حين يقف أمامه يتيماً يرمي أمامه العويل والظلام، أي ظلام البحر، الشاعر هنا وطن فيه فصول أربعة، وطيور في جسده وعلى جبينه، حتى أن أمطاره خارجة على القانون. لغة جميلة تخرج عن المألوف في جميع النصوص، تشدنا لنهاية ما أو تجذبنا بدهشة النص. النصوص التي لا تتركنا وحدنا، تخربش وتترك دمنا سائل الحبر الذي يكمل ما بدأ.

فقدتْ جنينَها

ويلنغتن

… على ساقيكِ

تنبتُ البحارُ مثمرةً بالأمواجِ

الأمواجُ ذاتُها كثيرًا

ما تختلسُ القبلاتِ من المارةِ

في سمائكِ الخجولةِ

قوافلُ الغيومِ ترعى مُستفزةً

حيث ذئابُ الأيامِ

تصبغُ مخالبَها بدمي

محاربٌ أثريّ هو المطرُ

خَسِرَ معاركَه جميعًا

فاستأسدَ عليكِ. (شيءٌ ما عنكِ.. شيءٌ ما عنّي. ص 87-88).

ويلنغتن العاصمة النيوزلندية وكأنها امرأة فقدت جنينها، هكذا يشبهها الشاعر،على ساقيها تنبت البحار، والأمواج ذاتها تختلس القبلات من المارة، وتختلس هنا العين، تختلس النظر، لكنها هنا تختلس القبلات، ليست فقط حركة عين تستدير لتبصر لكنها حركة شفاه تقتنص من المارة قبلات لتسعد بمرورهم، وهنا يصير النص أكثر تشبعاً بالدم في صورة حيث ذئاب الأيام وهم العابرون، والأيام تخفي بعضاً منهم وتظهره على حقيقته مجرد مخلب لا ينهش الجلد فقط، بل يصل لدمه ويصبغه التحاماً به،يتشرس النص أحياناً وأحياناً أخرى يكون أكثر حكمةً رغم الموت المشبع في سماء المكان، ووصف الشاعر المطر بالمحارب الأثري وقد خسر كل معاركه واستأسد عليها،أي جمال وأي وصف للمطر الذي ينتظره الجميع، فرحين به حين يسقط على الحقول والمزارع والبيوت، وترحب به الغابات والأشجار وكلّ كائن حيّ يرتوي بقدومه صار مستأسداً.

أحيانًا وتحتَ شمسِكِ الوقحة

تستعرضُ النسوةُ

أفخاذهنّ جذلاتٍ

يَزدَردنَ بأنني رَجُلٌ

صارَ طُعْمًا

سائغًا للنيرانْ

(شيءٌ ما عنكِ.. شيءٌ ما عـنِّي) (ص89-90).

نصوص تتوقف أمامها كثيراً ما تستوقفك، تتأمل نزيفها ولذة نزق فيها، تتعالى الصرخات تجمع ما بين اللذة والألم، كأنك تقف على قدم واحدة وتشهق ملء الوجع، وهل الحياة أكثر من ذلك حياة وموت، نساء أفخاذهن نيران مشتعلة وهو الطعم الذي اقترب عن غير قصد بنظرة من بعيد.

الأحلامُ رَحِمُ المعنى.

الأحلامُ سَحابةٌ أخرى للعبورِ إليكِ.

بينما فَيضٌ من القلقِ يُرتّلُ رغبتي.

وينـزلقُ سُلالاتِ قَصَبٍ ونُواحٍ.

في رحلةِ التيهِ هذه

أيقنتُ أن مصيري مُعلقٌ بين شفتيكِ،

لا قاربٌ يجعلُ الغرقَ يَتَوارى

وما عليّ سوى أنْ أُبَعثرَني فيكِ لأنجو(لا قارب يجعل الغرق يتلاشى)(لا قارب يجعل الغرق يتلاشى. ص99).

الحروب تجعل منا حذرين من كل شيء، حتى بوجود قارب للنجاة، والخوف سيدها يحتلنا درجة درجة، ويمكر بنا في كل حالاته، فالأحلام رحم المعنى تربة خصبة لتحمل الفكرة وتستفيض علينا، لكن رغم ذلك هنالك قلق يرتل هذا القلق، لم يأت من الفراغ، جاء من ويلات الحرب على العراق بلد الشاعر، حمله معه للمنفى وكلما كتب عن البلاد الأخرى، وقفت بغداد بينهما تستعيد ما كتب وما يحدث لها حتى اللحظة، لم يكن من مهرب منها وهي تتجسد في كل نص، تختبئ فيه وتقترب من نهر ميكون، يخرج عليه نهر دجلة والفرات، لا يصلح الشعر بدون ذكر البلاد التي مارست عشقها لشاعرها، فالمدن تعشق مثلنا، وخير دليل إن نسيناها تذكرتنا باقتحام سهونا عنا.

بُقعُ الدماءِ جَفتْ منذ سنينٍ

ومازال صراخُ الضحايا يملأُ الْحُجُراتِ

وعلى جوانبها القيودُ الصدئة،

اخضرَّت الحريةُ.

التلاميذُ اقتيدوا بعيدًا عن الدرسِ

والمعلمونَ إلى مقبرةٍ جماعيةٍ (مدرسـة تشـاو فوني يـات. ص 71).

ليس أشد ايلاماً من بقع دم جفت وصراخ أصحابها في المكان ترن وتقرع الأجراس، هل هنا يصرخ الشاعر ليقول رغم عمليات الإبادة قديماً إلا أن القاتل استحدث طرقاً جديدة لإبادة حديثة، ولم يوقفه أحد، أما الذين نجوا من المذابح والقنابل وحدهم من يعرف حقاً معنى الموت ببطء، ودون أن يكن بمقدورك البكاء، فالموت قبل أن يسلبك، يخفت فيك صوت البكاء ويمتص دموعك، كما يسرق جلدك برائحة الدخان والمقابر الجماعية لم تتغير في شكلها المفجع في الاقتياد مرغماً على الرضوخ، خشية الموت لتواجه الموت، فهل من ناج وحيد ليصرخ في وجه العالم لعله تحول لتمثال، خشية الوقوع ثانية للاقتياد في مقبرة أخرى فردية أو جماعية، بعيدة عن عيون الكاميرات والعالم الذي صمت لكل هذا …

كل ما سبق وأنا على يقين تام بأن ما كتب عن بلوغ النهر، لم يعطه حقه كاملاً، يحتاج لدراسة كاملة ومعمقة للتحليل ولإظهار الجماليات والصور التي أربكت القارئ، حين يلوذ بينه وبين نفسه ليقتحم المشهد في بلوغ النهر، ولن يستطيع أن يحتمل كل ما جاء في الديوان من ألم وبذخ في الصور والتراكيب اللفظية، التي جاءت لتشبع نهم المهتمين والمفتونين بالشعر، حتى يصلوا النهر سالمين ومعافين من الشعر وسحره …

مقالات من نفس القسم