“حتى تجيء زينب” .. الإفلات من شرك الكآبة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

أسماء إبراهيم

 

فيما يشبه النميمة المحببة، تسرد نهى محمود حيوات أبطال مجموعتها القصصية "الجالسون في الشرفة حتى تجيء زينب". السرد القائم على إعلاء الفضول لمتابعة تاريخ الشخصيات يبدو سلسا هادئا وينم عن معرفة الراوي الوثيقة بأبطال مجموعته، -وأحيانا ما يكون الراوي هو بطل القصة-، لكن في جميع القصص ثمة إحساس بالتعاطف مع المروي عنهم، ليس لأن ثمة تاريخ من الهزائم لدى أغلب أبطال المجموعة - فبعضهم أفلت من شرك الكآبة والحزن المخيمان على شخوص الحكايات-، ولكن لأن أغلب الشخصيات تنعم بروحٍ مقاومة، تحثها للمضي قدما في حياتها والنجاة من مأساتها، أو على الأقل تكفل لها البقاء والاستمرار.

المجموعة ذات السبعة عشر قصة تصدرها نهى بنص لتشيكوف يتماس مع روح المجموعة الشجنية، لا أبطال خوارق، فقط أناس تألفهم وتألف تفاصيل حيواتهم، ربما كانوا جيرانك أو بعض أقرباءك، والألفة البادية عليهم لا تُـثنِ الساردة عن الإغـراق في تفاصيلهم، بل تزيدها كشفا لدقائقهم الخفية، وتسهب في الاعلان عنها جهرا وتستحضر أفعالهم صوتا وصورة وأداءا:

"قال: أعيش معاها يوم واحد وبعدين أموت، لو أعيش معاها في حفرة في الأرض أحفرها كده، وحرَّك يده كأنه ينبش التراب وقال: أحفر الحفرة وأعيش فيها معاها يوم واحد وبعدين أموت." 26

تتناوع شخصيات المجموعة بين النبل والنذالة، حتى أنك تلقى نماذج من البطل الضد في قصص المجموعة، كقصة (علبة دخان وصندوق)، والقيمة الأبرز في المجموعة هو ذلك الصدق الفني الذي يفيض عبر قصصها، ثمة شخصيات استثنائية نُـحـتـت بتؤدة وعلى مهل فتجيء تامة الصقل والتجسيد حتى تكاد تبرز أمامك، مثل "الخالة رزقة" التى تُـجسِّـد معنى الخـواء، فتُفسد على الجميع حيواتهم وأفراحهم، مُـوحية في نحيبها وعديدها -على زوج سري- بأسرارها التي بات الجميع يعرفونها، والمشابهة التي ينسجها السارد في هذه القصة بتناص مونولوجات "الخالة رزقة" ومونولوجات أبطال شيكسبير يضفي ملامح ساخرة وحقيقية على هذه الشخصية، ومن خلفها سارد لمَّـاح وطريف.

المنسي والغائب نماذج تعاينها في المجموعة، ففي قصة "رتق قديم" نرى التفاصيل المتخمة والتي تفيض على النص، كاشفة ملامح الفرد المنسي الذي لن يراه أحدا (إلا إذا كان يقصده) كما تؤكد نهى في أول سطر من القصة. في حين تسرد بسلاسة قصة عم حسن ساعي المكتب الذي يكون غيابه أفضل من حضوره للآخرين، فتختار لقصته عنوان "الغياب". وفي قصة "الحياة حلوة" تتناول قصة عم سعد والممرض الذي صادقه قبل وفاته والذي يتذكره من حين لآخـر ليحثُّـه على تحقيق الأحـلام.

أمـا في قصة "عشر سنوات حتى ظهرت زينب" فتكون المفارقة اللاذعة في نهاية القصة هي البطل، وتمهد لها نهى بإتخام النص بالتفاصيل المألوفة لعين ووجدان القارئ من حدائق عامة يرتع فيها المحبون، وأبيات شعر تلتصق بالذاكرة من سني الدراسة: "تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل". لتتساءل في نهاية القصة: هل تستعيد الزوجة رجلها المغيَّـب بفعل السحر الذي قامت به زينب؟ أم أنها عملت هي الأخرى عملا سُـفليا لجعله يحبها؟

الأمر لا يخل من مسح اجتماعي في خلفية المشهد تقوم به نهى في بعض من قصص المجموعة. مثل ما نجده في قصة "كبير العائلة"، كاشفةً زيف مجتمع يقوم أغلب أفراده بالتمثيل والادعاء، ابتدءا من الأخ الأكبر وحتى أم العروس المقبلة، ومفرِّغـة قيم هذا المجتمع من معانيها لنتساءل ماذا تفعل الغُـربة بأبنائها سواء الاغتراب في الوطن أو خارجه. لكن السؤال الأقسى يلوح في قصة "سونار" كما يلوح كف الجنين على الشاشة لتتساءل الأم التي جربت طعم الفقد سابقا: هل هو تلويح ترحيب بالحياة أم وداع منها؟!!

أما التفاصيل العديدة فتنسيك وضوح الحكمة الأخلاقية أو جلائها التقليدي في قصة "ابتسامة هناك"، حيث تغرقك نهى في الأحـداث من زواج وهجران وسفر وبحث عن أب هارب واستعادته، لتلق شبح ابتسامة الجدة التي تنكَّـر لها ابنها فتنكَّـر له أحفادها.

وتطل الكتابة وهواجسها والتساؤلات من جدواها في قصتيّ "الفخ" و"حكايات على جدران الحجرة"، ففي الأولى تبرز عادة الكاتب الأثيرة في اصطياد البشر كنماذج قابلة للحكي عنها، حتى أن البطلة جارته تطلب منه صراحةً:"اكتب عني, اكتب قصتي"، أما في "حكايات على جدران الحجرة" فتلقي نهى الضوء على الأحلام المؤجلة والمشاريع المرجئة التي تحتضنها القصاصات الصفراء على الحائط. لنشاهد حياة محتملة الحدوث ملتصقة بالجدار بممكناتها المتعددة، ويمكن قراءة هذه القصة وغيرها من قصص المجموعة ضمن كتابات المرأة حيث الهواجس والمخاوف الأنثوية مجسدة بوضوح وجلاء شديدين كما في قصة "أحلام طيبة بالقتل" و"بناية معتمة وكئيبة" و"ليل بلا قمر" و"تجلس في الشرفة" و"ما يشبه الأسرار"، فبطلاتها نساء مهزومات إما بفعل المرض أو المجتمع أو بفعل خيبات الأحبِّـة.

في قصة "ما يشبه الأسرار" تمحي نهى الأسرار بفعل المجاورة والفضاء الضيق، فلا أسرار بين ركاب الحافلة المتلاحمين، حتى ولو حرصوا على التحدث بهمس، هيئتهم تفضحهم وتكشف تاريخهم السري، ومخافتة أصواتهم في الهاتف تشي بما يحاولون إخفائه، والكل متورط في مأساته فيما يشبه ديمقراطية الأسى، حتى الساردة متورطة بدورها في ذكرياتها التي تطاردها وتُـفسد عليها مشهد الختام.

أمـا الفقد والخوف منه فيتخللان المجموعة في أكثر من قصة، ففي "بناية معتمة وكئيبة" يكون الصمت وانخراس الصوت أو احتباسه هو سبب الكآبة، وفي "تجلس في الشرفة" تتذكر العجوز ذات الثدي الواحد حياتها الفائتة، ليعود  الثدي الواحد أو ذات الهاجس في قصة "ليل بلا قمر" حين يكون الخوف من المرض واستئصال أجزاء من الجسد هو هاجس البطلة الذي تصيغه في رؤى حلمية، فتأتي القصة على هيئة استرجاعات لمقاطع من الذاكرة تتزاوج مع أحلامها بهواجس الفقد وأعراض السرطان والمشاهد القاتمة التي يظللها صوت النفير، وحتى في قصة "أحلام طيبة بالقتل" فالغرماء النسوة في الغالب في أحلام الفتاة يتشكَّـلن على هيئة قطط سوداء، لتتساءل بعد كل هاته المشاهدات: أيها الواقع وأيها الحلم؟ أم أنها وجهي عُـملة واحدة؟!

ويبرز الإقلاب الذي تجيده نهى من جديد في قصة "المسرحية" حيث "المسرحجي" الذي يتعيَّـش على أصدقاءه من تمثيله دور الفنان المسرحي، فلا تعرف إن كانت هذه حياته حقا؟ أم مسرحيته المؤداة؟!

المجموعة لا تخل من حيلٍ سردية تقوم بها نهى كما في قصة "علبة دخان وصندوق" حين تحرص على التماهي الكاذب مع الزوجة حين تسرد حكايتها بدايةً قبل أن يتحول

الحكي المتدفق والسرد المتوالي في النهاية لصالح البطل الحقيقي الذي نكتشف أنه الزوج لا الزوجة التي ورطتنا نهى معها في تفاصيلها.

والمجموعة على بساطتها المخادعة قد تبدو بورتريهات وجدانية لشخصيات بالغة الألفة، سبق أن عاينتها أو مرت بك، لكنها تبدأ من قمة الجبل الثلجي فقط، أمـا القابع تحت السطح فهو أعمق بكثير، تكشف عنه نهى محمود شيئا فشيء، وترسم عبر الظاهر دقائق السرائر لهؤلاء الأشخاص، مزيحة عنهم أسباب الكآبة وبواعثها، فنتأمل معها وبهدوء خيمة الحزن التي تظللهم.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كاتبة مصرية

 

 

 

مقالات من نفس القسم