السرد العماني وآفاق المغايرة والتميز

محمد سليم شوشة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد سليم شوشة

عبر قراءة عدد من النصوص الأدبية الحديثة المتميزة من القصة القصيرة في سلطنة عمان يمكن القول بأن الأدب العربي فيها يرتاد آفاقا جديدة ويعيش حالة مختلفة فيها قدر من التنوع والثراء والحماس الأدبي، ويبدو أن هذا ليس مرتبطا باللحظة الراهنة فقط، بل له جذوره القديمة التي بدأت مع عصر النهضة من عقود صارت الآن بعيدة، وقبلها لم يكن الأدب في عُمان ببعيد عن حركة الأدب العربي بشكل عام، فقد مر بكافة منعطفاته تقريبا وإن كان أحيانا متأخرا  زمنيا بعض الشيء عن مثيله في مصر أو العراق وسوريا.

في عدد من القصص القصيرة جدا للشاعر والقاص عبد الله بن حبيب صاحب التجربة الرائدة والمختلفة في الأدب في السلطنة، نجد أنه ينحت الشكل الخاص به ويستخدم النوع الأدبي الجديد نسبيا ليجيب نوازع جمالية لديه يتداخل ويتقاطع فيها السردي مع الشعري، فهذا النوع السردي الأحدث هو الأقرب لقصيدة النثر، وهو القادر على تكثيف اللحظة الشعورية بكافة انفعالاتها وثقلها العاطفي والتحرك في المساحة المعتمة من تحولات الإنسان وتغيراته الأعمق. في قصة “ليمون” نجده يقارب في أقل مساحة من السرد حال التباعد بينه وبين مجتمع القرية والطفولة. يركز على المفارقات أو يقتنص عبر سرده الشفيف الخاطف مفارقات الحياة وفجواتها التي يغرق فيها الإنسان، ومن جماليات هذه القصص القصيرة التي يكتبها عبد الله حبيب أنها ليست مقصورة على الطاقات اللغوية من استعارات أو لغة بيانية، بقدر ما هي تجسيد لحالة إنسانية حقيقية، وفيها مشهدية وسرد يقوم أحيانا على التفاصيل برغم كونها مساحة سردية محدودة للغاية، وهذه معادلة صعبة. وفي قصة ليمون نجده قد نفذ من السكين المفقود في المطبخ لقطع اليمونة إلى الساطور الذي كان به انفلاق الأرض من تحته إلى نصفين يزيد من تباعده أو غربته عن الطفولة ومفرداتها وحدائق ليمون الأب.

أما في قصة “ليس كما يفعل الناس” فهو يذهب بعيدا في التصوير الشعري مع اختلافات الذات المشتغلة بالأدب، والفوارق بينها وبين الآخرين، ينطلق النص القصصي من فوارق غرائبية في السلوك الطبيعي يرصدها الأب ولا تعجبه في ابنه الصغير، ولكنها تؤشر لما يكون من الاختلاف الأكبر الحاصل بعد ذلك حين يصبح هذا الطفل رجلا كبيرا، وكأن الاختلاف قدر وأمر حتمي لا مفر منه. وهكذا هو قدره في أن يكون أديبا أو كاتبا أو مغايرا في رؤيته وإحساسه بالعالم. وهو المعنى ذاته الذي يتأكد في القصة الثالثة “المطار الجديد” التي تبدو أقرب لحال شعرية تنتج عن غرائبية الموقف الذي ربما يتأسس على تقنية الحلم، ولكنه في الأساس نابع من ذلك الشعور العميق بالتحليق والمغايرة أو الاختلاف عن البقية والاستمرار في التحليق بشكل دائم وعدم القدرة على الهبوط بالطائرة دليل على هذا المعنى ويسهم في ترسيم ملامح تلك الحال الشعورية التي جسدتها القصة وأكدتها.

تشتغل قصة “الفستان الشيفون” للروائية والقاصة هدى حمد على مساحة إنسانية صعبة وملتبسة؛ لأنها تتماس مع عدد من الإشكالات الخاصة بحياة المرأة ووضعيتها الاجتماعية والثقافية وتفاصيلها العاطفية في مجتمعاتنا، تقارب عبر نموذجين متوازيين لامرأتين تبدوان مختلفتين من حيث الشكل في حين أن المآلات أو المصائر واحدة أو متقاربة على الأقل. قصة طريفة وعلى قدر كبير من الجمال الأدبي ولها تشكيلها السردي الواعي شديد الخصوصية حيث أفادت من استراتيجية بنائية خاصة تعتمد على الرمز والتقابل بين هذين النموذجين اللذين تشعبت بهما السبل منذ الطفولة وبدا أنهما ستمضيان في مسارات متناقضة في حين أنهما تعيشان حالا من الالتصاق الحتمي أو الجبري غير المبرر على نحو منطقي وكأنها مسألة متعلقة بالقدر والمتيافيزيقا.

أجادت القاصة في تأسيس بنائها السردي على فكرة الفستان الشيفون الذي يرمز إلى مقدرات المرأة وجمالها ولذة الحياة التي يجب أن تكون غاية لذاتها، وفي مقابل الفستان الشيفون يتخذ الجنينان التوأم موقع الطرف الثاني في المقابلة معه، فهما يرمزان للمستقبل المؤقت أو المعطل أو الذي يبدو أن النموذج الإنساني قد نذر نفسه من أجله، في حين أن الفستان الشيفون لم يكن له من مصير غير أن يتلطخ في النهاية بدم هذين الجنينين اللذين تقرر مستقبلهما أو مصيرهما وحياتهما في بداية سرد القصة. الحكاية في ذاتها على قدر من الثراء والنبض الإنساني وحافلة بالتوتر والتشويق لأنها ارتكزت على مقومات العلاقة بالرجل أو ما يكون بين الذكر والأنثى من الشد والجذب وبخاصة أنهما ثنائيان، أي حالتان لكل منهما شكلها الخاص من حيث التأسس على فكرة الحب أو الزواج التقليدي، وشكلها الخاص من حيث المصير الذي آلت إليه. فإذا كانت إحداهما قد تأسست على الحب فإنها فعليا انتهت إلى الفراق أو على الأقل الفتور والموت الإلكينيكي، والثانية التي تأسست على الزواج التقليدي كانت أكثر نبضا وحيوية عبر حيلة الاتصالات والألفة، وهو ليس انتصارا من منشئ الخطاب السردي لنوع معين بقدر ما هو مرتبط بتلك الغرائبية الطبيعية في الحياة والناتجة عن بعض العبثية وغرابة الأقدار. وتغذت قصتها أيضا في نبضها وتشويقها على ذكريات الماضي والصداقة القديمة. وجعلت إحداهما ترمز للعلم وأخرى للخرافة أو لشرائح مختلفة من الثقافة، ومع ذلك لم تفلت إحداهما من الشقاء أو المعاناة، ليكون من المعطيات الدلالية الهامة للنص القصصي أن الحياة في كافة الأحوال لن تخلو من هذا الجانب السلبي في جوهرها، مهما بدا مظهر الإنسان مختلفا.

أما الكاتب الروائي والقاص سليمان المعمري فهو كعادته يسلك سبيلا مغايرا في فهم الأنواع الأدبية ويرى الجمال في كافة أشكال الكتابة، وينفذ إلى طاقات جمالية للسرد الأدبي عبر كتابة تتجاوز حدود النوع، فلا يتوقف عند مفاهيم قصة أو رواية أو قصة قصيرة جدا، بل يستشعر جماليات السرد ويحققها عبر كتابة التدوين والتقرير الصحفي والكتابة العلمية والتاريخية، وهي نزعة تنسب إلى سرد ما بعد الحداثة. ونجد أن هذا السرد الأدبي الرفيع الذي أقامه أو شكله على هامش حواره الإذاعي مع الشاعر العربي الكبير أدونيس قد اتخذ استراتيجية بنائية ليست بالهينة كما قد يتصور البعض لأول وهلة إذا تخيلوا أنه فقط يحكي تفاصيل هذا الحوار أو كواليسه، ولكن في الحقيقة أن الشكل الكتابي والتقنيات من تقديم وتأخير وتبئير وهو الأهم في تقديرنا له دوره العظيم في إنتاج جماليات هذه الكتابة، فصاحب الصوت أو السارد في هذا السرد التقريري جعل من نفسه ذاتا تدور في فلك كوكب عظيم وكبير، والشخصيتان تدوران في فلك مهمة تبدو عبر هذا التبئير السردي أقرب لمهمة عجائبية أو رحلة بوليسية لها منعطفاتها الخطيرة وتفاصيلها السرية، يصنع تقديما وتأخيرا وتسريعا وتبطئة للسرد بما يبلغ بهذه الكتابة حدا بعيدا من القدرة على الإمتاع والإدهاش الذي وإن كان موجها إلى جمهور نخبوي لكنه في النهاية لا يفقد أيا من قدراته. ومسألة الجمهور المستهدف بهذا الخطاب السردي مهمة، ذلك لأنها كانت ذات دور بارز في صنع الحبكة والتشويق وخلق لحظة مهمة من لحظات التوتر والقلق في السرد، وهي الخاصة بذلك السؤال المحرج الذي أصبح بؤرة صراع بين ثلاث أطراف حاضرة في السرد وهي الناقد العراقي الذي كتب كتابا يتهم فيه أدونيس بالانتحال، وبالطبع أدونيس بوصفه ذاتا يتوجب عليها الدفاع عن نفسها أو قد تنخرط على إثر هذا السؤال في رد فعل عنيف سواء على الناقد أو على المحاور الذي فجّر هذا السؤال. وهو سرد يعتني بالتفاصيل ويفيد معرفيا ويمتع قارئه إلى حد بعيد ويمثل نموذجا في التحدي والقدرة على الإمتاع بسرد كافة التفاصيل أو القدرة على إنتاج الجمال من أي سرد بصرف النظر عن المادة التي يقوم على حكيها أو تسريدها.

أما القاصة منى حبراس السليمية فهي تبدو ذات خبرة كبيرة بفن القصة القصيرة جدا، وقد قرأت لها مجموعة كاملة صادرة مع مجلة نزوى العمانية، والحقيقة أنها كانت على قدر كبير من التميز والمغايرة عن السائد ومثلت صوتا سرديا له خصوصية كبيرة عبر قدراته على التشكيل وكذلك قدر ما يملك من الشواغل والأسئلة التي يقاربها هذا السرد القصصي أو ينحت حولها.   وفي قصتها هنا “دفتر موهن” التي تختص بنشرها الأول أخبار الأدب، نجد عدداً من المزايا والسمات الجمالية والقيم الدلالية التي تكشف عن سمات صوتها السردي، وهذه القصة من الناحية المبدئية تنتمي إلى خط ممتد في أدب سلطنة عمان وهو المتصل برصد التحولات الاجتماعية والثقافية وبخاصة ما كان بعض النهضة والتحول الاقتصادي والبترول، ورصد المغايرات الإنسانية المرتكزة على هذه التحولات. والحقيقة هي واحدة من القصص النابضة والحيوية وذلك لكونها ارتبطت بالتفاصيل الحياتية الصغيرة وحالة من النوستالجيا وبدت كما لو أنها تؤرخ لعائلة أو لمجتمع كامل عبر هذه اللمحة الصغيرة المرتبطة بدفتر المشتريات مؤجلة الدفع. وتمكنت من صبغ قصتها بالحيوية عبر اللمحة الفكاهية أو مشاعر الأب حين يتلاعب به الأطفال ويستغلون هذا الدفتر، وبدت في مرحلة منها مشوقة عبر فكرة ضياع الدفتر والبحث عنه، وهو ما يظهر قدرات الساردة في تحويل الكتابة عن اليومي أو الاجتماعي إلى نص أدبي ثري يتسم بالحيوية والنبض الإنساني.

وفي قصة “سهرتان حتى الصباح” نرى ذلك الرصد الشعري للتفاصيل وتوظيفها بشكل سينمائي وحركي ينتج قدرا كبيرا من الجمال الأدبي، هي قصة قصيرة تعد نموذجا في إحكامها وقدرتها على ربط القديم الماضي باللحظة الراهنة عبر رابط شعوري واحد وعبر مفارقات مضحكة وفكاهية، واستراتيجيتها السردية تتأسس على ذلك الرصد لعين الكاميرا التي تجوب مكانين متباينين وهما السجن وحانة الحوت الأزرق بنوع من التسجيلية الطريفة والمراقبة التي تنتج حالا من الشجن وتكشف عن الإنسان في حالات متابينة من الضعف والرغبة في الهرب إلى فضاءات أرحب من الحياة واللذة. في السجن يكون هو اليقظ الوحيد تقريبا الذي يتابع ردود أفعال الآخرين، وفي الحانة كذلك يبدو هو الوحيد صاحب الذاكرة الواعية اليقظة التي تقدر على استعادة كافة تفاصيل السهرة. ليس المهم في سمات الشخصيات أو تنوعهم وهو أمر له دوره الجمالي، ولكن الأكثر أهمية في بنية هذه القصة الجميلة هو قدرتها على شعرنة الأحداث اليومية المعتادة عبر هذا التبئير السينمائي الذي يشجن اللقطة بقدر من الشجن والكثافة الشعورية التي تترجمها اللغة. فالوصف والتعليق لدى الصوت السرد يتضافران ليجعلا المتلقي في النهاية مدركا لكافة التفاصيل وشاعرا بها بما يساوي شعور الشخصية الرئيسة صاحبة الصوت ويعيش الشحنة ذاتها من الإحساس الخاص بتلك الحياة التي وراء السهرتين. ونلمح كذلك قدرته على توظيف الأغنية وبعض التفاصيل الأخرى بما يضخ قدرا كبيرا من الحيوية والحركة والطابع الإنساني في جسد القصة ويجعلها لوحة نابضة من لحم ودم أو أقرب إلى فيلم سينمائي قصير.

في قصة “الفصول تذهب وراء بعضها” تنفذ القاصة والشاعرة أمل السعيدي من حادث صغير وقد يكون عابر إلى مساحات رحبة داخل الذات الإنسانية المسرود عنها، هذا الحادث المتعلق بخطأ قديم في شبابها يتسبب في حرق ظاهر الكف يصبح علامة فريدة ومميزة ترسخ في أعماق الشخصية شعورا خاصا بتعاقب الفصول ومرور الزمن ويؤشر الجرح القديم من وقت مبكر نحو حسابات خاصة وعميقة ترتبط بالرجل المنتظر. وهنا نلمس حالا شفيفة من الصدق والقدرة السردية على مقاربة حالات إنسانية تعد أنماطا طريفة وخاصة. في قصة محدودة المساحة وشديدة التكثيف تتمكن من رسم لوحة لحياة كاملة، وكأن هذا الحادث وذاك الجرح انتظم وسينتظم حياة الشخصية بشكل دائم ويحدد موقفها من الوجود كله وشعوره بالزمن والحقيقة هي قصة جميلة قد يبقى أثرها طويلا في نفس المتلقي ووجدانه. وبرغم كونها تجاوزت المباشرة ومالت إلى أحداث حياتية وتفاصيل صغيرة مثل درجة الحرارة ومشرفة السكن الجامعي ودورها في البيت وأختها التي هي نموذج لشخصية ظلية، وكأنها نغمة ترددية للشخصية الرئيسة، وكأن البشر أصداء ونغمات متكررة من بعضهم، وهكذا فإنها برغم هذه التفاصيل قد جسدت حالا شعرية مهمة ولم تضع في غمرة التفاصيل وتفريعاتها ومخاطرها في تفتيت الشعرية وشرذمتها، وهو ما لم يحدث بما توافر للصوت السردي من الصدق والعفوية والارتكاز على بؤرة الشعور بالزمن لدى الصوت السارد. وفي القصة كذلك حس خاص مما يمكن تسميته بهجاء الذات في السرد وهو تيار موجود وراسخ في السرد العالمي لكنه قد يكون نادرا في السرد العربي وبخاصة لدى المرأة، وهذا ما نلمسه في فكرة الجرح ووصف الذات وتشبيهها – في انكسارها أو توددها – بالكلبة، فهو يدعم كثافة الحالة الشعورية المتدفقة من الصوت السارد كما ذكر، ويدعم كذلك الإيهام بحقيقة هذا العالم، بما يجعل التخييل أكثر تصديقا، فالوصف الهجائي غالبا ما يبدو نابعا مما يشبه الانفجار أو عدم القدرة على السيطرة على شحنة الغضب لدى تلك الذات التي تحدثنا في هذا السرد.

لدى القاص والمسرحي هلال البادي في قصة ” احتمالات هارون الرشيد” بعض اللمحات الفنية الإيجابية النابعة من الاسم وتلك المفارقة الزمنية التي ربما لم تأخذ حقها من النحت في ملامح الشخصية بشكل نفسي، إذ منح الاسم القديم ملامح جمالية تمثلت في المقابلة بين الماضي والحاضر وبين الحروب والخسارات والمكاسب وبين التاريخ القديم بصولاته وجولاته وتفاهة الحاضر أحيانا، وجعلت السرد ذا نزعة ساخرة ظريفة وتجعله على هذا النحو ممتعا بدرجة ما في تلك المساحة. ولكن التسمية والمطابقة مع هارون الرشيد فرضت في المقابل على السارد مسارا سلبيا آخر تمثل في حتمية الكتابة بضمير الغائب حتى يتكرر حضور الاسم الذي أصبح علامة على عصر أو زمن ومنح ما أشرنا له من الجماليات، ولكن السرد وفق هذا النمط من الراوي العليم وإن منح مساحة رؤية أوسع للشخصيات وشبكة علاقاتها أنتج قدرا من الفتور أو غياب التكثيف وجعل الكتابة تتأرجح بين المسرح بطبيعته الدرامية وبين السرد القصصي بنوازعه الشعرية وطاقاته اللغوية، وهي حال قد تبدو مقبولة وفق ذائقة ما تحب تداخل الأنواع الأدبية أو امتزاجها وفق أي كيفية، لكن من النقاط المهمة في هذه القصة وضوح ملامح عالمها وبخاصة سمات الشخصيات الكثيرة والأجنبية وجعل العصري ممتزجا وفق بالماضي نمط تعبير وكان في القصة قدر كبير من الجرأة والشجاعة الأدبية في مقاربة العلاقات الجسدية وهو ما يدعم فكرة الإسقاط على هارون الرشيد وما يشاع من ظلال لياليه ونسائه في المخيلة الجمعية للمتلقين.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم