سلاسة السرد وشعرية اللغة في قصص د.بلقيس بابو

علي درويش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علي درويش

يُجمِع أغلب المهتمين بالخطاب السردي -أو يكادون- على أنه مفهوم معقد تتداخل أبعاده وتتشابك مكوناته وتتعدد عناصره وآليات اشتغاله. معقد لأنه مفهوم مركب من مفاهيم فرعية، أطراف المفارقة فيه غالبا هي المبدع الحقيقي (أو الكاتب الشخص) والمؤلف الضمني (أي صورة الكاتب كما يتصورها القارئ في ذهنه)، ثم المتلقي (أو القارئ) الحقيقي أي الفعلي مقابل ذاك الذي تُرسم صورته في ذهن المبدع حين يبدع.

 ويكاد الأمر ذاته يصدق على الراوي بمختلف أدواره وأنواعه في علاقته بشخصيات القصة وعلى الشخصية في حوارها أو في علاقتها مع غيرها ومع ذاتها، وهلمّ جرا.

 باختصار شديد، الخطاب السردي يزداد تعقيدا كلما تشابكت العلاقات بين عناصره، وهو أيضا معقد من حيث لغة السرد، لفظا وتركيبا وأسلوبا وصيغا بلاغية.

 فلغة السرد تتفاوت في مستوياتها مقارنة بلغة الأشكال الكتابية الأخرى، وهي لغة تتعدد وظائفها التواصلية والتعبيرية والوصفية للأماكن والفضاءات وملامح الشخصيات ونفسياتها وآمالها وآلامها.

بناء على ما تقدم، يجنح بعض النقاد إلى تجميع مختلف المفاهيم وأدوات المقاربة التي تحيل على نظريات ومناهج نقدية مختلفة من حيث خلفياتها ورؤاها وتصوراتها في قراءة تركيبية شاملة، مع أنها خطوة لا تسلم من مجازفة.

 لكنها خطوة تصبح ضرورة لا مفر منها، إذا علمنا بأن ليس هناك منهج نقدي -صارم منهجيا ومفاهيميا- بإمكانه بمفرده أن يحيط بمختلف خبايا وأبعاد النص القصصي.

وتيسيرا لهذه المهمة القرائية الشاقة يمكن التمييز بين خطابين سردين جامعين، لكل منهما خصائصه وسماته؛ أولها الخطاب السردي  “التسجيلي” الذي يولي الأهمية لنقل وقائع الحدث بدقة وبلغة لا تكلف المتلقي جهدا في الفهم والتأويل، وبسلاسة وانسياب في السرد، قد تتخلله وقفات من التأمل الذهني، كأن السارد يسعى من خلالها إلى الأخذ بيد القارئ وتوجيه فهمه للرسالة الضمنية، كما هو شائع في القصة الواقعية عامة.

 أما النوع الثاني فهو تشكيلة من نثر سردي لكن بلغة تمتح من الشعر، وكلما ازدادت كثافة المؤشرات الشعرية في هذا الخطاب تعقدت مهمة التأويل، وغالبا ما ينضوي هذا الخطاب تحت مفهوم (شعرية السرد) وهو -اختصارا- ذلك السرد الذي يهيمن فيه الانزياح والإيقاع والمجاز والتصوير البياني وقد تحضر فيه المحسنات البديعية والإيحاء والتكثيف والرمز والتكرار والوصف. أما تقنيا فقد تتكسر فيه خطية السرد وتتنوع التقنيات من تدوير واسترجاع ولولبة. كما يكون حضور العاطفة فيه وعناصر الطبيعة أحيانا لافتا.

وبراعة كاتب القصة (أو السرديات عامة)، في تقديري، رهينة بتخلص كتابته من النمطية ومن استنساخ نصوص لاحقةٍ من نموذج سابق، أي أن براعته في مرونة يراعه وقدرته على التنويع والمزاوجة بين مستويات لغة السرد وعلى إتقان تكييفِ لعبة السرد مع أطوار الصراع والأجواء النفسية والانفعالية والموازنة بين انتظارات المؤلف والمتلقي، من غير تكلف ولاتصنع.

وهذا بالضبط ما سنحاول رصده من خلال نموذجين قصصين اِنتقيتهما من خزانة السرد المتميزة للمبدعة البارعة د.بلقيس بابو أولهما (بلا وداع) وثانيهما (عوالم مختلطة).

يتناول النص الأول لحظات خلوة تعيشها الساردة بشاطئ شبه خال، تهيم خلالها شاردة في أحلامها الرتيبة، مستمتعة بهدوء فضاء طبيعي ساحر، إلى أن يطرق باب خلوتها شاب على أعتاب الكهولة…

يمكن اختصار الخطاطة السردية ل (بلا وداع) في :

-استهلال وصفي لما قبل اللقاء.

-حكي لوقائع اللقاء وما ترتب عنه.

-النهاية الدراماتيكية.

أما (عوالم مختلطة)، فلا تختلف من حيث أطوارها عن سابقتها:

-لحظات من الوحدة في فضاء خاص.

-سفر في ذكريات يكسر هدوءه الشعور بأن طيف المخاطَب حاضر في الغرفة.

 -الختم بصراع داخلي بين اليأس والأمل.

وكلما غصنا في ثنايا كل نص من هذين النصين على حدة، نرصد توالي المؤشرات الدالة على المزاوجة بين انسياب سردي تتخلله لحظات من التأمل الذهني و حضور  ملامح شعرية الخطاب السردي بدءا من عنوانين يفتحان(سيميائيا) شهية التشويق والرغبة في التأويل لدى المتلقي.

ف (بلا وداع) عنوان مركب من حرف الجر (الباء) و من لا النافية للجنس، ولكنها زائدة، أي غير عاملة للنصب لإتصالها بباء الجر ، وبذلك فهي نافية لوداع خاص في حالة خاصة، أي ليست للاستغراق الذي يفيد نفي الوداع مطلقا، أما (وداع) فمجرورة بحرف الجر الذي أبطل عمل (لا) الإعرابي ولم يبطل دلالتها على نفي الجنس.

وبناء على هذه البنية التركيبة والدلالية فالعنوان يؤدي وظيفة التوقع، بمعنى أن قارئه ينشغل بالسؤال عما سيؤول إليه الحدث وعن سببه،  ذلك لأن العلاقة المفترضة تبدو من العنوان يلف خاتمتها الغموض لأنها خرجت عن المسار الطبيعي المألوف لمثل هذه العلاقات .

أما (عوالم مختلطة)، فهو مركب وصفي من موصوف (بصيغة جمع التكسير المذكر) ومن صفة (بصيغة المفرد المؤنث لأن موصوفها من غير العاقل)

وهذا التركيب الإسمي (الوصفي) شائع استعماله في العنونة، خلافا ل (بلا وداع).

 وبغض النظر عن اختلاف بين الإخبار والابتداء، فإنني أرجح أن تكون (عوالم) خبرا لمبتدإ محذوف تقديره هذه أو هي، حتى يتم معنى الجملة، مما يمنح للعنوان دلالة لتشويق القارئ على استكشاف مجريات الحدث، بدل أن ينشغل بسرِّ انتهاء العلاقة كما في (بلا وداع) .

ومع ذلك فقراءة متأنية للنصين، تكشف عن لغة سرد لا يحكمه الانشغال بنقل وقائع الحدث بقدر ما يصبح الشاغل فيه هو الكشف عن المشاعر الجوانية، أي أن مركز اهتمام  السارد ليس إخبار القارئ وإنما التأثير فيه. وهذا ما يبرر تفادي الكاتبة للإطناب في الإفهام، لتنشغل بدل ذلك بلغة إدهاشية، لا تسلب القارئ حقه في الفهم والتفكير والتأويل.

لغتها إذن، في النصين معا (مع بعض التفاوت) تقوم بوظيفة تشكيل فني تتداخل فيه مستويات اللغة كما تتداخل ألوان لوحة ساحرة، لغة تنهار بفعل أدبيتها ( sa litterraritè)

الحدود بين النثر والشعر، بما في ذلك، على مستوى الإيقاع ،إذ تستوقف القارئ مؤشراتٌ كثيرة منها توالي المد أي الصوائت (بالألف خاصة) في النص الأول: ( الناعم المتناثر/ أراقب انكسارها هاربة..) بينهما تتوالى الصوامت بشكل لافت في ( عوالم مختلطة) ممثلة في حروف الهمس وأكثر ما يتكرر منها إلى جانب الحاء والسين هو حرف الصاد: ( صمت/صوت/تصدق…)، ذلك لأن الصاد حرف استعلاء وتضخيم وتفخيم، و كأنها بذلك تستهدف تهويل العوالم المتحدثِ عنها في النص. وإن كان أكثر ما يهمن من ظواهر البيان في النص الأول المجاز المرسل والاستعارة:

 (الصمت يهيمن/ أذوب في الذكرى/ هزني سؤاله..) فإن أكثر ما يحضر منها في النص الثاني هو التشبيه باعتباره الأقرب إلى الأسلوب السهل الممتنع (كأنما تغازل الشمس/كما لو كنت فوق أرجوحة..) تليه الكناية(نبضات القلب كناية عن شدة الانفعال).

لكن شعرية اللغة لا تقتصر على التوظيف البياني والإيقاع، وإنما تتجاوزهما إلى إيحائية اللفظ وتكثيف التركيب، والتكثيف (خلافا لما يروج له البعض)، ليس مجرد اقتصاد في اللفظ، بقدر ما هو تركيب لفظي مركز خال من الإطناب والإسهاب والحشو، وذلك بهدف تعميق المعنى وتوسيعه في الوقت ذاته، حتى لكأن كل لفظة هي علامة مشحونة بالدلالة مغرية بالإيحاء.

 وهكذا يبدو أن النص السردي عند بلقيس بابو، شبيه بلوحة فنية يهيمن فيها الإنزياح التركيبي ، كما هو ظاهر في بنيات الجمل من خلال التقديم والتأخير ( خاصة تقديم المفعول على الفاعل)، ومن تردد الأساليب الإنشائية( النداء والاستفهام ).

وأكثر ما يقوي انزياحية اللغة السردية في نص “بلا وداع” مقارنة مع (عوالم مختلطة) هو ذلك الحضور اللافت لرمزية العناصر التي تحيل على حقل معجمي دال على الطبيعة (الشمس، المويجات، البحر، طائر الشاطئ)إذ تتحول الألفاظ إلى رموز دالة على التوق إلى الحرية والانعتاق من حضور الآخر باعتباره رقيبا مشوشا، بينما ترمز الرواية في نص (عوالم مختلطة) إلى الحياة التي تشغل الذات عن أن تعيش شرود الوحدة وهي تنصاع إلى متعة السفر الحالم إلى الأعالي.

وهذا الانصياع هو ما يبرر تردد التكرار بشقيه الدلالي [تحاورني/تناجيني/ تناديني في(بلا وداع) ]

و [لست بمفردي/ هناك من يطوف بي / كأنك معي في ( عوالم مختلطة )]، و كذا التكرار اللفظي [ خاطئ- تختفي..( بلاوداع) وكيف لي- لابد…(عوالم مختلطة )].

ينضاف إلى ما سبق ظاهرة التنويع على المستوى التقني والتي يدرجها البعض ضمن خصائص شعرية الخطاب، فالزمن لاينساب خطيا: ( كأنك معي الآن.. دلالة على الحاضر) و( تمر الأيام، أي حضور الماضي في الحاضر  و( الآن فرحتي.. أي في الحاضر )  وأخيرا (غادرتني – رحلت إلى الأبد…دلالة على  النكوس،مجددا إلى الماضي) وبذلك تتكسر رتابة الزمن  وتتعدد بفعل اضطراب الأجواء النفسية والانفعالية للساردة في تزامن ( synchronisation ) مع الفضاء ( المكاني)،  حيث يتعانق الفضاء بدلالتيه الحقيقية والمجازية، وذلك تبعا لتداخل المكان المحسوس (الفيزيقي) ممثلا في الشاطئ/ البحر/ الغرفة..الخ وهو فضاء ثابت لا يتغير،  مع الفضاء النفسي، وهو فضاء مرن متقلب بل ينتقل من الحالة إلى نقيضها فالبحر وشاطئه والغرفة فضاءات نصادفها في البداية معبرة عن الراحة والسكينة والحلم الجميل، قبل أن تتحول تدريجيا إلى فضاء تراجيدي قاتل في النص الأول وفضاء محبط باعث على الكآبة والغربة النفسية في النص الثاني. 

إذا ما أضفنا إلى كل ماسبق هيمنة العاطفة الجياشة عبر حضور الذات الساردة ممثلة بضمير الأنا في النصين وتوظيف معجم وجداني مؤثر (أحببتك)، مع مقاطع وصفية مؤثرة تشكل لحظة توقف ( pause) لحركية السرد،لتفتح المجال لوصف الشخصية (شاب على أعتاب الكهولة/ عيناه السوداوان/ ابتسامة آسرة) أو ترسم جمال الطبيعة ( الحصى الأبيض الناعم المتناثر)، فسيصبح  من الثابت أن خطاب السرد في قصص د.بلقيس أشبه بممارسة لعبة مرنة تتقنها بمهارة فائقة، إذ يتلون السرد ويتناغم تبعا للأجواء النفسية والانفعالية ( كما في بلا وداع) أو يهدأ وينساب في لحظات التأمل الذهني (كما في عوالم مختلطة ) مما يعزز الأبعاد الدلالية للنص ويشحن خطاب السرد بالمتعة الجمالية.

مقالات من نفس القسم